من المسلم به أن ضخامة التحدي الذي يواجه التنمية الاقتصادية في الدول النامية ومنها الدول العربية ذات العجز يتمثل في ندرة رؤوس الأموال، التي يعتبر توفرها شرطا أساسيا للقضاء على التخلف والتبعية. ومن هنا اتجهت الدول العربية ذات العجز كما هو حال الدول النامية الأخرى التي اتبعت هذا السبيل نحو التمويل الأجنبي، لا سيما الاقتراض الخارجي بغية دفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية فيها.

وتعد سهولة الحصول على القروض الخارجية في فترة السبعينيات ضمن سياسات الإغراء للكثير من الدول النامية، وجعلها تتراخى عن تعبئة مدخراتها المحلية، والانزلاق في وهم إمكانية التمتع بمستويات عالية من الاستهلاك والاستمرار في التنمية دون حدوث مشكلة في سداد خدمة الديون على المدى الطويل.

وإذا كان من المفترض أن يكون التمويل الأجنبي عنصرا ثانويا مكملا للادخار المحلي، فإنه ومن الملاحظ أن الدول النامية بما فيها الدول العربية المدينة اعتبرته الأساس الذي تقوم عليه التنمية الاقتصادية، وأخذت تتوسع فيه، حتى أصبحت تلك المديونية وخدمتها في السنوات الأخيرة عبئا كبيرا على الاقتصاديات المدينة، وعائقا رئيسيا لجهودها التنموية.

وذلك بسبب دورها في استنزاف الموارد المالية من الدول المدينة إلى الدول الدائنة كمدفوعات خدمة لهذه الديون، التي أخذت تلتهم الجزء الأكبر من حصيلة صادرات تلك الدول؛ الوضع الذي جعلها في مأزق خطير، يتمثل في عدم قدرتها على خدمة ديونها وتمويل وارداتها في آن واحد، حتى أصبحت تلك الدول تطلب العون والإغاثة من الجهات الدائنة، والتي بدورها استغلت هذه الفرصة كوسيلة لتحقيق أهدافها الاقتصادية، وبما يتفق مع نمط تقسيم العمل الدولي السائد، الذي يستهدف استمرارية التبعية والسيطرة والاستغلال الرأسمالي لموارد الدول النامية.

إعادة جدولة الديون هو تعديل الشروط في اتفاقيات القروض لإطالة آجال استحقاقها وفترات السماح وفتح الاعتمادات المالية لتوفير السيولة للدول النامية

وفي ظل سياسات الانفتاح الاقتصادي ودفع عجلة التنمية في الدول العربية ووفقا لما أشارت إليه البيانات الواردة في جداول المديونية الخارجية للدول العربية الصادر من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، فقد شهدت المديونية العربية نموا سريعا خلال الفترة من 1970م حتى عام 1992م، حيث بلغت نحو 5 بليون دولار عام 1970م.

ثم قفزت إلى 68 بليون دولار عام 1980م، ثم نمت بشكل مطرد إلى أن بلغت 153 بليون دولار عام 1992م، أي أنها تضاعفت بأكثر من 30 مرة خلال الفترة الواقعة ما بين 1970م و 1992م، ونمت بمعدل 2819 % فيما بين العامين المذكورين أعلاه، ويمثل هذا نموا سريعا لحجم هذه المديونية، ويعكس تبعية الدول العربية للخارج في مجال التمويل.

وبالطبع فإن هذا المستوى الضخم الذي بلغته هذه المديونية ما هو إلا حصيلة التجاء تلك الدول إلى الاقتراض «الاستدانة» من العالم الخارجي طيلة السنوات الماضية لتوفير التمويل اللازم لعملية التنمية الاقتصادية فيها.

وتعكس ضخامة هذه المديونية ضعف الموارد المحلية في الدول العربية، سواء المخصصة للاستثمار، أو لتصحيح الاختلالات في موازين المدفوعات، كما أنها تشير من جهة أخرى إلى أن هذه الدول ما زالت تعيش فوق إمكاناتها الاقتصادية، محملة تكاليف ذلك لأجيالها القادمة.

ولعل أبرز النتائج التي تفرزها معطيات الجدول المشار إليه هو تحمل خمس دول عربية، هي مصر والجزائر والمغرب والسودان وسورية، النصيب الأكبر من حجم المديونية العربية، حيث بلغ نصيب تلك الدول نحو 80 % من مجموع ديون الدول العربية في عام 1992م، إذ تراكمت لدى هذه الدول ديون فاقت 120 بليون دولار، يعود الجزء الأكبر منها لمصر، حيث بلغت نسبتها من الرقم الموجود أعلاه نحو 33 % في عام 1992م.

في حين أن الدول العربية المدينة الأخرى تتفاوت في حجم مديونيتها، حيث تقع في حدود 2303 مليون دولار إلى 8476 مليون دولار، باستثناء لبنان التي بلغت مديونيتها نحو 1812 مليون دولار، وهي تعتبر أقل الدول العربية مديونية في عام 1992م.


