الخليج هبة النفط

على غرار مقولة هيرودت الشهيرة «مصر هبة النيل»، كانت مقولة «الخليج هبة النفط» هي الأوسع نطاقًا في الأوساط الخليجية. فالنفط كان أساس النهضة الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها الخليج العربي على مدى أكثر من نصف قرن، لينعم منذ ستينيات القرن الماضي في وفرات مالية لا حدود لها. لكن وإن كان الخليج هبة النفط والذي لا يزال ينعم بقدر هائل من الاحتياطات المخزونة في باطن الأرض والتي تكفي لأكثر من قرن قادم، فعلى مدى عقود طويلة مضت، لم تُحسن دول الخليج استخدام ثرواتها النفطية الهائلة.


الاعتماد المفرط على النفط

بدأت دول الخليج تجني ثمار الاعتماد المفرط على النفط في تمويل موازناتها.

خطورة السحب من الاحتياطات النقدية

ذلك الانخفاض الحاد في أسعار النفط العالمية -التي وصلت لسعر 30 دولارًا للبرميل بعد أن كانت تُسجل أكثر من 100 دولار قبل أقل من عام ونصف- جعل دول الخليج تعتمد على السحب من احتياطاتها النقدية التي قدرها البنك الدولي بنحو 904 مليار دولار وذلك بهدف سد عجز الموازنة. فخلال عام 2015 سحبت السعودية نحو 67 مليار دولار من احتياطاتها النقدية، وفقًا لبيانات مؤسسة النقد السعودي ووفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي.فلم تعد الاحتياطات النقدية لكل من السعودية والبحرين وسلطنة عمان النقدية تكفي إلا لضمان تحقيق توازن في الموازنة لمدة 5 سنوات فقط، وذلك في حال ظلّ سعر النفط عند 50 دولارًا للبرميل. ويتوقع الصندوق أن تكفي احتياطيات كل من الكويت وقطر لمدة 25 عامًا، والإمارات 30 عامًا.

من شأن لجوء دول الخليج إلى السحب من الاحتياطات أن يُقلل من درجة الملاءة المالية لها.

ومن شأن لجوء دول الخليج إلى السحب من الاحتياطات أن يُقلل من درجة الملاءة المالية لها، التي لطالما اعتمدت على احتياطاتها النقدية كحائط سد ضد الأزمات المالية العالمية. بالتالي فالسحب من تلك الاحتياطات بصورة مستمرة- بعد أن كانت حالة طارئة- يُعرض دول الخليج لمزيد من الأزمات خلال الفترات المُقبلة خاصةً في وقت تزداد فيه التوقعات بضعف مؤشرات الاقتصاد العالمي وإمكانية دخوله في حالة من الركود الاقتصادي.

وخفضت وكالة «ستاندرد أند بورز» للتصنيف الائتماني تصنيفاتها لكل من السعودية والبحرين وسلطنة عُمان، وخفضت الوكالة تصنيف السعودية درجتين إلى «A-» من «A+»، فيما شهدت البحرين خفض تصنيفها درجتين إلى BB من BBB-، في حين خفضت تصنيف سلطنة عمان درجتين أيضًا إلى BBB- من BBB+.وللسيطرة على الأوضاع المالية المتأزمة، اضطرت الحكومات الخليجية لإعلان خطط بديلة لتمويل العجز خلال الأعوام المُقبلة. فقد لجأت إلى تمويل العجز من خلال بيع السندات السيادية في أسواق أدوات الدين خلال العامين 2015 و 2016، حيث أصدرت السعودية سندات دين محلية بقيمة 31 مليار دولار خلال 2015، كما أصدرت كل من البحرين وسلطنة عُمان سندات تنموية حكومية بقيمة 3,9 مليار دولار وصكوك بقيمة 2,95 مليار دولار. وتتوقع بيوت المال أن يواجه الخليج تحديات إعادة تمويل ديون تُقدر بنحو 94 مليار دولار خلال العامين المُقبلين؛ حيث يحين استحقاق سندات تُقدر بنحو 52 مليار دولار، إضافة إلى قروض مجمعة بقيمة 42 مليار دولار.


المواطن الخليجي

للمرة الأولى يعرف المواطن الخليجي معنى السياسات التقشفية، بعد أن عاش في حالة من الترف على مدى العقود الماضية. فالآن على المواطن أن يدفع فاتورة الغاز والكهرباء دون أن تكون مُدعمة من الحكومة، وعلى المواطن أن يتحمل تكلفة علاجه، وعليه أيضًا أن يدفع ضريبة على دخله أو استثماراته أو مدخلاته الإنتاجية.

تطبيقها إجراءات التقشف لن يكون سهلًا على المواطن الخليجي الذي اعتاد أن ينعم بتوافر الرعاية الاجتماعية على كافة نواحي حياته

التقشف فى مواجهة الخلل

ورغم أن إجراءات التقشف لا تزال في مراحل الإعداد، فإن تطبيقها لن يكون أمرًا سهلًا على المواطن الخليجي الذي اعتاد أن ينعم بتوافر الرعاية الاجتماعية على كافة نواحي حياته المعيشية، فكان المواطن الخليجي ينعم بالوظيفة الحكومية براتب مُرتفع دون عناء البحث عن عمل بالقطاع الخاص. وبالإضافة لذلك، كانت حكومات الخليج تتحمل أعباء الدعم المخصص للخدمات العلاجية وأسعار الكهرباء والوقود والمواد الغذائية والمياه، فضلًا عن مجانية التعليم بكافة مراحله.

كذلك تبنى تدابير الإجراءات التقشفية دون أن يكون هناك سياسات واضحة لإمكانية توظيف الوفر المالي المتحقق من تلك التدابير؛ من شأنه أن يحمل آثارًا كارثية على الاقتصادات الخليجية. فرفع الدعم عن مواطن عاش مُرفهًا طيلة حياته يعني أعباءه المعيشية دون وجود بديل لزيادة دخله في وقت تتجه فيه الدول لترشيد أجور القطاع العام. كذلك فرض ضرائب إضافية على شركات وطنية ظلت لسنوات طويلة تتمتع بميزة تنافسية- متمثلة في انخفاض التكاليف- أعلى في الأسواق العالمية من شأنه أن يزيد من حجم مديونياتها بل وإفلاس بعضها.بالتالي، لن تصبح خطوات التقشف كافية لإصلاح الخلل في النظام الاقتصادي الخليجي ولن تُسهم بصورة كبيرة في تقليص العجوزات المالية التي ستتزايد حتمًا طالما ظلت أسعار النفط منخفضة وطالما ظلت حكومات تلك الدول تعتمد على النفط كمصدر وحيد لتوليد الدخل. لذا، لابد من تنويع مصادر الدخل من خلال رسم إستراتيجية جديدة يكون هدفها تقليص الاعتماد على العائدات النفطية بتلك الصورة التي تجعل موازناتها حساسة لتقلبات الأسعار في الأسواق العالمية.