في 4 مايو 1978، برصاصات من مسافة صفر أطلقها عليه مجهولون حين كان يهم بمغادرة مصعد مسكنه بإحدى ضواحي باريس، مرتدياً عويناته السميكة، ممسكاً بمفكرة دوَّن فيها ميعاداً مع شخص مجهول أشار إليه بـ«الدكتور»، أسدل الستار على حياة هنري دانييل نسيم كورييل، أو كما عرفه رفاقه في الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني في مصر: «الرفيق يونس». تلك الرصاصات قيل إنها من خلية تعمل لحساب الموساد أو المخابرات الفرنسية أو حكومة جنوب أفريقيا العنصرية أو جماعة أبو نضال الفلسطينية، ولعل هذا التنوع بين الجهات المشكوك في صلتها باغتيال كورييل في مصعد المنزل الذي كان يقطنه بإحدى ضواحي باريس يُضفي المزيد من الألغاز على مسيرته التي ظلت لغزاً معقداً كتعقد المسار السياسي الذي اتبعه منذ انخرط فيه مطلع الأربعينيات من القرن الماضي.

وُلِد هنري كورييل في حي الزمالك عام 1914 حينما كانت الحرب العالمية الأولى ترسم مسارها. الأب دانييل نسيم كوري مصرفي يهودي، والأم زفيرا بيهار ذات الأصول التركية. تربى كورييل تربية برجوازية وقد التحق بمدارس الجيزويت وعاش حياة الترف التي تميزت بها حياة الأجانب في زمن الاحتلال الإنجليزي، إلى أن اعتلّت صحته فسافر إلى فرنسا عام 1937 ملتحقاً بأخيه راؤول ليبدأ التماس الأول له مع الماركسية. من هناك بدأ كورييل، وهناك ستكون نهايته.

يرتبط التأريخ لكورييل بدوره في إطلاق الموجة الثانية للحركة الشيوعية المصرية، بعد سنوات من وأد الحزب الشيوعي الأول عام 1924 ثم الضربات المتتالية لكل محاولات إعادة إطلاق النشاط الشيوعي المصري التي امتدت حتى مطلع الثلاثينيات. في الثلاثينيات، زمن صعود النازية، كانت مصر تخلو تقريباً من أي وجود شيوعي منظم؛ أعضاء الحزب الأول مشتتون وملاحقون ومعزولون، لينحصر الوجود الشيوعي في أوساط الجاليات الأجنبية دون أي أفق لتبلور جديد للشيوعية المصرية، حتى يبرز كورييل.

ضمن قلة من اليهود المتمصرين، أطلق كورييل نشاطاً شيوعياً عارماً جاء في جانب منه كرد فعل على التهديد الفاشي لليهود. بمزيج من المكر والقدرة على المناورة وتغاضي الاحتلال الإنجليزي جزئياً عن النشاط الشيوعي باعتباره يسهم في مناهضة الفاشية التي كانت تكتسب أنصاراً جدداً يومياً في الشارع المصري ونخبة السياسة على حد سواء. بمزيج من هذا وذاك، أسس كورييل منظمته، الحركة المصرية للتحرر الوطني (حمتو)، وقادها بقبضة لا تلين لتشكل رافداً رئيسياً في تاريخ الحركة الشيوعية المصرية وتتطور كتقليد نضالي وتنظيمي شديد الرسوخ في الهيئة السياسية لليسار الماركسي المصري.

إن الكتابة عن كورييل شائكة، لأنها كتابة عن شخصية تقاطعت مساراتها مع عديد من المصالح والجهات، وولدت سلسلة من ردود الأفعال ما زال صداها يتردد حتى يومنا هذا، وخلفت ركام من الأدبيات التي تتناول ما يمكن وصفه بظاهرة كورييل، ولعل من أشهر الكتب التي تناولت تلك الظاهرة من زاوية متعاطفة هو كتاب جيل بيرو «هنري كورييل رجل من طرازٍ فريد».

