لا زالت تأميمات أوائل الستينات في القرن الماضي، أو ما عُرف بالتجربة الاشتراكية، تثير كثيرًا من الجدل في مصر حتى الآن، ما بين مؤيدين يرونها أفضل ما حققت مصر عبر قرون من الماضي البائس حالك الظلم والظُلمة، ومُعارضين يرونها سببًا فيما نعانيه حتى اليوم من مشاكل، وما بين بين يرونها إما تجربة جيدة لكن ينقصها الكثير مما أفسدها أو ضرورة مؤقتة فرضتها ظروف معينة تجاوزها الزمن.

والحقيقة أن جزءًا كبيرًا من إشكالية هذا الجدل يرجع لما يعتري هذه النقاشات من هيمنة للأيديولوجيا التي لا يمكن عزلها في مثل هذا السياق بالتأكيد، بما يلحقها من اختزال للحقائق والوقائع وتسطيح للمفاهيم والتاريخ، ليسا غريبين للأسف عن مُجمل النقاشات الاجتماعية والخطابات السياسية في مصر.

ولا يفترض هذا القول أي ادعاء أيديولوجي لكاتب السطور، لكنه يحاول فقط قدر الممكن فصل ما هو أيديولوجي عما هو تاريخي، ليس في الجدل حول التجربة، بل في التجربة ذاتها، فهذا هو ما يهم ويحسم الجدل حقًا؛ ما يعني وضع التجربة في إطارها التاريخي، لوعي الدوافع الموضوعية، التي سبقت أية شعارات مُعلنة أو ميول شخصية لقيادة مؤثرة أو مناورات سياسية لنظام سياسي مأزوم وما شابه من اعتبارات.


أي اقتصاد تسلمت ثورة يوليو من النظام الملكي؟

باستثناء إجراءات محدودة كالإصلاح الزراعي وغيره، لم تتحقق يوليو حقًا كثورة سوى بتأميمات 1961، فما قبل ذلك لم يكن سوى حالة من التخبط المستمر، في صورة دعاوى إنشائية التي لا تغير واقعًا ولا تحرك موضعًا.

فلم يجر أي تغير نوعي كبير على الاقتصاد المصري بعد يوليو 1952، وإن حدثت بعض التطورات الكمية في اتجاهاته السابقة، لكنه في المجمل استمر على ذات طابعه الهيكلي تقريبًا حتى أتت التأميمات، التي ربما سبقتها بعض التغييرات المؤسسية، لهذا ربما يكون الأكثر جدوى التركيز بدرجة أكبر على أوضاع هذا الاقتصاد قبل التأميمات مباشرةً في سياق مُقارنتها بأوضاعه وقت قيام الثورة؛ لفهم دوافع تلك الإجراءات.

أولاً: على صعيد التنظيم الاجتماعي للإنتاج

نجد بصفة عامة أن الهيكل الإنتاجي المصري كان بحلول الثورة وحتى أواخر الخمسينات هيكلاً ذا طابع زراعي محدود العمق الصناعي والتكوين الرأسمالي، مع تركز احتكاري وتورم خدمي سابق لأوانه. فنجد تكوينًا قطاعيًا (أي حصص القطاعات في الاقتصاد) نصفه خدمات وثلثه زراعة، فيما لم تتجاوز حصة الصناعة به الـ 12% فقط عام (1953-1954)[1]. نجحت جهود الثورة في الإطار القائم قبل التأميمات مباشرةَ (1959-1960) في الوصول به لتركيب أكثر تصنيعًا، بلغت به الصناعة والتعدين 20% تقريبًا، وظلت الزراعة على حالها تقريبًا بنسبة 31%، فيما لم تنخفض حصة الخدمات في الناتج المحلي الإجمالي عن الـ 47%[2].

أما التكوين الرأسمالي (أي حصة رأس المال الإنتاجي في الاقتصاد) فكان استهلاكيًا ضعيف التكوين الإنتاجي، وهو ما ظهر أولاً في غلبة الصناعات الاستهلاكية التي بلغت حصتها 74% من القيمة المُضافة للقطاع الصناعي عام 1950، فيما بلغت حصص الصناعات الوسيطة 24% والاستثمارية 2% فقط. وثانيًا في غلبة المزارع الصغيرة على القطاع الزراعي (بسبب الاستقطاب الشديد في توزيع الملكية الزراعية قبل الإصلاح الزراعي) وغلبة المنشآت الصغيرة على القطاع الزراعي (بسبب غلبة النمط الحرفي وتركز رؤوس الأموال رغم قلتها).