تطور الدين الخارجي للدول العربية خلال الفترة 1970 – 1992 (مليون دولار)

الدولة

1970

1980

1985

1990

1992

الأردن

تونس

الجزائر

السودان

سوريا

الصومال

العراق

عمان

لبنان

مصر

المغرب

موريتانيا

اليمن

118

541

937

306

232

77

274

00

64

1750

711

27

210

1.971

6.526

19359

5.163

3.549

600

00

599

501

20.915

9.710

839

1.684

4.168

4.884

18242

9.127

10.819

1.639

00

2.330

860

42.136

16.528

1.483

3.339

8.269

7.737

27637

15.303

16.449

2.370

00

2.734

1.783

40.435

23.478

2.140

6.300

7.977

8.476

26349

16.085

16.513

2.447

00

2.854

1.812

40.431

21.418

2.303

6.516

المجموع

5247

68416

115555

154635

153177

الوضع الذي جعل بعض الدول العربية المدينة كمصر والسودان والصومال والمغرب وموريتانيا، تواجه صعوبات في الوفاء بالتزاماتها تجاه خدمة ديونها، مما جعلها تلجأ بالتالي إلى إعادة جدولة ديونها الخارجية للتخفيف من عبء خدمة تلك الديون، في حين عجزت السودان والصومال عن الوفاء بتلك الالتزامات حتى بعد إعادة جدولة ديونها.

وفي هذا الصدد يجدر بنا إعطاء صورة عن المقصود بـجدولة الديون التي شاع تداولها بين الدول المدينة والدائنة ومن ثم شروطها؟

يقصد بإعادة جدولة الديون «تعديل الشروط الأصلية الواردة في اتفاقيات القروض وذلك بهدف إطالة آجال استحقاقها ومدة فترات السماح وفتح الاعتمادات المالية لتوفير السيولة اللازمة للدول النامية». والملاحظ أن إعادة الجدولة ليست إلا حلا قصير الأجل يهدف إلى التغلب على مشكلة السيولة لدى الدول المدينة عبر إعطائها فرصة من الوقت لتمكنها من إعادة تصحيح أوضاعها الاقتصادية، وفق شروط صندوق النقد الدولي، حتى تستطيع الوفاء بالتزاماتها تجاه دائنيها في المستقبل المنظور.

ومن المعروف أن عملية إعادة جدولة الديون تبدأ بطلب تتقدم به الدولة المدينة حينما يصبح اقتصادها في وضع حرج، لا يمكنها من تمويل وارداتها ومن خدمة ديونها في آن واحد، إلى الجهات الدائنة طالبة منها الموافقة على وقف خدمة ديونها والدخول في مفاوضات لإعادة جدولة ديونها.

وفي هذه الحالة فإنه يلاحظ أن قبول طلب إعادة الجدولة يتوقف على شروط يجب توفرها في الدول المدينة، أهمها الإذعان لمطالب وشروط صندوق النقد الدولي، والتي منها:

1. تخفيض قيمة العملة المحليةDevaluation وإزالة الرقابة على الصرف الأجنبي وحرية التعامل به.

2. إلغاء القيود المفروضة على الواردات.

3. إلغاء الدعم الحكومي عن السلع الأساسية، التي يستهلكها الفقراء ومحدودي الدخل، وتخفيض التوظيف الحكومي للعمالة الجديدة.

4. تخفيض الإنفاق العام بشقيه «الجاري والاستثماري» وزيادة الضرائب على السلع والخدمات ورفع أسعار الفائدة المحلية.

5. تشجيع الاستثمارات الأجنبية الخاصة، وذلك من خلال توفير المميزات الكفيلة بذلك، كالإعفاء من الرسوم الجمركية، وإمكانية حصولها على المواد الخام والأراضي بأسعار رخيصة، والسماح لها بحرية تحويل أرباحها. و محاولة توجيه استثماراتهم نحو القطاعات التصديرية، التي من خلالها يستطيع البلد الحصول على العملات الأجنبية اللازمة لسداد أعباء الديون الخارجية.

وتعد هذه الشروط سبيلا للانفتاح الاقتصادي والتجاري وما هي إلا شروطا لدفع الدول النامية للدخول إلى مقبرة الانفتاح الاقتصادي في ظل تنامي الدين العام وانهيار موارد الدولة الخاصة!

وهنا يتم نقل الدول من مرحلة التبعية المالية إلى الانفتاح الاقتصادي مخلفة تبعية اقتصادية لا بديل عنها من قبل الدول الرأسمالية الكبرى.


