شغلت قضية الاغتصاب اهتمام الرأي العام الهندي خلال العقد الأخير، نتيجة حوادث مأساوية متكررة. ولم تقتصر قائمة الضحايا على الراشدات، بل صار اغتصاب الأطفال ظاهرة مزعجة، حتى شهد عام 2015 وحده أكثر من 11 ألف حالة مسجلة. دفع ذلك مجلس النواب الهندي إلى إصدار قانون يسمح بإعدام مغتصبي الأطفال تحت سن الثانية عشرة في أبريل من العام 2018.

وهو ما جاء أيضًا استجابة لغضب شعبي وتوتر طائفي متزايد عقب حادثة الطفلة «آصفة بانو» الهندية الكشميرية المسلمة، ذات الأعوام الثمانية، التي اختطفت وتناوب المجرمون اغتصابها قبل خنقها وإلقاء جثتها خارج القرية قبل أشهر من القانون. ورغم بشاعة الجريمة ووحشيتها، والردع الذي توهم به هذه العقوبة المشددة، والمطالبة الشعبية بهذا النهج في بلادنا العربية؛ فإن هذا التشريع لن يرضي المتخصصين المعنيين بالقضية، مثل فلاسفة القانون وعلماء نفس الجريمة وعلماء الاقتصاد، ناهيك عن أثره السلبي على الظاهرة!

لكن ما عيب هذا القانون الحازم؟ وهل الخطأ في هذه الصورة تحديدًا أم المبدأ من أساسه؟ وقبل ذلك، ماذا يفعل علماء «الاقتصاد» هنا؟


اقتصاديات الجريمة

لعلماء الاقتصاد واهتماماتهم صورة نمطية تكاد تتطابق في شتى أنحاء العالم. تغيب عنها في الأغلب الجرائم والتشريعات الجنائية كحقل للدراسة والتحليل الاقتصادي. إلا أن ذلك بمثابة تصور بدائي لا يعكس الحقيقة كاملة. فقد دخل علم الاقتصاد عصره الجديد قبل نحو 60 عامًا، على يد «جاري بيكر» (1930-2014)، أستاذ الاقتصاد والاجتماع الأمريكي القدير. ونتيجة لسبقه في توظيف النظرية الاقتصادية لدراسة ظواهر وسلوكيات بشرية كانت في السابق حكرًا على تخصصات العلوم الاجتماعية الأخرى مثل علم الاجتماع وعلم السكان وعلم الجريمة، توج بيكر بجائزة نوبل في العلوم الاقتصادية في العام 1992. واليوم، بعد نصف قرن تقريبًا من نشر بيكر لورقته البحثية «الجريمة والعقاب: مقاربة اقتصادية» عام 1968، تشغل «اقتصاديات الجريمة» مكانة مهمة بين التخصصات الأكاديمية المعنية بالمجال، مثل علم الجريمة وعلم النفس الجنائي.

تكمن خصوصية النظرة الاقتصادية للجريمة في نقطتين رئيسيتين. إن قلنا – تجاوزًا – إن هدف علم الاقتصاد الأسمى هو الإدارة المثلى لمجموعة من الموارد المحدودة، لسد حاجات بشر يسكنون بقعة جغرافية ما، وكان الأمن الذي يسعى المجتمع إلى تحقيقه واحدًا من عدة حاجات رئيسية، يمكننا تقبل النقطة الأولى الصادمة للبعض: في أغلب الأحيان، لا يكون القضاء على الجريمة في مصلحة المجتمع. لأن بلوغ هذه الدرجة المثالية – إن كان ممكنًا – سيستنزف كمًّا هائلًا من الموارد، على حساب سائر الحاجات الحيوية، مثل المأكل والملبس والصحة والتعليم والأمن القومي.

ثانيًا، تفترض اقتصاديات الجريمة عقلانية المجرم، أي أن الجريمة تنتج – في الأغلب – عن تفكير منطقي وازن فيه المجرم بين الفائدة المرجوة والعقوبة المتوقعة أدى إلى رجحان كفة الفائدة.