يقول بيرو على سبيل المثال: «لو أن كورييل كان قد ولد قبل عشر سنوات من تاريخ ميلاده لأصبح واحداً من سفراء الكومنترن الثوريين» وهو قولٌ فيه مبالغة واضحة، إذ إن كورييل ظل طوال سنوات حياته منبوذاً من الاتحاد السوفييتي ومن القطاع الأكبر من الحركة الشيوعية العالمية، حتى إن عبدالرحمن سلطانوف مستشار السفارة السوفيتية في مصر في الأربعينيات قام بصد كورييل حين حاول مد جسور التعاون مع السفارة وطالبه بأن تتوقف مكتبة الميدان التي أنشأها هنري بتمويل من والده عن بيع الكتب السوفيتية. لم يكتف سلطانوف بهذا، بل إنه كتب مقالاً بإحدى المجلات السوفيتية يؤكد فيه عدم وجود شيوعيين في مصر. ولعل علامات استفهام كثيرة قد أحاطت بمؤلَّف بيرو بخاصة في ما يتعلق بترجمته عن الفرنسية، وتحديداً في الطبعة المصرية من تلك الترجمة، ومدى تطابقها مع النص الأصلي.

ماركسية كورييل

يقول كورييل في مقتطفات من أوراقه وردت مجمعة في دراسة أعدها للنشر رؤوف عباس بعنوان «أوراق هنري كورييل والحركة الشيوعية المصرية»:

لكن التعاون مع الإنجليز أمرٌ مختلف تماماً، لم يكن هذا الموقف صادراً عن غريزة طبقية، فأنا لم أمتلك يوماً مثل هذه الغريزة، مع الانسحاب الأوروبي تجمع في مصر عديد من عملاء المخابرات، هل أحتاج إلى القول إنني لم أشعر نحوهم بأي نفور؟ يجب هنا أن أعترف بأمانة أن «الحقد الطبقي» تجاه «المستغلِين» ينعدم لدي، وبأنني كنت وللأسف لا أزال أميل إلى فهمهم.

ينتهي هنا الاقتباس من كورييل وهو لا يثير أي دهشة حين ندقق في حقائق أولها أن هنري هو ابن المصرفي اليهودي دانييل نسيم كورييل الذي وفدت أسرته إلى مصر حوالي عام 1850، درس كما أسلفنا في مدارس الجيزويت الأجنبية، وتربى على الثقافة الفرنسية، ليعترف هو بنفسه أنه كان «من الصعب على يهودي إيطالي تخرج في مدرسة فرنسية أن يجد نقطة ارتباط حقيقية في بلدٍ مسلم، وكانت فرنسا هي الوطن الوحيد الذي أشعر بالانتماء إليه» وقد عاش كورييل طبقاً لجيل بيرو في مواخير القاهرة حتى أصيب بمرض صدري نصحه الأطباء على إثره بالسفر للاستشفاء في فرنسا، وهناك كان تعرفه بالماركسية من خلال أخيه راؤول الذي احتك بالحزب الشيوعي الفرنسي في ظروف المد الفاشي الذي اجتاح أوروبا ووضع اليهود أمام تهديد جدي، ما جعل المناضل الماركسي الراحل ابراهيم فتحي يقول في كتابه «هنري كورييل ضد الشيوعية العربية» أن يسارية كورييل قد نشأت على «أرضٍ أخرى غير أرض الصراع الطبقي والوطني في مصر والوطن العربي».

