في بدايات القرن العشرين، عايش الاقتصاد الدولي حالة من الانتعاش والتوسع في الإنتاج والتجارة العالمية صاحبه تدفق حر للسلع والخدمات وارتفاع في مستويات المعيشة في أوروبا وأمريكا الشمالية بوتيرة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية.

لكن الأمور دائمًا لا تسير على خط واحد، انهار الاقتصاد الدولي خلال عقد الكساد الكبير، مما أثر في النظريات والسياسات الاقتصادية طوال العقود التالية.

ومنذ ذلك الحين، وقع العالم في شِراك أحداث اقتصادية كانت بمثابة صحوة وفرصة لإعادة هيكلة الأفكار والأيديولوجيات، وسببًا في ظهور قوى كبرى كالاتحاد الأوروبي والصين وسقوط قوى أخرى.

1. الكساد الكبير

مرت الولايات المتحدة بفترات كساد متقطعة غير أن الكساد الأكبر على الإطلاق من حيث النطاق الذي شمله والفترة التي استغرقها هو ما شهدته في عام 1929.

فخلال السنوات الأربع الأولى من الكساد، تقلص الاقتصاد الأمريكي بنسبة 50%، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي إلى النصف من 105 مليارات دولار في عام 1929 إلى 57 مليار دولار فقط.

كما أدى الكساد وركود السوق إلى تراجع أسعار السلع بنسبة 27% بين العامين 1929 و1933، مما تسبب في إفلاس العديد من الشركات. بينما بلغ معدل البطالة ذروته عند 24% في عام 1933. إضافة إلى إفلاس الملايين من الناس، نظرًا لضياع مدخراتهم نتيجة لإفلاس أكثر من 3000 بنك.

لم تتحمل الولايات المتحدة وحدها تبعات الكساد العام في أوائل الثلاثينيات، فقد نالت كل دولة من الدول الصناعية نصيبها من تراجع الأسعار وازدياد البطالة وانخفاض الإنتاج الصناعي، لا سيما الدول الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا، أما ألمانيا فقد شهدت انهياراً اقتصادياً مدوياً كان سبباً هاماً في صعود هتلر بعد ذلك.

حتى الدول النامية عانت من آثار الكساد، فقد انخفضت أسعار السلع الأولية المتداولة كالبن والقطن والمطاط والحرير بمقدار النصف تقريبًا في الأسواق العالمية، وهو ما انعكس سلبياً على اقتصادات الدول النامية المصدرة لتلك السلع.

اهتزت الثقة في الرأسمالية غير المقيدة، وتراجع الإيمان المطلق بقدرة الرأسمالية على إصلاح نفسها عبر يد خفية كما سماها آدم سميث، الأمر الذي شجع التدخل الحكومي في ضبط الأسواق في العديد من البلدان خاصة في أسواق الأوراق المالية. وبدأ الاتحاد السوفيتي في الظهور كتجسيد ملموس للتجربة الاشتراكية الداعية لتدخل الدولة في تقسيم الثروات، وتمددت الأفكار الشيوعية في قلب الدول الأوروبية.

الأمر الذي دفع الإدارة الأمريكية لاتباع سياسة «النيوديل»، المعتمدة على النظرية الكينزية في الاقتصاد، والتي استندت إلى زيادة الأشغال العامة ودعم المنتجات الزراعية وخفض ساعات العمل، وزيادة الضرائب على الأشخاص الأكثر ثراءً والاستفادة من العائد منها بهدف توفير السلع للفئات الأفقر، الأمر الذي عزز من نمو الناتج المحلي حتى قفز بمتوسط 10% خلال الفترة من 1934 إلى 1937.[1]

2. مشروع مارشال

يجب ألا تنسى الولايات المتحدة أن الاتحاد الأوروبي الناشئ هو أحد أعظم إنجازاته، فإنه ما كان ليحدث لولا خطة مارشال.
المستشار الألماني السابق هيلموت شميدت في مجلة فورين أفيرز.

خرجت أوروبا من الحرب العالمية الثانية تعاني الدمار والتدهور الاقتصادي والصناعي، فكان مشروع مارشال بمثابة قبلة الحياة التي أعادت الروح للقارة الأوروبية. وذلك حين وقع الرئيس الأمريكي «هاري ترومان» على قانون التعاون الاقتصادي الذي من خلاله تم نفيذ خطة مارشال في 3 أبريل/نيسان 1948[2].

