هذا المقال يُنشر ضمن مسابقة «إضاءات» وأسبوع العلوم المصري للمقال العلمي/التقني.

(١)

المكان: استقبال الطوارئ بإحدى المستشفيات العامة المزدحمة.

على سرير متهالك، في غرفة يفوح بأجوائها مزيج قاتل من رائحتيْ العرق والدم، يرقد شاب لا يتجاوز عمره العشرين عامًا، يبدو من ملابسه المتهالكة والمتسخة بالدهان أنه يعمل بالنقاشة أو ما شابه. تتسارع أنفاس الشاب بشكل مخيف، ويتمثل فيه بشكل صارخ المثل الدارج (عَرَقُه مَرَقُه!). تربَّعت سيماء المرض على وجهه، فضاعفت عمره، وحملت نظرات عينه العابسة انطفاءة احتضار وشيك.

لا يستطيع أهله البسطاء ادعاء أنهم استوعبوا تمامًا ما قاله لهم ذلك الطبيب الذي أجرى للشاب منذ قليل أشعة على القلب. لقد سألهم بإصرار عن كونه يتعاطى المخدرات بالحقن، ثم أخذ يحدثهم عن بكتيريا خطيرة تجري في دم المسكين، وأنها التصقت بشريان القلب أو صمام القلب لا يتذكرون، وأن حالته خطيرة للغاية، ويحتاج للحجز بالرعاية المركزة وقد يحتاج جراحة! لا يستطيعون التصديق أو لا يريدون.

لقد كان شابًا قويًا، وصنائعيًا محترفًا، يحسده الكثيرون حتى شهرٍ مضى على فتوته. فجأة بدأ يشعر بإرهاق شديد أثناء العمل. فسرها بالإنفلوانزا، إذ ارتفعت درجة حرارته. مرت ١٠ أيام كاملة، ولا يجدي أي علاج مع هذه الحمى المستمرة. بينما أخذ جسمه في النحول بعد أن فقد شهيته.

دار به أهله على عيادات عدة أطباء. أعطوه تشكيلات مختلفة من الأدوية، وحقن المضادات الحيوية. لم يَشفِ لوعةَ الأهل المفطورين، أيةُ بادرة تحسن، أو حتى تفسير مقنع للحالة. بعد حوالي شهر، فوجئوا بآخر طبيب يكتب لهم على عجل ورقة، ويطلب منهم الانطلاق بالشاب فورًا إلى الطوارئ، بعد أن أخبرهم أنه سمع بالسماعة اضطرابًا خطيرًا في ضربات القلب.

لن تطول معاناة هذا الشاب كثيرًا، إذ سيتوفى بعد أسبوع في عناية القلب المركزة بالمستشفى بعد فشل شديد في وظائف عضلة القلب، وهبوط حاد بالدورة الدموية، ثم الوفاة.


(٢)

المكان: العناية المركزة بإحدى أكبر المشافي الخاصة بالبلاد

«جراحة القلب المفتوح لتغيير صمام تالف في القلب لا تمثل لنا أية مشكلة، فإمكانيات جراحينا لا غبار عليها. لكن حالته العامة ستجعل الجراحة في منتهى الخطورة، خصوصًا مع التسمم العام في دورته الدموية، والفشل الكلوي ..»

هكذا رد الطبيب على الأسرة المتذمرة من التدهور المستمر في حالة ابنهم المحجوز منذ أسبوعين بالعناية المركزة. لهذا الشاب تاريخ مرضي بتعاطي الحقن المخدرة منذ سنوات، تخلله محاولتيْن للإقلاع، لكنه كان ينتكس في كل مرة بتأثير أصدقائه.

منذ شهرين أصيب بضيق في التنفس، وارتفاع بدرجة الحرارة، مع سعال شديد، مصحوب بالكثير من البلغم. شخَّصه أول طبيب بنزلة شعبية حادة. تحسن جزئيًا بالعلاج، ثم انتكست الحالة بأشد مما فات. شخصه طبيب آخر بالتهاب رئوي شديد، وأعطاه قائمة علاج جديد، دون جدوى. بدأ يفقد الوزن، ويتغير لون بوله إلى الأحمر، ويتورم جسمه خاصة الساقين والوجه. فطلب استشارة تخصصات مختلفة، حتى انتهى به المطاف في استقبال الطوارئ بهذا المشفى الشهير.

أثبتت الموجات الصوتية على القلب وجود تجمعات بكتيرية كثيفة على الصمام الثلاثي الشرفات بالقلب، مما سبب تلفًا الصمام، وحدوث ارتجاعشديدللدم عبره، مما سبب فشلًا بوظيفة الجانب الأيمن للقلب. هذه التجمعات البكتيرية يتفتت منها أجزاء صغيرة لتصل من الجانب الأيمن للقلب، إلى الشريان الرئوي، إلى الرئة، فتسبب الالتهاب الرئوي الذي سبَّبَ أعراضَه. كما سببت السموم الناتجة عنها التهابات بالكلى، سببت حدوث البول المدمم، ثم فشل وظائف الكلى.