وقد انعكس فهم كورييل للماركسية على الحركة المصرية للتحرر الوطني (حمتو) التي أسسها عام 1943 بعد خروجه من الاتحاد الديمقراطي الذي كان بمثابة القابلة التي منها نشأت المنظمات الشيوعية المصرية الوليدة في أربعينيات القرن الماضي. اتسمت حمتو بنسخة كورييلية من الماركسية، نسخة خلقت تياراً «يونسياً» في الحركة الشيوعية المصرية –نسبة إلى «يونس»، الاسم الحركي لكورييل– وهي نسخة أسهم في تكوينها بشكل بارز الشيوعي السويسري جورج بوانتي الذي كانت تجمعه بكورييل علاقة وثيقة منذ أيام الاتحاد الديمقراطي، قبل أن ينضم لقوات فرنسا الحرة بقيادة الجنرال ديجول ويموت في الجبهة.

كانت تعاليم بوانتي التي صانها «الرفيق يونس» تتضمن في جوهرها إهمال النظرية والتركيز على النشاط الحركي، وهي سمات ظلت ملازمة لحمتو وتيارها التاريخي في الحركة الشيوعية المصرية، فكانت كوادر حمتو شديدة النشاط لكن مستوى إعدادها النظري شديد الضحالة مقارنة بالمنظمات المنافسة «إيسكرا» و«تحرير الشعب». إضافة إلى هذه السمات كانت قدرة كورييل على عقد المحالفات –حتى غير المبدئية منها – شديدة الوضوح، تحالفات افتقدت مشروعيتها الماركسية في كثير من اللحظات ما دفع خصومه لنعته بـ«الانتهازية» ضمن جملة التهم التي دمغت كورييل طوال مسيرته.

كانت المعضلة الأساسية التي واجهت كورييل ورفاقه الأجانب هي: كيف يمكن الحديث عن حركة شيوعية يقودها أجانب ويهود في بلد مستعمر تهدد الصهيونية حدوده؟ لم يكن كورييل يستطيع التحدث بالعربية، لكنه كان على رأس التنظيم، فيقول جيل بيرو: «وفي اللجنة المركزية والسكرتارية، كان كورييل دائماً هو الذي يحرك الخيوط» وظل قادراً على الحفاظ على موقعه في وجه كل المطالبات بتمصير القيادة، وهي المطالبات التي تصاعدت بعد تأسيس الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) بتوحيد منظمتي حمتو وإيسكرا.

ولعله من المفيد المقارنة بين موقف كورييل ورؤية مارسيل اسرائيل مؤسس منظمة «تحرير الشعب» الذي يقول في محضر نقاش مع رفعت السعيد في كتابه «تاريخ الحركة الشيوعية المصرية 1940-1950»، إن قضية تمصير القيادة «كانت أمراً بالغ الحساسية بخاصة وأن الحركة الوطنية المصرية كانت تقف في وجه السيطرة الأجنبية عموماً»، ويضيف: «إن مشكلة مصرية القيادة هي مشكلة قديمة في مصر منذ الحزب الشيوعي الأول عندما رفض المصريون زعامة روزنتال».

وفي المنظمة الجديدة، فرض كورييل ليس فقط خطه السياسي بل وخطه التنظيمي، ولعل خطه التنظيمي ظل مثار جدل وحالة من الحالات المثيرة للدهشة في تاريخ الحركة الشيوعية المصرية، إذ اعتمدت حدتو ما يُسمى التنظيم الفئوي الموروث عن سلفها الحركة المصرية للتحرر الوطني. كانت الحركة مكونة من أقسام، قسم للعمال وقسم للطلاب وقسم للأزهريين وقسم للسودانيين وقسم لميكانيكيي الجيش وقسم للأجانب بداخله أقسام لكل جنسية وهكذا. كانت تلك الأقسام تبدو كجزر منعزلة لا كجزء من كيانٍ حزبي واحد، بل كانت حدتو أقرب لجبهة نقابية، جبهة تحالفية صاغها يونس ضمنت له سيطرة تنظيمية أكبر، جعلت رؤوف عباس يعلق في تقديمه لأوراق كورييل قائلاً: «لقد بدا الأمر كله وكأن حمتو – تنظيم كورييل – تريد احتواء الحركة الشيوعية المصرية».