وثالثًا في ضعف رأس المال الثابت وانخفاض التكوين الرأسمالي في مُجمل الاقتصاد، وإن كانت الثورة قد حاولت معالجة هذا الضعف، فزادت نسبة الآلات إلى جملة الواردات من 4.5% عام 1952 إلى 11% عام 1959[3]، تعبيرًا عن رغبتها في التطوير الصناعي؛ ما انعكس في تحسن طفيف في تكوين القيمة المُضافة الصناعية، التي توزعت ما بين 59% للصناعات الاستهلاكية و33% للصناعات الوسطية و3% للصناعات الثقيلة[4].

من جهة أخرى عانى هذا الهيكل الإنتاجي من استقطاب احتكاري شديد كابح للتطور الإنتاجي والسوقي والاجتماعي. ففي القطاع الزراعي، كان 0.4% من الملاك (حيث يستحوذ المالك على 50 فدان فأكثر) يمتلكون 34% من الأراضي الزراعية، وهو ما يساوي تقريبًا ملكية 94.3% من الملاك (حيث المالك لديه أقل من خمسة أفدنة) عام 1952[5]، ولم تتناول قوانين الإصلاح الزراعي سوى 12% من هذه الأراضي حتى عام 1959[6].

ونجد أيضًا أن الصناعة كانت تعيش استقطابًا هائلاً من بضعة منشآت احتكارية ضخمة ضمن بحر من المنشآت الصغيرة والقزمية، فظلت نسبة المنشآت المتوسطة (من 50 إلى 500 عامل)، والتي تمثل أحد أهم معايير تعمق التصنيع، تدور حول 18% بين عامي 1952 و1961[7]، فيما انخفضت نسبة مساهمة المنشآت الكبرى في التوظيف الصناعي من 83% من مجموع العمالة الصناعية عام 1950[8] إلى 60% عام 1957[9].

ثانيًا: على الصعيد المؤسسي

نجد حالة غياب للمنظم الرأسمالي، وقلة في المرونة الإنتاجية والسوقية وإمكانات التطور التنظيمي، فلم تنجح الثورة في استبدال مؤسسات سياسية غير مرنة، أو حتى تعديلها بشكل حقيقي، ناهيك عن وجود غلبة لشكل محدود الأفق والقدرة الإنتاجية والمالية من التنظيمات الاقتصادية، المُنقسمة ما بين قزميات حرفية وعماليق عائلاتية.

وأخيرًا على مستوى الحوافز، فكان هناك أنماط استهلاك لا تناسب مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي، وحوافز ادخار واستثمار محدودة كمًا وكيفًا، وتكاليف صفقات مرتفعة بحكم انخفاض مستوى ونوعية رأس المال الاجتماعي والبشري؛ بما يضعف العمل من خلال السوق الحرة، بل ويعوق تطورها.

ثالثًا: على صعيد الفضاء السوقي

اتسم الفضاء السوقي بالضيق، سواءً في حجمه الخام كسوق داخلي، أو في حجمه الصافي الناتج عن علاقة السوق الداخلي بالخارجي، وهو ما يعود إلى ضعف الجهاز الإنتاجي على ما سبق ذكره، واستقطابيته الشديدة المنعكسة في توزيع دخول مختل يخلق هيكل طلب استقطابي لا يدعم التنمية الصناعية المُستقرة، فضلاً عن ضعف حجمه بسبب سوء التوزيع، وغلبة الاحتكارية التي تكبح نمو الأسواق وتضعف سيولة تحويل الموارد عبر الأسواق المختلفة استهلاكًا واستثمارًا.

المر الذي يخلق اختلالاً بين الطلب الكلي والعرض الكلي المحليين، ويؤدي إلى تعزيز تبعية الفضاء السوقي واختراقه من الخارج، بما أدخله في حلقة حلزونية من الضعف، يتبادل فيها ضيق الفضاء السوقي واختلاقه وضعف الهيكل الإنتاجي واستقطابيته التأثير والتأثر؛ بما يعزز في النهاية ركود الهيكل الاقتصادي في مجموعه وتبعيته؛ وبالتالي ضعف نموه الكمي وتطوره الكيفي.


المزايا الغائبة لرأسمالية «اسم بلا رسم»

وبجمع كل ما سبق، نستنتج السمات/التفسيرات الآتية للهيكل الاقتصادي المصري خلال الفترة ما قبل ثورة يوليو وأواخر الخمسينات:

1. عانى الهيكل الإنتاجي من التناقض بين ضعفه الحجمي وتطوره النوعي -شكلاً-، فبينما كان له حجم رأسمالية صغيرة ناشئة، كان له شكل رأسمالية احتكارية متطورة؛ ما أفقده مزية الرأسمالية الناشئة الأساسية (المنافسة) ومزية الرأسمالية المتطورة الأساسية (ارتفاع الإنتاجية).

