«التعليم المبكر للأطفال».. جملة تواترت على مسامعنا في الآونة الأخيرة، وأثرت ساحات الحوار، ما بين مؤيد ومعارض، وآراء علمية وواقع عملي، نقف حائرين حوله بقرارات موقوفة على صورة منقوصة، لما تكتمل أركانها أمامنا بعد، فماذا نفعل؟

لن أقول لك الفرضية الصحيحة أو المعتقد الخاطئ، في النهاية أنا لا أريدك أن تتبنى آراءً لأن غيرك يُرجحها، بل أود أن تبني رأيك بنفسك، ولأن الحديث في هذا الباب واسع ويطول شرحه، فسأركز حول تعلم اللغة، قراءة وكتابة، في سن الطفولة المبكرة، أي ما قبل دخول المدرسة.


متى يبدأ الطفل رحلة التعلم؟

الطفل الذي ولد للتو فور اكتمال تشكيل جسده يمتلك عقلًا لا يدرك به ما يدور حوله، لذلك فهو قد أنهى المرحلة الجنينية لتكوين الجسد، لكنه الآن في المرحلة الجنينية لتكوين إدراكه العقلي، والتي تستمر حتى العام الثالث من عمره.

إذا تأملنا هذا الطفل الوليد فهو لا يستطيع فهم حديثنا ولا التواصل معنا بلغتنا، وكأن الله قد منحه حماية طبيعية ضد تدخل العنصر البشري لتكون الفرصة سانحة لعقله الناشئ أن يبني إدراكه ويتعلم بنفسه والاستعانة بما يحيط به في بيئته، بينما لا نستطيع نحن إخباره أو تعليمه أي شيء.

وعلى الرغم من أنه ظاهريًا لا يتلقى أي نوع من التعليم، فإن الدراسات العلمية أظهرت أن التشابكات العصبية في مخه تزداد منذ ولادته حتى تصل ذروتها في العام الثاني من عمره، بحيث تقارب عدد التشابكات في مخ الشخص البالغ، بل تزيد عليها أحيانًا، وهذا يدل على أن هناك عملية تعليمية تتم بالفعل داخل عقل الطفل، لكنها مختلفة في كيفيتها عن الفكرة التقليدية التي اعتدناها نحن من وجود طرفين للعلاقة: معلم ومتعلم، حيث نجد هنا أن الطفل هو المعلم والمتعلم في الوقت نفسه.

التشابكات العصبية في مخ الطفل منذ ولادته حتى بلوغه العامين وأكثر.

وكما يتشابه أطفال العالم في أطوار نموهم كأجنة داخل أرحام أمهاتهم،فإنهم يتشابهون أيضًا في أطوار نموهم في المرحلة الجنينية لتكوين العقل بعد ولادتهم، فجميعهم لا يستطيعون فهم لغة البشر، سواء كانت تلك اللغة هي العربية أو الإنجليزية أو الهندية، وجميعهم يشتركون في كونهم متعلمين ذاتيًا، متبعين في ذلك الفطرة التي فطرهم الله عليها من استيعاب سريع للمدخلات التي يستقبلونها من البيئة المحيطة بعناصرها المادية (محل الإقامة والوسائل المتوفرة به) والمعنوية (الأشخاص والمواقف التي يتعرضون لها).

بتمام العام الثالث نجد أنفسنا أمام طفل يتحدث بلغة أبويه كلغة أم له، ويعبر بها عن نفسه بشكل يثير الدهشة، فبمقارنة قدراتنا العقلية كبالغين بقدرات ذلك الطفل الصغير العقلية وقت ولادته، فنحن نحتاج إلى ستين عامًا لنحقق ما استطاع هو تحقيقه بنفسه في ثلاث سنوات!