تلك السيطرة التي شعر كورييل بما يواجهها من تهديد حين غمرت الوحدة التنظيم الوليد بمثقفي إيسكرا المنحدرين من المثقفين والطلاب الذين كان وجودهم يعني رفع الكفاءة النظرية للأعضاء المنحدرين من حمتو الذين كان تثقيفهم يتم على أيدي كورييل نفسه في عزبة والده بالمنصورية.

أما خطه السياسي فهو ما اشتهر في التاريخ الماركسي المصري بخط «القوات الوطنية الديمقراطية» وهو تقرير قدمه كورييل لحدتو كبرنامج سياسي وخطة بناء الحزب الثوري، وهو يقول عنه:

إن ظروف عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية قد خلق واقعاً جديداً جذب إلى العمل الثوري في مصر قوى طبقية غير عمالية، بمعنى أن الطبقة العاملة ليست الطبقة الثورية الوحيدة في مصر وإنما هناك قوات ثورية أخرى، ومع الاعتراف بقيادة الطبقة العاملة. يجب أن يكون الحزب حزباً لكل الجماهير الثورية – في إطار المرحلة – حزباً لمصر كلها، أي أن الشعب كله يجب أن يشعر أن الحزب ملك له وليس للعمال وحدهم.

هذا الفهم لقضية الحزب الثوري والنضال الجماهيري في مصر هو تحديداً ما قاد الحركة الشيوعية المصرية لمصارعها، ونظن أن الراحل ابراهيم فتحي قد جانبه الصواب حين وصف تيار كورييل بالهامشي في الحركة، فالواقع أن هذا التيار كان عميق الجذور، وقد بدأ تأسيسه برفض كورييل أي دور تأسيسي لمناضلي الحزب الشيوعي القديم – عبدالفتاح القاضي وشعبان حافظ والدكتور حسونة وصفوان أبو الفتح وعصام الدين ناصف – لأن هذا الدور كان ليفرض عليه منطلقات مغايرة وفهماً للماركسية نتج عن خبرة نضالية ثرية في سنوات الصعود ثم الهزيمة.

يطمس كورييل مفهوم الحزب اللينيني كطليعة للطبقة العاملة فيقول في فقرة من تقريره أن الحزب هو «حزب الطبقة العاملة والقوات الوطنية الديمقراطية» فيصبح الحزب أقرب للجبهة، وتلك كانت حدتو التي كانت أقرب لمنتديات الفضفضة التي تتنازعها التيارات اليمينية واليسارية، وفي هكذا إطار يصبح القول بقيادة الطبقة العاملة عديم المعني سياسياً إضافة إلى أن الواقع التنظيمي لحدتو كان يعوق صعود العمال إلى قيادة المنظمة ولعب دوراً فيها كما يؤكد مارسيل إسرائيل لرفعت السعيد، كونهم عمالاً، وكونهم مصريين، واجهوا حاجزاً برجوازياً أجنبياً.

ولعل حديث شهدي عطية لمارسيل يكشف ما كانت الكوادر المصرية تكابده: «هل يصح أن يكون هناك تنظيم شيوعي بحجم حدتو، ويلعب دوراً قيادياً في الحركة الوطنية المصرية، وله مثل هذا التأثير الكبير في أوساط الطلاب والمثقفين والعمال بل والفلاحين ويبقى على رأسه أجنبيان؟»، وهي الرؤية التي يعتقد كورييل أنها نابعة مما يعاني بعض أصحابها من «عقد» على حد تعبيره في مذكراته.

