في عام 1989 رتّب المفكر العراقي الكردي فاضل رسول، حوارًا بين الإسلاميين والقوميين العلمانيين بالقاهرة في إطار جهوده للتقريب بين الطرفين على أرضية الرفض المتفق عليه لخضوع دول المنطقة للقوى الاستعمارية، قبل أن يغادر رسول مصر متجهًا إلى النمسا حيث كانت تنتظره هناك مهمة أخرى.

فقد دعم رسول الحوار والتفاوض بين النظام الإيراني والأكراد في إيران بزعامة الدكتور عبدالرحمن قاسملو، الأمين العام للحزب الديموقراطي الكردستاني في إيران (حدكا)، وهو حزب معارض محظور في بلاده. وكان بين قاسملو ورسول قواسم مشتركة شخصية وفكرية، فكلاهما كردي يحمل نفس الهم، وكلاهما درس ودرّس في الجامعات الأوروبية، وهما معروفان بمعاداة الصهيونية.

وعُرف قاسملو بأنه واقعي معتدل، يطالب بإدارة للحكم الذاتي للكرد ضمن الدولة الإيرانية، كما عمل بتدريس اللغة والثقافة والتاريخ الكردي في جامعة السوربون في باريس، وقاد حزبه منذ عام 1973 وجمع حوله آلاف المقاتلين الكرد من إيران، وخاض بهم نضالًا طويلًا ضد الحكومة المركزية.

توصل الطرفان إلى تفاهم تبدأ بمقتضاه مفاوضات حول الحكم الذاتي للأكراد، وتم اختيار فاضل رسول ليكون وسيطاً لهذا الحوار بين الحزب الديمقراطي الكُردستاني الإيراني ووفد الجمهورية الإيرانية في العاصمة النمساوية، فيينا.

لهذه الوساطة قصة؛ ففي يوليو/تموز 1989، طالبت إيران بانسحاب جلال طالباني، زعيم الحزب الوطني الكُردستاني، من المفاوضات بحجة أنه يُفشي أسرار التفاوض، فعرف الأخير أن الهدف من استبعاده هو رفع غطاء الحماية عن قاسملو. وحينها اتصلت إيران بفاضل رسول الذي اقترح بدوره توسط صديقه الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة ليحل محل طالباني، لكن الإيرانيين طلبوا لاحقًا من فاضل التوسط بنفسه بين الطرفين، فخشيت زوجته، الدكتورة سوزان، من نوايا طهران وعرضت أداء هذا الدور بنفسها لكن زوجها رفض ذلك.

في 13 يوليو/تموز 1989 الموافق أول أيام عيد الأضحى، وجد رجال الشرطة في فيينا في مساء ذلك اليوم باب شقة مفتوحا، وكانت الغرفة في حالة فوضى شديدة وكأنها شهدت قتالًا عنيفًا ساعة الاغتيال، ووجدوا في غرفة الجلوس في نهاية الممشى جثة فاضل رسول وعبد الرحمن قاسملو وعبدالله قادري آزر، ممثل الحزب الكردستاني في أوروبا.

من المثير أن الشقة التي شهدت الواقعة تملكها سيدة يهودية تُدعى ريتا تعرفت إلى فاضل في معهد العلاقات الدولية بفيينا، حيث كان فاضل يحاضر هناك، ويُقال إنها كانت على صلة مع أكثر من عنصر بالوفد الإيراني، واختفت بعد الواقعة ولم تُستدع لأي تحقيق.

أصيب خلال إطلاق النار أحد الإيرانيين، وهو محمد رحيم شهرودي، مساعد قائد فرقة كُردستان للحرس الثوري، وكان يتحرك بجواز سفر دبلوماسي باسم محمد جعفر صحرارودي، ولم يستطع الفرار بسبب إصابته فتم نقله إلى مستشفى وبعد تلقيه العلاج ذهب إلى السفارة، وسافر بجواز سفره الدبلوماسي إلى إيران، ولم تفلح مظاهرات الأكراد أمام السفارة الإيرانية في إقناع الحكومة النمساوية بمنعه من السفر.

وجّه الأكراد أصابع الاتهام إلى الإيرانيين، وتحديدًا محمود أحمدي نجاد، الرئيس الإيراني الأسبق الذي كان وقتها يعمل ضمن الحرس الثوري الإيراني، لكن الملف أغلق دون معاقبة القتلة، مما دعا أسرة رسول لتوجيه انتقادات للحكومة النمساوية بالتقصير في ملاحقة الجناة. ومع انتخاب نجاد رئيسًا للجمهورية لأول مرة عام 2005، تجددت الاتهامات الرسمية له، وأعلنت وزارة الداخلية بالنمسا أنها تملك وثائق تُدينه في هذه القضية.

اغتيلت حياة فاضل رسول بالرصاص، واستمر اغتيال سيرته ومشروعه الفكري بعد مقتله؛ فلم يوافق أي من الحزبين الكرديين الرئيسيين على الاهتمام بتراث الرجل وإبرازه للأجيال الكردية الصاعدة.