تم حجز المريض بالعناية المركزة، وإعطاؤه جرعات مكثفة من المضادات الحيوية قدر ما تسمح حالة الكلى المتدهورة. للأسف أثبتت مزرعة الدم للمريض أن البكتيريا المسببة لمرضه مقاومة لجميع المضادات الحيوية سوى واحد، يعيبه شدة سميته على الكلى!

استمر المريض في الدوران في حلقة مفرغة من التدهور،فاضطر الأطباءُ لإجراء جلسات من الغسيل الكلوي، ثم تم وضعه على جهاز التنفس الاصطناعي لأيام قليلة … ثم انتهى كل شيء.


وما أدراك ما القلب!

القلب .. مضخة سائل الحياة العتيدة التي لا تحتاج إلى تعريف. للقلب كما نعلم أربع غرف، الأذَيْنَان، والبُطَيْنَيان. يمر عبر صماماته كل ما نملك من دماء كل دقيقة. هذه الصمامات تحافظ على سير الدم داخل القلب في الاتجاه الصحيح، وعدم ارتجاعه للخلف. وبالتالى تستمر حيوية الدورة الدموية داخل القلب وخارجه. فمثلًا يستقبل الأذين الأيمن الدم الوريدي العائد من الجسم كله، ثم يرسله إلى البطين الأيمن عبر الصمامثلاثيالشرفات الفاصل بينهما. يمنع الصمام الثلاثي عودة الدم من البطين إلى الأذين ثانية، وبالتالي يستمر الاتجاه الصحيح للدم من البطين الأيمن للشريان الرئوي للرئتيْن، حيث يكتسب الأكسجين ويتخلص من ثاني أكسيد الكربون.

من منظور آخر، يتشكل القلب من ثلاث طبقات من الأنسجة من الخارج للداخل. الطبقة الخارجية epicardium المتصلة بغشاء التامور المحيط بالقلب، ثم الطبقة الوسطى myocardium التي تحتوي الكتلة العضلية للقلب التي تعمل المضخة بانقباضها وانبساطها، ثم الطبقة الداخلية endocardium والتي تبطِّن كل جدران القلب من الداخل، وتتكون من أنسجة طلائية ملساء؛ حتى لا تحتك بالدم داخل القلب وتثير الصفائح الدموية فتسبب تجلط الدم داخل القلب. ومن أهم مكونات الطبقة الداخلية كذلك صمامات القلب، هذه الطبقة الداخلية للقلب هي مثار اهتمامنا في هذا الموضوع.


في قلبنا … إنتان

إنتان الطبقة الداخلية للقلب أو infective endocarditis. واحد من أسوأ الأمراض التي يمكن أن تعصف بالقلب. لا نبالغ إذا قلنا أنه أشد خطورة، وأصعب علاجًا من أمراض الشرايين التاجية وجلطات القلب، رغم قلة حدوثه – لحسن الحظ – مقارنة بها. وهو مرض جهازي؛ أي لا يقتصر ضرره على عضو أو جهاز معين في القلب، فهو قادر على إيذاء عدة أجهزة حيوية في آنٍ واحد! وهو مرض مميت إذا لم يحصل حامله على رعاية طبية متقنة، وقدرٍ كبيرٍ من التوفيق.

في الأصل، القلب عضو داخلي مؤمَّن، من المفترض ألا يصل إليه البكتيريا أو غيرها من الملوثات وحاملات المرض. فهو ليس كالجلد، أو اللوزتينْ والجيوب الأنفية .. إلخ وغيرها من الأماكن المتصلة بالأجواء الخارجية. كما أنه في غياب أية مشكلات تركيبية في أنسجة القلب الداخلية، فمن الصعب جدًا على البكتيريا وإن وصلت إلى الدورة الدموية من أية نقطة دخول، أن تلتصق بأنسجة القلب الناعمة، لتبدأ تكاثرها، وإفرازها لسمومها. لهذا السبب كان كثيرًا ما يقتصر حدوث مرض الإنتان البكتيري للقلب على المصابين بأمراض تركيبية في القلب (كبعض العيوب الخلقية، أو الحمى الروماتيزمية التي تتلف صمامات القلب، أو الصمامات المعدنية التي تُستبدل بها جراحيًا الصمامات التالفة … إلخ) عندما تتمكن البكتيريا من التسلل إلى الدورة الدموية، أثناء خلع الأسنان مثلًا، أو إجراء منظار استكشافي أو تركيب جهاز للحقن الوريدي .. إلخ، وتلتصق بأنسجة القلب غير السليمة.