بالعودة لخط يونس، خط القوات الوطنية الديمقراطية، فإننا نرى انعكاسه في سياسة التهادن التي انتهجتها حدتو، ووصلت ذروتها في حل نفسها للانضمام للاتحاد الاشتراكي العربي باعتباره حزب «الاشتراكيين» جميعاً، دون أي تحليل طبقي أو اجتماعي ودون العمل على رسم خطوط التمايز عن الحليف الناصري، فالجبهوية التي كانت مسلكاً اعتيادياً لكورييل أثمرت عن تحالف من طرف واحد مع حليف لا يقبل بأقل من التسليم.

هنري كورييل والصهيونية

كان موقف الحركة الشيوعية المصرية من الاحتلال الإنجليزي واضحاً وحاسماً، وهو رفض الاحتلال وسلطته والمتعاونين معه من القصر إلى أحزاب الأقليات، وعلى أرضية هذا الموقف استطاع الشيوعيون لعب دور تاريخي في النضال ضد الوجود الإنجليزي في مصر، لكنهم حين برز التحدي الصهيوني في فلسطين اتخذوا خطاً شديد التناقض، وهو الخط الذي أملاه تحديداً كورييل من خلال نفوذه الضخم داخل الحركة.

منذ البداية –طبقاً لرؤوف عباس– اعتبر كورييل أن رفض الهجرة اليهودية لفلسطين يعد جزءاً من أيديولوجيا معاداة السامية، دون أي قدرة على تحليل موضوعي للظاهرة، وما إن أسست ايسكرا «الرابطة اليهودية لمكافحة الصهيونية» كرد فعل على تغلغل النفوذ الصهيوني في أوساط اليهود في مصر وتحديداً نادي مكابي الضاهر، حتى هاجم كورييل الرابطة كأحد تجليات معاداة السامية، وتلك السردية يؤكدها كلٌ من ابراهيم فتحي ورؤوف عباس، إضافة لحسين كفافي في كتابه «هنري كورييل- الأسطورة والوجه الآخر».

كان كورييل يتمسك بقميص عثمان، ويرفع في وجه كل نشاط معادٍ للصهيونية حجة أن الاحتلال هو المستفيد إذ يحرف النضال الوطني الموجه ضده إلى معاداة الوجود اليهودي في فلسطين، وظلت حمتو، ثم حدتو الخاضعة لكورييل، تقدم تحليلات عن المجتمع اليهودي في فلسطين، مجتمع الهجرة اليهودي، باعتباره مجتمعاً طبيعياً خاضعاً مثله مثل بقية البلدان الطرفية للاحتلال.

هكذا تناسى كورييل حقيقة هذا التأسيس اليهودي، وتجاهل حقيقة الاضطهاد الذي عانته الجماهير الفلسطينية على أيدي الصهاينة، وما إن يصدر قرار التقسيم حتى تبادر حدتو بتأييده بتأثير مباشر من كورييل الذي برر هذا التأييد باقتباسات من بيانات الخارجية السوفيتية عن الحل الممكن وليس الأفضل، وعن أولوية النضال ضد الإنجليز في فلسطين ومصر. غني عن الذكر أن هذا الموقف قد وضع الحركة الشيوعية المصرية بأكملها في ورطة، ليست فقط حدتو بل والمجموعات التي بقيت خارجها وعارضت التقسيم ووصفت الموافقين عليه بالتصهين، بل إن الموافقة على التقسيم كانت عاملاً حافزاً لجملة من الانقسامات التي كانت تختمر في بدن الحركة الديمقراطية، والتي كان أهمها التكتل الثوري بقيادة شهدي عطية.

الجدير بالملاحظة أيضاً امتداد هذا الموقف تاريخياً لما بعد خروج كورييل من مصر، ففي 1955 أصدر الحزب الشيوعي المصري الموحد الناتج عن وحدة حدتو مع بعض شظاياها السابقة بياناً يقول فيه:

ومن الواضح أنه اذا ما نجحت إسرائيل في التخلص من نفوذ الإمبريالية الأمريكية وحلفائها، وإذا نجحت الدول العربية في إقامة حكومات تمثل شعوبها فإنه سيصبح من السهل التوصل إلى حل سلمي يضع في اعتباره مصالح شعوب هذه المنطقة، وسيصبح من السهل القضاء على العنصرية التي تغذيها الإمبريالية وبدء عصر جديد من التعاون السلمي بين العرب وإسرائيل.