من هو فاضل رسول؟

ولد عام 1949 في محافظة السليمانية العراقية القريبة من إيران، وشارك مبكرًا في سن المراهقة في الحزب الشيوعي العراقي، واعتُقل وهو طالب بالمتوسطة (الإعدادية) بسبب هذا الانتماء.

ما لبث أن ترك الحزب لاحقًا ليؤسس تنظيمًا شيوعيًا آخر تحت مسمى «وحدة القاعدة» مع رفقاء له منهم عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء العراقي الأسبق، ثم انضم للحزب الديموقراطي الكُردستاني، وعقب انتهائه من الدراسة الجامعية ببغداد شارك في تأسيس حزب الاتحاد الوطني الكُردستاني في السبعينيات مع ابن عمه الكاتب الكردي المعروف، عز الدين مصطفى رسول.

سافر فاضل رسول إلى أوروبا الغربية حيث أكمل دراساته العليا فحصل على الدكتوراه في العلوم السياسية في برلين، وعُين أستاذًا في معهد العلاقات الدولية بجامعة لوكسمبورج.

وفي السبعينيات، مر فاضل رسول بتحولات فكرية جعلته يتحرر من الأطر التنظيمية ويقترب من الفكر الإسلامي، وانهمك في التأليف والترجمة والتواصلات الفكرية، وخلال هذه المرحلة أسس مجلة «الحوار» في باريس وفيينا، ثم مجلة «منبر الحوار» في العاصمة اللبنانية، بيروت، لتكون وسيلة لنشر أفكاره سواء بكتاباته الشخصية أو عن طريق نشرها لكتابات بأقلام كتاب متنوعي المشارب والمذاهب.

أفكار رسول

خلال مسيرة تقلباته التنظيمية ظل فاضل رسول محتفظًا بولائه الفكري للشيوعية بنسختها الماوية (نسبة إلى ماو تسي تونج، رئيس الصين بين عامي 1949 و1976)، إذ وقعت خلافات ذات طابع فكري وسياسي بين الشيوعية الصينية والسوفيتية، وكان الماويون ينظرون للسوفييت على أنهم إمبرياليون.

 لكن خلال الثورة الثقافية في الصين منذ عام 1966 وما صاحبها من فوضى واضطرابات، ثم وفاة ماو نفسه عام 1976 واتخاذ دولته من بعده اتجاهًا آخر تمامًا، وجد فاضل نفسه في حيرة من أمره بخاصة بعد غزو الصين فيتنام في أوائل 1979، وقبلها غزو فيتنام كمبوديا عام 1978، وكلها دول اشتراكية وشرقية.

ومع ذلك لم يكن هذا الانتقال سهلًا ولا سريعًا فقد حاول فاضل في أواخر السبعينيات الدفاع عن بعض المواقف الماركسية اللينينية الماوية تجاه الشرق وتمييزها عن الاتجاه الاستعلائي الغربي للشرق لكن ذلك كان خاتمة المحاولات التوفيقية بين الإسلام والماركسية بنسختها الماوية، وانحاز للأول واختار المفاصلة الكاملة مع الغرب بشقيه الرأسمالي والاشتراكي كليهما، وانضم إلى مدرسة الإسلام الحضاري وتقارب مع رموزها مثل محمد عمارة وطارق البشري وغيرهما.

وشهدت الثمانينيات ذروة تألقه؛ فقد حول مجلته إلى ما يشبه المنتدى الثقافي التحاوري بين أصحاب الاتجاهات المختلفة في المنطقة العربية، وطبع عددًا من مؤلفاته مثل من «تاريخ الحركة الثورية في ايران»، «النفط والثورة»، وترجم كتبًا فارسية مهمّة إلى العربية مثل «الحد الفاصل بين السياسة والدين» لرئيس الوزراء الإيراني بعد الثورة، مهدي بازركان، و«إيران غربة السياسة والثورة» لأبي الحسن بني صدر، أول رئيس لإيران.

ومن أشهر الكتب التي أعدها كتابه الشهير «هكذا تكلّم علي شريعتي» وهي دراسة مختصرة عن أفكار شريعتي، أبرز مفكري التيار الديني الثوري في إيران، وكان يناهض التعصب المذهبي الشيعي بنسخته الصفوية المغالية، ويدعو لتنقية التشيع من التأثيرات الصفوية الدخيلة.

وجاء هذا الكتاب وغيره كمثال عملي على رغبة فاضل في تعزيز حالة الحوار الثقافي والانفتاح بين أبناء المنطقة بخاصة وأنه تبنى توجهًا إسلاميًا شديد الانفتاح، في إطار فكرة الجامعة الإسلامية التي تسع جميع أبناء المنطقة على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم.

ومع تبنيه منهج مدرسة الإسلام الحضاري، ناهض التبعية للغرب والدعوات العلمانية الداعية لحصر الدين في المجال التعبدي والشعائري وفصله عن الدنيا، كما أكد أن الدين بطبيعته يرفض التطرف لأنه يخالف الفطرة الإنسانية السليمة.

وبناء على هذه الأرضية الفكرية اتخذ مواقف سياسية دفع ثمنها غاليًا في ما بعد؛ فقد عارض بقوة استمرار الحرب العراقية-الإيرانية، وتبنى الدعوة إلى نيل حقوق القوميات والطوائف داخل ايران. 