عن العقوبة المتوقعة

إلا أن العقوبة المتوقعة التي نقصدها ليست بالعقوبة القانونية المحددة، بل هي عقوبة مركبة، يشارك في تحديدها ثلاثة متغيرات أساسية: احتمالية السقوط في يد العدالة، واحتمالية الإدانة القضائية، وشدة العقوبة القانونية. بحيث تؤدي احتمالية سقوط قدرها 70%، واحتمالية إدانة قدرها 60%، وعقوبة قانونية قدرها 15 عامًا، إلى عقوبة متوقعة – 0.7×0.6×15=6.3 – قدرها ستة أعوام وأربعة أشهر. كما تهتم اقتصاديات الجريمة عند تحديد المقدار المناسب للعقوبة المتوقعة بتحديد تكلفة حفظ مقدار هذه العقوبة كما هو، والخسارة التي سيتكبدها المجتمع نتيجة للجريمة، والمكسب الذي ستعود به الجريمة على المجرم. فكلما ارتفعت تكلفة الجريمة، وجب زيادة مقدار العقوبة المتوقعة. ومتى انخفضت التكلفة، وجب تخفيف مقدار العقوبة المتوقعة، توفيرًا للموارد المحدودة التي ستهدر لحفظ عقوبة متوقعة أكثر من الحاجة.

كمثال توضيحي، لنفترض أن العقوبة المتوقعة المناسبة لإحدى الجرائم كانت خمسة أعوام من السجن. من أجل تحقيق هذه العقوبة المتوقعة اجتمع الاقتصاديون لصياغة احتماليات السقوط والإدانة ومقدار العقوبة القانونية المثلى. لا شك أن الصور العامة للصيغ الممكنة ساعتها كثيرة ومتنوعة، مثل زيادة احتمالية السقوط بدرجة كبيرة وتخفيف العقوبة القانونية واحتمالية الإدانة، أو زيادة العقوبة القانونية بدرجة كبيرة وتخفيف احتمالية السقوط والإدانة. هنا تنبغي الموازنة بين عدة عوامل متداخلة. فالعقوبة القانونية المتطرفة من سجن وغرامة مالية، حتى إن صاحبتها احتمالية سقوط شديدة الانخفاض، قد تدفع مرتكب مخالفة بسيطة إلى التصرف بعنف أو الاستماتة للهرب عند محاولة توقيفه، خاصة إن كان فقيرًا. وتلك من أبرز مشكلات الغرامات المالية، ففي مقابل تكلفتها المنخفضة كثيرًا مقارنة بالسجن، نجد أنها لا تحدث في نفس الثري أي ردع يذكر.

تلعب التكلفة الاقتصادية في تحديد العقوبة المتوقعة دورًا كبيرًا، فتحقيق احتمالية سقوط مرتفعة يستلزم توظيف رجال شرطة جدد واستخدام المزيد من كاميرات المراقبة وتطوير المهارات والأدوات والكوادر المختلفة. كما يسري الأمر ذاته على زيادة احتمالية الإدانة التي تستلزم تطوير للمنظومة القضائية وأدواتها.

إضافة إلى ضرورة تجنب تداخل المصالح قدر المستطاع، الذي يظهر بوضوح في حالة الغرامات المالية. فرفع قيمة غرامة مالية ضمن اختصاصات إدارة محدودة الميزانية قد يدفعها إلى الاهتمام بتلك النوعية من المخالفات والسعي إلى رصد أكبر عدد ممكن، مما سيؤدي حتمًا إلى التقصير في سائر المهام والتشجيع على الفساد، سواء في صورة رشاوى من المخالفين أو التغريم التعسفي للأبرياء، ناهيك بتأثير ذلك كله على مقدار العقوبة المتوقعة من الأساس.