ولعل البيان لم يوضح كيف يمكن لإسرائيل التخلص من نفوذ الإمبريالية إذا كانت إسرائيل صنيعتها، لكن لأن كورييل منذ البداية اعتبر أن لليهود حقاً في إقامة وطن، واعتبر أن حرب 1948 «حرب إمبريالية ظالمة ضد دولة إسرائيل» فقد كان منطقياً أن يكون أساس التحليل الذي تتبناه حدتو هو أصالة الحق اليهودي.

الأخطر هو ما يرد في مراسلات مجموعة روما للحزب الشيوعي المصري، التي أوردها رفعت السعيد في تأريخه للحركة الشيوعية المصرية، ومجموعة روما هي المجموعة التي أسسها الشيوعيون اليهود الذين خرجوا من مصر بحلول 1950 واستقرت في روما قبل أن ترتحل لفرنسا، في تلك المراسلات لرفاقهم القدامى في مصر، بل ولجمال عبدالناصر، يحاجج يونس ورفاقه حول هذا الحق اليهودي بصراحة، بل ويعتبرون أن الدعاوى العربية بمحو إسرائيل هي دعاوى متطرفة ومسؤولة جزئياً عن التطرف في الجانب الآخر الإسرائيلي.

ولعل من أكثر ما بعث به كورييل صراحة حول الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي هو هذا الخطاب في أعقاب حرب عام 1967، وترد فقرات منه نقلاً عن النسخة الفرنسية لكتاب جيل بيرو في مقدمة كتاب ابراهيم فتحي سالف الذكر إذ يقول كورييل:

إن الجماهير الإسرائيلية لا ترى أن الحرب كانت عدواناً من جانب إسرائيل، بل نضالاً من أجل بقاء وطنها. وهل من المستطاع إذا راعينا العقل (الإنصاف) أن نطلب منها أن تعود إلى وضع تغامر فيه مرة أخرى بأن تكون مهددة بالإبادة؟ أي إلى وضع ينبغي عليها فيه أن تتخلى عن ثمار تضحياتها الهائلة دون أدنى مقابلٍ مماثل؟ لا يجب خداع النفس، فالجماهير الإسرائيلية لن تتخلى عن الأراضي المحتلة إلا مقابل سلام حقيقي وأمن حقيقي.

إضافة إلى ما سبق يمكن الإشارة إلى مجموعة كتابات هنري كورييل عن الصراع العربي الإسرائيلي، التي جمعها محمد يوسف الجندي في كتاب «من أجل سلام عادل في الشرق الأوسط» ويمكننا إيراد اقتباس واحد منه لإلقاء المزيد من الضوء على موقف يونس:

ولكن نضالنا من أجل إقامة علاقات صداقة مع الشعب اليهودي و(العربي) في إسرائيل لا يعني تقليل نضالنا ضد الصهيونية، وإنما يتطلب على العكس تقوية هذا النضال. فهذا النضال وحده سيمنع من الخلط بين حق الأمة اليهودية في إسرائيل أن تقيم دولتها المستقلة وبين الصهيونية!

كورييل في المنفى

خرج كورييل من مصر في 1950 على متن الباخرة سوريانتو، وواجه اختيارين، إما السفر لإسرائيل، أو ايطاليا، وقد اختار إيطاليا لأن سفره لإسرائيل كان يعني تقييد قدرته على المناورة والحركة، وقد أقام في إيطاليا لشهور ثلاثة حاول فيها الاتصال بالحزب الشيوعي الإيطالي دون جدوى، ثم تلقى إنذاراً من السلطات الايطالية بضرورة الرحيل أو الترحيل لإسرائيل، فهرب إلى فرنسا بجواز سفر مزور أعدته له زوجته روزيت العجم، ثم لحقت به هناك.

