تعرّض الاقتصاد العالمي لضربات قوية على مدار تاريخه. ومع كل زلزال اقتصادي عالمي تنهار ملامح النمو التي راكمها الإنسان على مدار عقود في شهور وجيزة. قد تختلف أسباب الأزمات المالية لكن النتائج غالبًا ما تتشابه. ولا يوجد تعريف محدد يمكن اللجوء إليه لمعرفة إذا كان الوضع الاقتصادي المحدد هو أزمة أم لا. لكن بصفة عامة فإن الأزمة الاقتصادية تُعرف بأنها اضطراب فجائي يطرأ على التوازن الاقتصادي في دولة أو عدة دول. الاضطرات ينشأ نتيجة اختلال بين الإنتاج والاستهلاك.

وتحدث تلك الأزمات نتيجة ثغرات في النظام المالي والاقتصادي، سواء الأنظمة المحلية أو الدولية. ويختزل العديد من الاقتصاديين أسباب كافة الأزمات المالية في أن النظام الرأسمالي المتسبب في فوضى الإنتاج هو السبب في تلك الأزمات، خصوصًا في تسببه في قلة استهلاك الطبقة العاملة. وعدم توزيع الثروة بشكل عادل ما يجبر الناس للجوء إلى الاقتراض، ما يؤدي إلى رفع سعر الفائدة، فيقل التداول النقدي.

ومن الملفت أن علماء الاقتصاد يستخدمون لفظ دورة لا أزمة لوصف الانهيارات الاقتصادية. لأن الأزمة تدل على الاضطراب، بينما يرى الاقتصاديون أن الأمر دورة حتمية لا بد من حدوثها. فحين يقل التداول النقدي، يعجز المنتجون عن تصريف سلعهم، فتنخفض الأسعار، ما يؤدي إلى زيادة الطلب، فتنتعش الأسواق مرة أخرى، ويزداد الإنتاج فيقبل الأفراد على الاقتراض، فترتفع الفائدة، فيقل التداول النقدي، وهكذا.

وتزداد حدة آثار الأزمات الاقتصادية كلما زاد التطور وتقدمت مظاهر العولمة، إذ يصبح العالم أشد تشابكًا، ويزداد تداخل الأسواق المالية مع التجارة العالمية. خصوصًا مع ازدياد العولمة الاقتصادية التي تنادي بمزيد من الحرية لتدفق رؤوس الأموال عبر الحدود. والتوسع المستمر للتبادل بين الأسواق الدولية.

أزمة نتيجة زيادة الثروة

كما حدث في الأزمة الأخيرة التي عاشها العالم مع الجائحة الوبائية لكوفيد-19. ففي غضون 12 شهرًا فقط شُل الاقتصاد العالمي، وأصبحت البشرية رهينة منازلها، وخسر الملايين من البشر وظائفهم. وُوصف الركود الاقتصادي الناتج عن الجائحة بأنه أسوأ ركود اقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية، لكنه ليس الأسوأ في تاريخ عالم الاقتصاد، فدائمًا هناك الأسوأ.

ولم تكن الأزمات دائمًا بسبب نقص الثروة، بل أحيانًا بسبب زيادتها. مثلما حدث في بريطانيا عام 1772. بدأت الأزمة في لندن ثم تفشت في سائر أوروبا. جاءت الأزمة من امتلاك الإمبراطورية البريطانية ثروة هائلة نتيجة التوسع في الاستعمار والتجارة. تلك الثروة الهائلة تركت انطباعًا لدى الحكومة وعموم المواطنين بالتفاؤل المفرط تجاه وضعهم الاقتصادي. فتوسعت البنوك البريطانية في الائتمان بشكل أكبر من قدراتها، وتقديم قروض ضخمة لرجال الأعمال.

انتهى الحلم البريطاني بفرار ألكساندر فوريس، شريك في البنك البريطاني، إلى فرنسا هاربًا من تسديد ديونه. وحين انتشر خبر فراره، اصطف المواطنون أمام البنوك طلبًا لسحب فوري لمدخراتهم. وتوسعت الصفوف حتى ملأت أسكتلندا وهولندا.

وكانت تلك الأزمة سببًا رئيسيًا في مطالبة الولايات المتحدة الأمريكية بالاستقلال عن بريطانيا. ثم حرص الولايات المتحدة لاحقًا بأن يكون لها نظام مالي مستقل أولًا، وأن تحاول جذب العالم نحو فلكها المالي الخاص ثانيًا. كي تصبح هي الفاعلة في النظام العالمي، لا تابعًا له.

أميركا تتحكم في المد والجَزر

على مدار عقود نجحت الولايات المتحدة في الخروج من التبعية البريطانية، كذلك أغرت الكثير من دول العالم بالثقة في اقتصادها وعملتها، حتى أصابها الكساد الكبير عام 1929، واستمر عشر سنوات كاملة حتى عام 1939. الكساد الكبير يُعتبر أسوأ أزمة اقتصادية في القرن العشرين. انخفضت التجارة العالمية بمقدار الثلثين، وأعلن 3500 بنك إفلاسهم في يوم واحد، وازداد العدد تدريجيًا حتى وصل إلى 10 آلاف بنك في نهاية عام 1939.

بدأ بسبب انهيار سوق الأسهم الأمريكي، وعُرض 13 مليون سهم للبيع في يوم واحد، ولم يجد أي منها مشترين، فانخفضت قيمتها أكثر فأكثر. وزاد عدد الأسهم المعروضة إلى 30 مليون سهم، فازداد الانهيار، وأصبح العرض متفوقًا على الطلب بشكل خيالي. كما تفاقمت الأزمة لاحقًا بسبب سوء إدارة الحكومة الأمريكية للأزمة.