لماذا أخطأت الهند؟

عودًا على بدء؛ من الصحيح أن نعتقد أن هذه العقوبة الحازمة ستحدث نوعًا من الردع في نفس المجرم خلال التخطيط، عند الموازنة بين المتعة التي يطلبها والعقوبة المتوقعة. لكن فلنتأمل حالة أكثر المجرمين الذين سيقدمون على هذه الفعلة، لشكهم في قدرة المنظومة الأمنية والقضائية، أو لتوهمهم امتلاك خطة مثالية، أو لإصابتهم بمرض عضال لا يأبهون معه بموت محتمل، أو لاختلال في تفكيرهم، أو لقيامهم بالجريمة أو مشاركتهم فيها دون سبق إصرار، عند تأمل جميع تلك الحالات وغيرها سندرك أن مجرد استحضار المجرم لهذه العقوبة خلال الجريمة أو بعدها كفيل بتحويل الاغتصاب إلى جريمة قتل. خاصة والجناة في معظم قضايا اغتصاب الأطفال في الهند من الأقارب أو المعارف المألوفين للضحايا.

لكن بشكل عام، عند النظر إلى الاختلاف بين حوادث اغتصاب الأطفال وحوادث اغتصاب الراشدات في سهولة إتمام الجريمة والتهرب من العقوبة، يتضح أن مبدأ تشديد العقوبة في حالة الأطفال صحيح ومنطقي غالبًا. فالطفلة أقل قدرة من الأنثى الراشدة على استشعار الخطر، وأقل قدرة على المقاومة، وأقل قدرة على تقديم وصف صحيح للجاني أو التعرف على صورته، والأخيرة هي الأهم.

فإذا افترضنا قانونًا ساوى بين جريمة اغتصاب الطفلة وجريمة اغتصاب الراشدة بعقوبة حبس قدرها 10 سنوات. ومنظومة أمنية وقضائية في حالة أدت إلى احتمالية إدانة قدرها 50%، أي أن واحدة من كل عمليتي اغتصاب ينجح مرتكبها في تجنب الإدانة عبر ثغرات قانونية وتلاعب في الأدلة… إلخ. في حين تختلف احتمالية السقوط في يد العدالة بين الجريمتين للسبب السابق ذكره. فكانت احتمالية السقوط في حالة الضحية الطفلة قدرها 30%، وحالة الراشدة 60%. حينئذ، تصبح العقوبة المتوقعة في الحالة الأولى – 10×0.5×0.3=1.5 – عام ونصف. في حين أن العقوبة المتوقعة في الحالة الثانية – 10×0.5×0.6=1.5 – ثلاثة أعوام. ومع غض النظر عن التوجه الجنسي للمجرم مثلما ذكرنا، سيؤدي ذلك إلى اختلاف في درجة الردع بين الحالتين ينبغي الانتباه إليه عند دراسة القضية.

على كل حال، لا شك أن الواقع أكثر صعوبة وتعقيدًا، حيث تتشابك العوامل وتختلف التقديرات والمتغيرات والمكاسب والخسائر بشكل يصعب تخيله. ناهيك بالتداخل المربك بين انخفاض معدلات الجريمة نتيجة للردع الذي تحدثه العقوبة وانخفاضها نتيجة لتراكم المجرمين في السجن، ثم الموازنة بين تكلفة الاحتجاز ومكسب المجتمع من درء الجريمة المحتملة، أو التعامل الأمثل مع المجرمين المتمرسين في مقابل المجرم الذي لا يتوقع تكراره الجريمة حال الإفراج عنه لما في ذلك من تبذير للموارد المحدودة، وغير ذلك الكثير. علاوة على الارتباك الذي سينشأ حتمًا عند المقارنة بين توصيات سائر التخصصات الأكاديمية المعنية نتيجة لتباين المنهجيات والأدوات المستخدمة. وفي كل ذلك دليل على أن التشريعات الحماسية – وإن لاقت تعاطف الرأي العام وتأييده – تفتقر إلى الحكمة في أكثر الأحيان، وغالبًا ما تزيد الأوضاع سوءًا.

المراجع
  1. Winter, H. (2008). The Economics of Crime (2nd ed.). London: Routledge.