ما إن تستقر البكتيريا – أو غيرها من الملوثات كالفطريات- على أحد صمامات القلب، حتى تبدأ في التكاثر، وتكون مع بعض خلايا الدم التي تلتصق بها، وأنسجة الفيبرين،تجمعاتتشبهالجلطات تزداد في حجمها، حتى يمكن رؤيتها بجهاز الموجات الصوتية على القلب. تبدأ السموم التي تفرزها البكتيريا في إتلاف الصمام، كما أن زيادة التجمعات البكتيرية في الحجم تعوق حركة شرفات الصمام، فلا تستطيع إغلاقه بشكل تام، فتحدث ارتجاعات الدم عبر الصمامات.

كذلك فإن هذه التجمعات لا تكون متماسكة تمامًا، فتتفتت منها أجزاء ملوثة، وتسقط في مسار الدم، وهنا تتمثل الكارثة. فالقلب هو المضخة المركزية التي توزع الدم كل دقيقة على كل أجهزة وأنسجة الجسم. وهكذا تصل هذه الجلطات الملوثة إلى أجزاء عديدة، أخطرها المخ، فتسبب انسدادات في شرايين المخ، أو حدوث خراريجصديديةبالمخ. كذلك الكلى، والتي تستفز فيها هذه الأجسام الغريبة جهاز المناعة بشكل غير سليم، فيسبب أنواعًًامختلفةمنالتلففيالكلى، قد تنتهي بالفشل الكلوي التام. وكذلك قد يصل التلوث إلى الطحال، أو شبكية العين، أو الجلد، أو الأظافر، أو الرئتيْن …. إلخ. كما أن السموم التي تفرزها البكتيريا في موقعها الحساس داخل القلب، تسبب حالة من التسمم العام في الجسم، تضعف المناعة، وتسبب ارتفاع درجة الحرارة، وتسارع ضربات القلب والتنفس.

وحتى علاج الحالة يحمل أخطارًا على الصحة. فوجود التلوث في أعماق الجسم، وداخل القلب حيث حركة الدم السريعة التي لا تترك لأنسجته فرصة لامتصاص الأدوية، تجعل من الضروري استخدام جرعات ضخمة من المضادات الحيوية – لضمان وصول تركيز علاجي كافٍ منها إلى مكان الإصابة – قد تسبب إيذاء الكلى أو الكبد، وآثارًا جانبية عديدة.

وأيضا يتسبب تلف الصمام في أغلب الحالات في الدفع عاجلا أو آجلا لإجراء جراحة القلب المفتوح لاستبدال الصمامات، وهي ليست من الجراحات الصغيرة. كما أن الصمامات المستخدمة والتي غالبًا ما تكون معدنية، تحتاج إلى تعاطي دواء سيولة الدم طول العمر، فيظل المريض بين خطر السيولة الزائدة فالنزيف، وخطر السيولة الناقصة فانسداد الصمام وتجلط الدم عليه.


في البدء كانت حقنة

البكتيرياالعنقودية شديدة المراس أصبحت الآن داخل القلب، والسبب حقنة ملوثة!

يعتبر إدمان الحقن المخدرة من أخطر الممارسات على الصحة، خصوصًا وأن المواد التي يتم تعاطيها بهذه الطريقة من الأشد تأثيرًا كالهيروين … إلخ. ولأن آخر ما قد يهتم به المتعاطون هو القواعد الصحية العامة لتعاطي الحُقَن، مثل تطهير مكان الحقْن، واستعمال حقن معقمة، وعدم تبادلها ما بينهم، واستخدام ماءٍ معقم لحلِّ المادة المخدرة …إلخ، يشتهر بينهم الإصابات الخطيرة المنتقلة بالدم كالإيدز والفيروسات الكبدية … وكذلك القاتل المجهول لدى الكثيرين ..الإنتانالبكتيريبالقلبلمدمنيالحقنالمخدرة.

لهذا النوع من الإنتان، خطورة خاصة تتمثل في قوة البكتيريا التي تتسلل إلى القلب من خلاله، والتي غالبًا ما تكون من البكتيريا العنقودية، التي تشتهر بسلالاتها المقاومة للمضادات الحيوية، وكذلك قدرتها الخطيرة على النمو على الصمامات الطبيعية للقلب وإتلافها، وأيضًا السموم الشديدة التي تسبب تفاقمًا في الحالة الإكلينيكية للمريض، وتعرض الأجهزة الحيوية بالجسم للفشل، وكذلك صعوبة السيطرة على الحالة بالعلاج.

هذه المأساة التي لا تضرب غالبًا إلا الشباب في ريعان العمر، والتي تنتهي إما بظلمة القبر، أو قهر المرض المزمن، تستحق وقفة حازمة، أول الغيث فيها توعية النفس بإصرار، ثم من يحيطون بنا، ومن تصل إليهم كلمتنا. إذ لن يحذر الإنسان مما يجهل، وهو الذي يقع مرارًا وتكرارًا فيما يعلم!