وكتطبيق عملي لأفكاره نظم فاضل عام 1989 مائدة حوار بالقاهرة، ضمت جمعًا من المفكرين العرب مثل محمد عمارة، وطارق البشري، وفهمي هويدي، وعصمت سيف الدولة، ومحمد سليم العوا، وعلي الدين هلال، وسعدالدين إبراهيم، في مبادرة اعتبرها المفكر اللبناني وجيه كوثراني (خليفة فاضل في رئاسة تحرير منبر الحوار) المحاولة التأسيسية للحوار بين الاتجاهات الفكرية والسياسية المختلفة في المنطقة بعد أن كان مجرد تخيل هذا المشهد أمرًا غير واقعي قبل ذلك.

وتجدر الإشارة إلى أن فاضل رسول لم يكن وحده في هذه المسيرة الفكرية بل كان ضمن تيار مثقف يسير بخطى واعية نحو اليمين شيئًا فشيئًا وفق مراجعات مستمرة ورؤية نقدية للأحداث السياسية المعاصرة كالحرب الأهلية اللبنانية، وعاشوا معًا جدالات ونقاشات أفضت بكثير منهم إلى الالتحاق بالإسلام الصاعد يومذاك كتعبير عن حالة حضارية نهوضية مقاوِمة، وفق تعبير سعود المولى.

ويذكر المولى أن كتابات أنور عبد الملك ومنير شفيق ومحجوب عمر ومحمد عمارة وعادل حسين وطارق البشري وعادل عبد المهدي وفاضل رسول وحسن حنفي وأحمد عباس صالح (وأغلبهم من الماركسيين الذين انتقلوا إلى أرض السلام انطلاقًا من مقولة تأسيس يسار إسلامي أو وجود يسار في الإسلام)، ثم كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، كل ذلك لعب دورًا مهمًا في تحديد سياقات وأطر تحولات هذا الجيل.

وتماهى هذا الجيل المثقف المنفتح على الإسلام الحضاري والسياسي مع أطروحة فرانز فانون القائلة بانقسام العالم إلى جنسين مختلفين: أبيض مستوطن وأسمر ملون، وبصفة عامة اتخذ هذا الجيل توجهًا معاديًا للغرب وعدائيته تجاه الشرق الإسلامي.

ويلفت المولى إلى أن تلك الفترة شهدت أحداثًا وظواهر سياسية مؤثرة كالثورة الإيرانية ذات الصبغة الإسلامية بالإضافة إلى عودة الإسلام السياسي إلى ساحة الفعل العربي مع تصاعد حدة الصراع العربي الإسرائيلي، وكذلك تصاعد حدة الأحادية الثقافية الإمبريالية الغربية في شيطنتها للآخر، المسلم أو الشرقي، مع تصاعد الأزمة العميقة التي ضربت الماركسية وأعجزتها عن أن تكون أداة نظرية لفهم الواقع أو تغييره، قبل سقوطها الأخير مع سقوط الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية.

القضية الكردية

انخرط فاضل منذ صغره في حركات التحرر الكردي، ولم يجعله تحوله الفكري يتخلى عن القضية الكردية بل نظّر لها من منطلقات أوسع، ليس كقضية تخص مجموعة سكانية بعينها بل ضمن سياق استراتيجي إقليمي وعالمي، فقد رأى أن هذه القضية ستظل منفذًا للقوى الدولية الاستعمارية الكبرى للتدخل في المنطقة وتقسيم دولها بخاصة العراق.

ورأى أن استغراق أبناء المنطقة في الصراعات الداخلية أورثهم ضيق الأفق وضعف الوعي بمخاطر الهيمنة الخارجية والمخططات الدولية، وشدد على ضرورة إيجاد حلول سلمية لمسألة الهوية القومية كالقضية الكُردية مثلًا، وإنهاء الصراعات الداخلية كشرط لسد الطريق التدخلات الخارجية، وبذل مجهودًا كبيرًا في محاولات حل القضية الكُردية في الدول المختلفة سلميًا، ضمن إطار وحدة المنطقة حضاريًا في وضع شبيه بالاتحاد الأوروبي حاليًا.

ومع أنه يطالب باستقلال أجزاء منطقة كُردستان وتوحيد الشعب الكُردي كشرط لتوحيد المنطقة حضاريًا في تنوع منسجم، لكنه رأى أن الحكم الذاتي خطوة جيدة لانعاش الثقافات المضطَهَدة مع عدم صلاحيته كحل نهائي للقضية القومية.

وخلص إلى أن الإسلام صاغ المنطقة صياغة حضارية ولم يلغ هوياتها المتعددة بل حافظت القوميات، كالأكراد وغيرهم، على شخصيتها في ظل الإسلام رغم وجود بعض الصراعات أحيانًا، مبينًا أن الأكراد لو تعرضوا إلى عُشر الظلم الممنهج الذي لاقوه على أيدي الدول الإقليمية العلمانية، في خلال 13 قرنًا، لربما كانوا انتهوا من الوجود تمامًا.