وفي فرنسا استقر به المقام، ومعه مجموعة روما التي مثلت حالة فريدة في تاريخ الحركة الشيوعية العالمية، لأنها كانت اسمياً ملحقة باحزب الشيوعي – حدتو، لكنها كانت عملياً توجه نشاط حدتو من الخارج وتملي المواقف والتحليلات، ومن خلال سيد سليمان رفاعي (بدر) قبل انشقاقه ونقده لكورييل، ومحمد شطا (حميدو) ومحمد خليل قاسم (عاكف)، استطاع يونس السيطرة على التنظيم، ويورد رؤوف عباس مجموعة من التقارير كتبها كورييل محللاً وضع الحركة وأزمتها وراسماً سياستها القادمة في فترة الخمسينيات العاصفة، كما يورد تشبث كورييل المستميت بوضع المجموعة، ومقاومتها لقرار حلها الذي كان أحد شروط الوحدة التي أبرمتها المنظمات الماركسية في 1958 لتأسيس حزب 8 يناير، فكان أن رضخ كورييل بعد لأي لقرار المكتب السياسي للحزب بحل مجموعة روما وقطع أي علاقات بين أعضائها والحزب.

اتسم وجود كورييل القلق خارج مصر بنشاط كثيف، نشاط على خلفية عداوة لا تحيد من الحركة الشيوعية العالمية ولعل أبرز محطات تلك العداوة هي قضية أندريه بوانتي العضو بالحزب الشيوعي الفرنسي الذي فصله الحزب على خلفية علاقته بكورييل وزوجته في فرنسا، العلاقة التي نشأت أثناء مرور بوانتي في مصر في الأربعينيات. وما يثير الدهشة هو أن كورييل استطاع الجمع بين دعم بقاء إسرائيل ومواقف كدعم الثورة الجزائرية، ولعل أغرب ما في قصة دعم كورييل لجبهة التحرير الجزائرية هو ما ذكره ميتشل أبيدور حول اقتراح كورييل الذي قدمه للإسرائيلي أوري أفينري بأن تقوم إسرائيل بتزويد الجبهة بالسلاح كي تثبت للعرب أنها ليست حليفة للإمبريالية، كما أن دعمه للثورة الجزائرية كان على أمل أن تقوم الثورة بعد انتصارها بإبرام السلام مع إسرائيل على أساس أن الحكام الرجعيين هم الذي يقفون عقبة في طريق السلام.

لم تقف أدوار كورييل في إقامته خارج مصر عند هذا الحد بل إن ثروت عكاشة يقول إن كورييل مرر من خلاله خطط العدوان الثلاثي لعبد الناصر. كما كان كورييل همزة وصل بين أعضاء في منظمة التحرير الفلسطينية وما يسمى القوى التقدمية في إسرائيل، وهي القوى التي تعتقد أن الحدود الطبيعية لإسرائيل هي حدود 4 يونيو 1967، فكان ترتيبه للقاءات بين عصام السرطاوي العضو البارز في المنظمة وهذه القوى، ولعل مشهد اغتياله وفي يده مفكرته وقد وضع إصبعه على صفحة بها ميعاد له مع شخص أشار له بالدكتور -يُعتقد أنه عصام السرطاوي– هو مشهد ختام لائق لكتلة من التناقض الحي شكلتها الظروف، أو المؤامرة كما يشير رؤوف عباس، أو التفرد بوصف بيرو، فأخذ من كل الأشياء نصفها: نصف شيوعي، نصف صهيوني، نصف مصري، نصف فرنسي، فكان شديد التأثير، لكن أثره كان شديد السلبية، وكان شديد الحضور، لكن حضوره ظل مثيراً لكل أنواع الريبة!