سياسات الانفتاح الاقتصادي ونظرية التبعية المالية في تاريخ الاقتصاد المصري

اتجهت مصر إلى الانفتاح الاقتصادي والتحرير الاقتصادي عام 1974م وذلك بعد معاهدة السلام السوفيتية الأمريكية عام 1972م، والتي رأى فيها السادات أنه لم يعد بمقدوره الاعتماد على دعم الاتحاد السوفيتي، ولكي يتوصل السادات إلى تفاهم مع الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي عام 1974م، أعلن السادات اتباعه لسياسة الباب المفتوح الاقتصادية، وأصدر قانون الاستثمار رقم 43 لسنة 1974م والذي نص على أن أي مشروع ستتم الموافقة عليه سيعتبر تلقائيا جزءا من القطاع الخاص وإن كان يشارك فيه شركات القطاع العام. وكان هذا القانون بمثابة رسالة عن نية مصر في إعادة دمج اقتصادها في النظام الاقتصادي الدولي الليبرالي.

كانت سياسات الانفتاح بمثابة المقبرة لسبل النهوض للاقتصاد المصري ولم تخلف لنا سوى مزيداً من التخلف الاقتصادي و الديون التي لا يمكن تفاديها بسهولة

وكان السادات مقتنعا بأن جذب الاستثمارات الأجنبية لن يتم إلا بتحالف مصر مع الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وقد بادر هنا لعقد معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني، وهي المعاهدة التي أدت لعزل مصر عن العالم العربي وانقطاع المعونة العربية عنها.

وقد عوضت الولايات المتحدة مصر عن ذلك بمعونة سنوية قدرها 2.1 مليار دولار سنويا كمكافأة للسادات على عقد معاهدة السلام، وبدأت هنا جذور التبعية الاقتصادية.

لكن كل محاولات السادات فشلت في جذب الاستثمارات الخارجية؛ فمن عام 1974م حتى عام 1982م كان الاستثمار المصري يشكل 61 % من إجمالي الاستثمارات والاستثمار العربي 23 % والغربي 16 % فقط.

في ظل هذه السياسات أخذ القطاع الخاص دورا أكبر في الاستثمار، وتم توسيع الإقراض الرخيص نسبيا لرجال الأعمال مما دفع رجال الأعمال في ظل عدم التخطيط من قبل الدولة إلى توجيه هذه الأموال للاستثمار في أنشطة غير إنتاجية مثل البنايات الفاخرة والمضاربة في العقارات واستيراد السلع الكمالية؛ بل ونجح بعض رجال الأعمال في تحويل جزء من هذه القروض إلى حساباتهم الشخصية خارج مصر.

وبذلك تحول الاقتصاد المصري إلى اقتصاد ريعي يعتمد على مصادر الدخل الخارجية في الوقت الذي أهملت فيه قطاعاته الإنتاجية الزراعية و الصناعية وبالتالي إجراءات التحرير الاقتصادي لم توجه نحو استراتيجية التصنيع من أجل التصدير وفقاً لنموذج شرق أسيا وإنما إلى اقتصاد مفتوح نسبياً سرعان ما قضى على التصنيع.

وفي عام 1991م اتجهت مصر إلى سياسات الإصلاح الاقتصادي و التكيف الهيكلي الذي قدمه صندوق النقد الدولي و البنك الدولي لمصر و في الأعوام الأولى من تطبيق هذه السياسات شهدت مصر معدل نمو في الناتج المحلي الإجمالي لم يتجاوز ال 5% عام 2005م و يعد هذا النمو المتباطئ نتيجة إلى تباطأ الاستثمار الخاص فضلاً عن الهبوط الحاد في الاستثمار العام دافعاً البلاد إلى ركود اقتصادي.

وفي مثل هذا العرض البسيط للانفتاح الاقتصادي في تاريخ الاقتصاد المصري نجد أن سياسات الانفتاح كانت بمثابة المقبرة لسبل النهوض للاقتصاد المصري ولم تخلف لنا نحن الأجيال الصاعدة سوى مزيداً من التخلف الاقتصادي و الديون التي لا يمكن تفاديها بسهولة ولكن ما زال هناك أمل لتحدي مثل هذا الوضع بدفع عجلة الاستثمار العام والعمل على التشغيل الكامل لموارد الدولة المادية والبشرية ولا بديل عن ذلك من أجل مستقبل أفضل لمصر.

المراجع
  1. نادية رمسيس: الاقتصاد السياسي لمصر.. دور علاقات القوة في التنمية، ت: مصطفى قاسم، المركز القومي للترجمة، 2010.
  2. رمزي زكي: حوار حول الديون والاستقلال مع دراسة عن الوضع الراهن لمديونية مصر، مكتبة مدبولي، 1986.
  3. رمزي زكي: الاقتصاد العربي تحت الحصار، مركز دراسات الوحدة العربية، 1989
  4. الصندوق العربي للنماء الاقتصادي والاجتماعي، الكويت، المديونية الخارجية للدول العربية المقترضة 1970 – 1980
  5. محمد السماك: قياس التبعية الاقتصادية للوطن العربي، المستقبل العربي، سبتمبر 1991
  6. صاولي مراد: الانفتاح التجاري وأثره في السياسات المالية والنقدية.. دراسة قياسية، المستقبل العربي، نوفمبر 2013