وبإمعان النظر فيما قدمناه نحن له من مساعدة، فدورنا في اكتسابه للغة لم يتعد تحدثنا معه بحديث صحيح من ناحية اللغة والقواعد ليستوعبه هو ويتحدث به دون أن يفصل الكلمات إلى أحرف، ولا أن يعرب الجمل ليضبط تشكيلها، وبالتالي فنحن في الواقع لم نعلمه شيئًا، بل هو استخدمنا كأحد عناصر بيئته ليستوعب اللغة ويتعلمها بنفسه، شأنها شأن سائر المهارات الأخرى التي يكتسبها خلال ذلك الوقت.


ولادة جديدة في حياة الطفل

عند ولادة الطفل للمرة الأولى من رحم أمه فإنه سريعًا ما ينسى ذكرياته بداخله، لكنه يظل محتفظًا بنتائج تلك الفترة التي تتمثل في تكوينه الجسدي، والذي يستمر في التطور والنمو لأعوام لاحقة.

يحدث هذا بالمثل في المرحلة الجنينية لتكوين الإدراك العقلي، تقول ماريا منتسوري إن الطفل بتمام عامه الثالث يبدو أنه يولد من جديد، سريعًا ما ينسى ذكرياته في سنوات حياته الأولى[1] لكنه يظل محتفظًا بذكائه الذي قام باكتسابه طوال تلك الفترة، والذي يستمر في التطور والتحسن لأعوام لاحقة.

بعدها يدخل الطفل في المرحلة الجنينية الثالثة والخاصة بتشكيل شخصيته وصقلها، فبينما كان الطفل مستوعبًا –بلا وعي منه– لبيئته المحيطة في الثلاث السنوات الأولى من عمره، فإنه يظل محتفظًا بقدرته الهائلة على الاستيعاب في الثلاث السنوات التي تليها، إلا أنه يمتلك الآن الدافع الذي يوجهه لتعلم ما يرغب فيه ويعبر عن شخصيته.

بمعنى آخر، في الفترة الأولى كانت الفطرة الطبيعية بداخله هي صاحبة اليد العليا في توجيهه لاستيعاب ما يحتاجه من بيئته لتطوير مهاراته، وبالتالي فالأمر لم يكن تحت سيطرته بشكل كبير. بينما في الفترة الثانية تتدخل دوافعه الذاتية في اختيار ما يريد تعلمه، متأثرًا بالبيئة حوله، نجد مثلًا أن الطفل الذي يجد أباه رياضيًا، يميل لتعلم الرياضة مثله كونه محاطًا بأجهزة رياضية في بيئته.

والذي يجد أمه موسيقية يميل لتعلم الموسيقى مثلها، كونه محاطًا بآلات موسيقية تشجعه على استخدامها، وبهذا يمكننا القول أيضًا إن الطفل الذي يجد نفسه في بيئة غنية باللغة وبرموزها المكتوبة سيميل لتعلم القراءة والكتابة في هذه المرحلة من حياته، سيعتمد في ذلك على حصيلته التي اكتسبها في الفترة السابقة ليطورها ويحسن مستواها في هذه الفترة، وبما أن التعلم هنا نابع من رغبته الذاتية، فهو يفعل ذلك بسرعة وذكاء ودون مشقة وعناء.


كيف يتعلم الطفل اللغة؟

المرحلة الأولى: الاستماع

تبدأ مرحلة تعلم اللغة[2] منذ ولادة الطفل –وربما قبل ذلك– وتبلغ ذروتها في العام الأول من حياة الطفل، حيث يختزن الطفل حصيلته اللغوية عن طريق الاستماع المباشر للأشخاص المتحدثين بها، لتتكون في عقله بؤرة خاصة بكل لغة يتعرض لها، يعتمد عليها لاحقًا في تعلمه لقواعدها.

في هذه الفترة يجب التحدث إلى الطفل باستمرار بلغة واضحة صحيحة وقواعد سليمة، فالطفل الذي يخبرنا ببراعة: «أريد الذهاب إلى جدي»، ولا يقول: «جدي إلى الذهاب أريد»، لم يفعل ذلك لأنه يدرك قواعد اللغة، بل لأن عقله استوعبها بطريقة صحيحة في سنواته الأولى، وبالتالي يسهل عليه لاحقًا تعلم تلك القواعد بشكل أكاديمي.