والذي تم من خلاله ضخ 600 مليون دولار كمساعدات لإعادة التعمير ودعم اقتصاد الدول الأوروبية، وإنقاذها من خطر الوقوع في الشيوعية. صاحبها برامج أخرى لخفض الديون المستحقة على هذه الدول والتنازل عنها، وتفعيل آليات مالية وإدارية لرفع كفاءة المساعدات وحسن استخدامها.

كان التأثير طويل المدى لخطة مارشال منعكسًا على الصناعة بالمقام الأول. إذ خلال السنوات الأربع من بداية المشروع من 1948 إلى 1951، ارتفع الإنتاج الصناعي في أوروبا بنسبة 36%.

إضافة إلى ذلك، فإن مشروع مارشال قد خلق آلية لا يزال معمولاً بها في الاتحاد الأوروبي إلى الآن، ألا وهي إمكانية تبديل دولة أوروبية عملتها بحرية تامة مع الدول الأخرى، لتحل بذلك محل النظام القديم لضوابط الصرف الثنائية السائدة في فترة ما قبل الحرب، وتعد هذه الآلية اللبنة الأولى في إنشاء اليورو.

وبهذا يكون المشروع قد أرسى العديد من الأسس التي مثلت تمهيدًا لقيام الاتحاد الأوروبي الذي تأسس فيما بعد بناءً على معاهدة ماستريخت في عام 1992.

وقد دخل برنامج الإنعاش الأوروبي المعروف باسم مارشال، التاريخ كأنجح مشروع في السياسة الخارجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية. حتى أصبحت أسطورة مشروع مارشال، رمزًا لإعادة الإعمار إلى يومنا هذا.[3]

3. أزمة النفط في السبعينيات

عانت الولايات المتحدة والقارة الأوروبية خلال فترة السبعينيات من القرن العشرين من «أزمة طاقة» كتبت نهاية ثلاثين سنة من النمو والازدهار الاقتصادي، القائم على أسعار الطاقة الزهيدة مما ساهم في خلق إنتاج وفير وتوظيف كامل للقوى العاملة؛ إلا أن ذلك كله انتهى حين قفز سعر برميل النفط من حوالي 3.6 دولار في عام 1972 إلى 25 دولاراً للبرميل في عام 1979.

بدأت القصة عندما فرض المنتجون العرب ضمن منظمة الدول المصدرة للبترول «أوبك» حظرًا على صادرات النفط إلى الولايات المتحدة في أكتوبر 1973. وذلك كرد من الدول العربية بقيادة السعودية على دعم الرئيس الأمريكي «ريتشارد نيكسون» لإسرائيل.

فكان الحظر المفروض على النفط سببًا في ارتفاع أسعار السلع بداخل الولايات المتحدة حتى وصل إلى 10% بالنسبة لبعض السلع الأساسية. كما ساد الركود نظرًا لارتفاع أسعار الطاقة.

الأمر الذي زاد الطين بلة كان إقدام الرئيس الأمريكي نيكسون مطلع السبعينيات على إلغاء نظام (بريتون وودز) الذي حافظ على تثبيت أسعار العملات العالمية وربطها بالدولار الأمريكي المقيم بالذهب، الأمر الذي أدى إلى انهيار واسع في قيمة مختلف العملات وارتفاع مستويات التضخم حول العالم.

نتيجة لذلك حدث انخفاض حاد في نمو الناتج الإجمالي العالمي في عام 1973 بنسبة 4%، وفي العامين التاليين، استمر النمو العالمي في التراجع لأكثر من 6%. في المقابل شهدت الدول المنتجة للنفط وعلى رأسها الدول العربية انتعاشاً اقتصادياً كبيراً مدفوعاً بتضاعف الموارد.

ساهمت هذه الأزمة في تحويل السياسة الأمريكية إلى اليمين في سبعينيات القرن الماضي، ووضعت بذلك حدًا للنظرية الكينزية كنظرية مهيمنة على الاقتصاد الغربي، وحلت محلها النيوليبرالية كبديل أيديولوجي يدعو إلى حرية السوق وتقليص دور الدولة في المجال الاجتماعي، وسارت على دربها بقية الدول الأوروبية في محاولة منهم لتدارك الأزمة.[4]

4. تحول دينج شياو بينج

قبل أكثر من أربعين عامًا، وضع الزعيم الصيني دنغ شياو بينغ الصين على مسار جديد حين عقد اجتماعًا قياديًا بعد وفاة الرئيس ماو تسي تونغ في 18 ديسمبر/كانون الأول 1978.

إذ تخلت الصين تحت قيادته عن القيود الأيديولوجية للماضي واعتنقت السياسات القائمة على التطبيق العملي والخبرة تحت شعار «الإصلاح والانفتاح».