وترك الكساد خلفه بطالةً بنسبة 25%، وارتفاع التضخم لمستويات قياسية، وانخفض الإنتاج في كافة الدول الصناعية لا الولايات المتحدة وحدها. وانخفضت جودة حياة السكان، وسجلت دائرة الصحة في نيويورك إصابة خُمس أطفال الولايات المتحدة بسوء التغذية.

السبب وراء تدويل الأزمة، وإصابة دول العالم بها، أن الولايات المتحدة سحبت ودائعها الضخمة من البنوك الأوروبية من أجل توفير سيولة نقدية لتحريك أسواقها. فحدثت انفراجة طفيفة داخل الولايات المتحدة، لكن الأزمة صُدّرت إلى دول العالم أجمع. كما فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية على العديد من الأصناف المستوردة لتوفر أموالًا للداخل الأمريكي، وردت الدول بتعريفات مماثلة على البضائع الأمريكية، ما أدى إلى تراجع العالمية أكثر.

وأعلنت قرابة 25 دولة عجزها عن سداد ديونها الخارجية. وبدأت الدول الرأسمالية مثل ألمانيا وفرنسا في وضع خططها الخاصة للخروج من الأزمة، ونجحت في التعافي لاحقًا لكن بعد أن تجاوزت الولايات المتحدة الأزمة التي صنعتها بوقت طويل.

الأموال الساخنة تحرق الاقتصاد

بعد عقود من تلك الأزمة تسببت الولايات المتحدة بأزمة أخرى حين قررت شحن أسلحة إلى إسرائيل أثناء حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973. في تلك الأزمة قرر أعضاء منظمة أوبك، خاصة العرب، حظر تصدير النفط إلى الولايات المتحدة. فأدى القرار إلى ارتفاع أسعار النفط، وحدوث أزمة اقتصادية في الولايات المتحدة والعديد من الدول الصناعية.

تلك الفترة تحديدًا زاد فيها التضخم لمستويات قياسية، بسبب الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة. لكن رافق التضخم ركود في الاقتصاد فأصبحت الأزمة خليطًا من الاثنين ليظهر مصطلح الركود التضخمي، Stagflation. واحتاج الأمر سنوات مريرة كي تستطيع الدول الصناعية التغلب على الأزمة، وإعادة التضخم إلى مستويات ما قبل الأزمة.

شهد العالم عام 1997 أزمة اقتصادية جديدة لكنها كانت أتت من دول شرق آسيا هذه المرة، والسبب كان أيضًا التفاؤل المفرط. فحين بدأت الأموال الساخنة، والمضاربة، في الخروج من الدول الصناعية الكبرى والاستقرار في دول شرق آسيا، مثل سنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية، تفاءلت تلك الدول باقتصاداتها وبدأت في الاقتراض بشكل مفرط، ما أدى إلى تراكم الديون في اقتصادات تلك الدول.

فاضطرت دولة مثل تايلاند إلى تحرير سعر صرف عملتها مقابل الدولار الأمريكي، بعد أن استطاعت تايلاند الصمود طويلًا كي لا تلجأ إلى هذه الخطوة. لكن قلة مصادر العملات الأجنبية دفعتها لتلك الخطوة. تسبب القرار في حالة هلع في الأسواق الآسيوية، وبدأت المخاوف من الوصول للإفلاس تتزايد، ما أدى لهروب الأموال الساخنة من كافة دول شرق آسيا إلى تايلاند وحدها.

العولمة الاقتصادية تهدد الأمن القومي

لم تمر سوى سنوات قليلة حتى عرف العالم معنى الانهيار الحقيقي عام 2008. وضربت الأسواق المالية أزمة تُعتبر هي الأسوأ منذ الكساد الكبير. حدثت تلك الأزمة بسبب انهيار ما عُرف آنذاك بالفقاعة العقارية في الولايات المتحدة الأمريكية، فانهار بنك ليمان برازر الاستثماري، وكانت العديد من المؤسسات العالمية على شفا الانهيار.

يتطلب ذلك الانهيار عملية إنقاذ من الحكومة الأمريكية بأرقام غير مسبوقة في تاريخها، واستغرق الأمر 10 سنوات من العالم كي يعود التضخم والاقتصاد لوضع مقبول، بعد أن خسر الملايين وظائفهم، وفقد الاقتصاد مليارات الدولارات. وحُجز على 4 مليون منزل.

الأزمات السابقة تؤكد أنه كما أن للعولمة الاقتصادية فوائدها مثل الاستثمار الأجنبي المباشر، وتعزيز نقل التكنولوجيا، وتحسين مقياس الاقتصاد، وتوفير في تكاليف الإنتاج والنقل. إلا أن العولمة الاقتصادية كذلك تؤدي للاعتماد المتبادل بين اقتصادات الدول المختلفة، ما يؤدي لعدم استقرار إقليمي حال حدوث اضطراب في دولة مركزية.

كما أن تلك الشركات متعددة الجنسيات غالبًا ما تضعف الأمن الاقتصادي، إذ تصبح المتحكم في أسواق الدول الموجودة فيها، ما يجعلها مهددةً لسيادة الدولة بصورةٍ ما. كما أن العولمة الاقتصادية تساهم في عدم توزيع الثروة بشكل عادل، وتركيزها في يد مجموعة من رجال الأعمال فحسب.