في السنوات الأولى من حياة الطفل يكون اكتساب اللغة تلقائيًا دون وعي منه، فما يسمعه هو ما يردده، لا أحد يرغب في تعليم طفله الكلام البذيء بالتأكيد. إذن، من الذي علمه أن يتفوه به؟

الإجابة: لا أحد، هو تعلم بنفسه مما سمعه في محيطه. من سن 3-6 سنوات تتدخل الرغبة الواعية للطفل في تطوير مهارته اللغوية، فنجده يسأل عن أسماء بعينها ومصطلحات بعينها ليتعلمها، أو يُبدي نهمًا لتعلم أي مفردات جديدة بشكل عام، فيختزنها ويرددها سريعًا فور تعرضه لها.

المرحلة الثانية: التحدث والممارسة

تبدأ هذه المرحلة في العام الثاني تقريبًا من حياة الطفل، حيث يخوض تحدي أن يعبر عن احتياجاته وأفكاره ويتواصل مع الآخرين معتمدًا على حصيلته اللغوية التي ما زالت تتطور بالتوازي مع هذه المهارة الجديدة، وتستمر طوال فترة طفولته.

في هذه الفترة يحتاج الطفل للتواصل المباشر والإيجابي مع شخص حقيقي متحدث باللغة، شخص يصحح له مخارجه وقواعده، ويثري حصيلته، ويكسبه مهارات التواصل والحوار، لذلك لا يمكن الاعتماد على الشاشات الإلكترونية في إكساب الطفل اللغة.

المرحلة الثالثة: إدراك الأصوات وتحليلها

يمكن أن تبدأ هذه المرحلة في العام الرابع من حياة بعض الأطفال أو بعد ذلك، وتنتج من ملاحظة الطفل الواعية للكلمات التي يسمعها وينطق بها، فيدرك مثلًا أن الصوت الذي تبدأ به كلمة ساعة هو نفسه الذي تبدأ به كلمة سيارة، أو أن الأصوات في كلمة جمل تشبه تلك التي في كلمة عمل، تلك الاكتشافات المتوالية التي يكتشفها بنفسه تشحذ شغفه وهمته لتحسين مهارته اللغوية، وفي وجود بيئة غنية برموز اللغة المكتوبة –كطفل يتعرض لقراءة الكتب بصفة دورية مثلًا- نجد العديد من الأطفال يهتمون بتعلم الأصوات التي تعبر عنها تلك الرموز ويستوعبونها بسهولة، كونهم أدركوا الأصوات نفسها قبلًا.

المرحلة الرابعة: بناء كلمات مكتوبة

فكما رأينا آنفًا أن الطفل يبني حصيلته اللغوية من الكلمات أولًا في المرحلة الأولى ليستخدمها في التعبير عن أفكاره في المرحلة الثانية، نجد أن التسلسل الطبيعي هنا بعد أن يتعلم الطفل حصيلته من أصوات الحروف، أن يعبر بها عن أفكاره عن طريق بناء كلمات مكتوبة، ولا أقصد هنا الكتابة بالقلم، فربما هو ليس مستعدًا للإمساك بالقلم بعد، لكنه يستطيع أن يرتب بعض الأحرف الممغنطة ليكوّن كلمة مكتوبة تعبر عن فكرة ما بعقله، ثم يقرأها بنفسه ليتأكد من صحتها.

المرحلة الخامسة: القراءة

يمكن أن تبدأ هذه المرحلة مع المرحلة السابقة أو أن تليها، ويبدأ الطفل بقراءة كلمات بسيطة، وكلما نجح في قراءتها وفهمها شكّل هذا حافزًا له وتحديًا لقدراته ليحقق ما هو أصعب من ذلك، فيستمر في صقل مهارته حد الإتقان، وهذه فطرة النفس البشرية السليمة.