فقد كانت لديه رغبة ملحة في تطبيق نظام اقتصاد السوق وإخراج الصين من عزلتها الاقتصادية، لكن مع الحفاظ في الوقت ذاته على ثوابت الصين الاشتراكية. لذا خلق توليفة بين اقتصاد السوق والاقتصاد الاشتراكي أطلق عليه مسمى اقتصاد السوق الاشتراكي.

عمل دينغ على تخفيف مركزية الدولة في الاقتصاد، وبالتزامن مع ذلك اتجه إلى انفتاح العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة وبقية دول العالم. تمكن من خلال ذلك من زيادة الاستثمار ورفع حصة القطاع الخاص في المشاريع المشتركة مع المؤسسات الأجنبية، الأمر الذي فتح ملايين الفرص أمام الشعب الصيني وشجعه على المزيد من الإنتاج والعمل.

ونتيجة للتحول نحو الإصلاح والانفتاح وزيادة المشاركة مع المجتمع الدولي، تمتعت الصين بفترة رائجة من التنمية الاقتصادية والاجتماعية لم يسبق لها مثيل في تاريخ العالم.

وهو ما أشار إليه رئيس البنك الدولي «جيم كيم» في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، حين قال:

زادت الصين من نصيب دخل الفرد 25 ضعف ما كان من قبل، وانتشلت أكثر من 800 مليون صيني من الفقر نتيجة لذلك، أي أكثر من 70% من إجمالي الحد من نسب الفقر في العالم.

فباتت الصين اليوم هي واحدة من أكبر اقتصادات العالم، ذات قوة سياسية عالمية هائلة وجيش يتحسن بسرعة. ولا تزال الصين تجني الفوائد طويلة الأجل لسياسات دنغ حتى يومنا هذا.

5. اتفاقية الجات

أنشئت الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة «الجات» لتنظم المبادلات التجارية تحت مبدأ تحرير التجارة مما شكل دافعًا لزيادة الاستثمار الأجنبي المباشر.

وكان ذلك سببًا في تسريع النمو الاقتصادي العالمي. إذ عززت التجارة العالمية سنويًا بنسبة 8% خلال فترة الخمسينيات والستينيات. كما كانت سببًا في نمو التجارة من 332 مليار دولار في عام 1970 إلى 3.7 تريليون دولار في عام 1993، الأمر الذي منح لتلك الاتفاقية ثقلاً دوليًا.

وفي أعقاب مفاوضات شاقة في أوروجواي في الفترة بين 1989-1994، تحولت الاتفاقية إلى نظام تشرف عليه منظمة التجارة العالمية وتم الاتفاق خلالها على عدة مسائل تختص بتنظيمها وهي: التعرفات الجمركية، والتدابير غير الجمركية، والقواعد، والخدمات، والملكية الفكرية، وتسوية المنازعات.

فكانت سببًا في زيادة رؤوس الأموال الدولية بمعدلات تتعدى بكثير معدلات نمو التجارة العالمية وما ارتبط بذلك من تشابك مصالح اقتصادات الدول النامية مع الدول المتقدمة والشركات متعددة الجنسيات وتنامي دور المؤسسات الدولية في رسم أطر التنمية للدول النامية.

إضافة إلى ظهور العولمة المالية كظاهرة تعكس الانسيابية التي تمتعت بها تدفقات رؤوس الأموال من سوق لآخر في ظل سياسات التحرر المالي الداخلية والخارجية.

فقد ألهمت الجات اتفاقيات التجارة الأخرى ومهدت الطريق للاتحاد الأوروبي، كما كانت دافعًا نحو العولمة الثقافية،والاستفادة من ثورة الاتصالات والعمل على تحسينها.

إجمالاً، لم يكن القرن الحادي والعشرين على ما هو عليه اليوم سوى بفضل الأحداث الاقتصادية التي جرت في القرن الماضي، فغيرت مجرى العالم وأثرت ليس فقط على شكل الاقتصاد العالمي بل وعلى الأنظمةالسياسية للدول والعلاقات الدولية.

المراجع
  1. إيريك راشواي، الكساد والصفقة الجديدة، ترجمة: ضياء ورّاد، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، الطبعة الأولى، 2015، ص 2
  2. مشروع مارشال: استراتيجية أثبتت نجاحها، ديفيد دبليو إيلود، أحداث بارزة في العلاقات الخارجية الأمريكية 1900-2001، أبريل/نيسان2006
  3. المرجع السابق.
  4. عباس كاظم، الخصخصة وتأثيرها على الأقتصاد العراقي، رسالة دكتوراه، 2010، ص 55،