السن المناسبة لتعلم القراءة والكتابة

نرجع الآن لإشكالية السن المناسبة لتعلم القراءة والكتابة، حيث تؤيد الأبحاث العلمية ألا يتعرض الطفل لأي تعليم أكاديمي قبل العام السابع من عمره، بينما يرى البعض أنه من المفيد للطفل تعلم هذه المهارة في سن ما قبل المدرسة، وهو المتبع في أغلب بلادنا العربية في مؤسسات رياض الأطفال. ولكي نحسم هذا الأمر، يجب علينا تحديد عدة نقاط:

1. كيفية سير العملية التعليمية

اتفقنا سابقًا على أن الطفل في سنوات طفولته المبكرة يتعلم ذاتيًا بما وهبه الله من فطرة استيعاب بيئته، فهو يتعلم بالملاحظة والمحاكاة والتجربة والخطأ، يستخدم حواسه في التعلم، ويعتمد على عضلات يده وجسده في التعبير عن ذكائه العقلي وفي صقل مهاراته الشخصية، وبالتالي فإن الفصل الذي يحدد للطفل مقعدًا ثابتًا يوميًا لا يبرحه إلا في وقت الفسحة، أو الفصل الخالي من المحفزات والوسائل عدا السبورة والأوراق والأقلام، أو الفصل الذي لا يوفر خبرات حية حقيقية متنوعة للطفل، هو بالتأكيد لا يصلح للأطفال في سن الطفولة المبكرة.

2. القائم بالعملية التعليمية

بناء على النقطة السابقة فإن القائم بالعملية التعليمية في الأصل هو الطفل وليس المعلم، بينما دور المعلم هو متابعة سير العملية التي يقودها الطفل، وتيسيرها بترتيب البيئة وإمدادها بالوسائل المساعدة له، وإزالة العقبات التي يمكن أن تواجه الطفل أو تذليلها، وبالتالي فدوره هنا مرشدًا وليس معلمًا بالمعنى الحرفي، وهكذا يتضح أنه لا يصح إطلاقًا أن يكون المعلم في الفصل هو محور انتباه الأطفال، وهو الذي يلقنهم المعلومة بمعدل ثابت وحسب جدول ثابت دون مراعاة للفروق الفردية والتفضيلات الشخصية والميول المزاجية لهم، ما أعتبره تعديًا صريحًا على حريتهم التي حباهم الله بها.


متى نبدأ تعليم القراءة والكتابة؟

رسوم توضيحية, تشابكات عصبية
رسوم توضيحية, تشابكات عصبية

الواقع العملي يخبرنا أن الطفل بإمكانه أن يتعلم القراءة والكتابة في التعليم النظامي في سن الحضانة، ونهج منتسوري يخبرنا بالنتيجة نفسها تقريبًا، ولكن ما الفرق؟

إنه نفس الفرق بين دراستنا الإلزامية في الجامعة التي حددها لنا مجموع الثانوية العامة خلافًا لرغبتنا، والدورات التعليمية التي سجلنا أنفسنا فيها بإرادتنا خارج إطار التعليم النظامي لأنها تشبع شغفنا وتثير اهتمامنا، ربما حققنا نجاحًا كبيرًا ظاهرًا للعيان في الاثنين، لكن واحدًا فقط منهما يمكننا أن نبدع فيه ونتطور لمستويات أعلى بنفس راضية ونفسية سعيدة، وواحدًا منهم فقط يرتبط دائمًا في ذاكرتنا بمشاعر إيجابية محفزة.

يمكنك أن تساعد طفلك على التعلم في سن مبكرة بالتأكيد، السؤال هنا كيف ستفعل ذلك؟ لنا حديث في مقال آخر.

المراجع
  1. منتسوري، ماريا، العقل المستوعب، The Theosophical Publishing House، 1949، ص238
  2. منتسوري، ماريا، العقل المستوعب، The Theosophical Publishing House، 1949، الفصل الخامس one plan, one metthod