2. أدى هذا الطابع الاحتكاري لخنق تطور هذه الرأسمالية في مرحلة مبكرة من وجودها، فلم يعد يحمّل الشعب فقط بتكاليف الاحتكار (كمّ إنتاج أقل بأسعار أعلى = مستوى معيشة أقل)، بل فعل ذلك أولاً في سياق متخلف لا يحقق حتى مزاياه الموازية في العالم المتقدم من تطوير تكنولوجي وتنظيمي، وثانيًا بتبعية تكنولوجية للخارج، وثالثًا وهو الأهم بخنق للتطور اللاحق الضروري جدًا لرأسمالية ناشئة؛ ومن ثَمّ إبقائها في مرحلة الصناعات الاستهلاكية الخفيفة.

3. أدى هذا الخنق الاحتكاري المبكر لخنق نمو الصناعة، والذي أدى مع تقلص فرص النمو التشغيلي في الزراعة، إلى حالة تحضر رثّ، يهجر فيه الريفيون القرى إلى المدن بحثًا عن فرص عمل صناعية غير موجودة؛ ما أدى لتضخم سرطاني مبكر للتشغيل الخدماتي محدود الإنتاجية والمهارات، فضلاً عن تضييق لفرص الاستثمار عمومًا دفع للاتجاه للنشاطات المضاربية والاكتنازية والهروبية، كإعادة تدوير الفوائض في الأرض الزراعية وفي بناء العقارات وما شابه؛ ما هدد بزيادة سلطة ملاك الأراضي والعقارات من جهة، وزاد من ميل رجال الأعمال لعدم الاستجابة لدعوات الحكومة المتتالية للاستثمار الصناعي من جهة أخرى.

4. أدى التكوين السابق لاختلال العلاقة بين رأس المال الثابت ورأس المال العامل على مستوى مجمل الاقتصاد، فالاحتكارية (وبالتالي عدم مرونة النمو الإنتاجية)، وغلبة الاستهلاكية (أي سيطرة الصناعة الخفيفة التابعة)، وتورم الخدمات (محدودة التكوين الإنتاجي بطبيعتها)، أدت مجتمعةً إلى استمرار انخفاض التكوين الرأسمالي أو التكوين العضوي لرأس المال (أي نسبة رأس المال الثابت إلى مجمل رأس المال المادي)؛ ومن ثم استمرار انخفاض الإنتاجية وبطء تطور التنظيم والمهارات الإدارية، فضلاً عن غياب آفاق التطور التكنولوجي.

5. انعكس هذا الاختلال بين نوعي رأس المال كذلك في اختلال بين العرض والطلب على المستوى السوقي، بما له من آثار سلبية على التوازن التجاري (اختلال مُزمن بين الواردات والصادرات لصالح الأولى)، والتوازن المالي (اختلال مُزمن بين الإيرادات والنفقات العامة الجارية لصالح الثانية)، وبالتفاعل مع الاختلالين السابقين على التوازن النقدي (اختلال مُزمن في علاقة العملة المحلية بالعملات الأجنبية وبالإنتاج المحلي)؛ ما جعل ترك تلك الأسواق حرةً بلا تدخل حكومي واسع مُخاطرةً كبرى.

6. أدت غلبة الخدمات على ما سبق ذكره لسوق عمل هش ومُجزأ، ولعدم تبلور وتجانس معقول للطبقة العاملة؛ ما أعاق نمو المُكون الماهر في الطبقة العاملة بما له من آثار تراكمية على النمو في الأجل الطويل من جهة، ولم يوفر أرضية اجتماعية للتحول الديموقراطي مُستقبلاً من جهة أخرى.


إدارة العجز أم معالجته؟

عاشت ثورة يوليو ثمانية أعوام تدعو رجال الأعمال المصريين للتصنيع دونما جدوى. فسعت لتأسيس العديد من الهيئات لهذا الغرض واستفادت من التمصير وغيره لتنمية قطاع عام يدفع لتنمية الصناعة، مُحاولةً في كل ذلك تشجيع الصناعة بعمل مشترك بين القطاعين العام والخاص، ما دام القطاع الخاص وحده عاجزًا وراغبًا -بحكم سماته السابقة- عن الاتجاه إليها.

فذلك العجز عن التصنيع كان (وللمفارقة لا يزال!) هو جوهر حالة العجز الاقتصادي والتخلف الاجتماعي العام في مصر. إنه الرافد الأصل لكافة الفروع/المشاكل، كما هو عصا موسى التي يمكن أن تلقم كافة الأفاعي في ذات الوقت. إنه الضرورة التاريخية التي لا تعدوها ضرورة أخرى، والتي كان غيابها السبب السوسيواقتصادي الحقيقي لانهيار الملكية شبه الإقطاعية التابعة العاجزة عن إنجازها؛ ما يجعلها كذلك أساس المشروعية التاريخية ليوليو، والذي بدونه تفقدها (كما حدث فعلاً وانتهت بالانفتاح أواسط السبعينات!)

وتكشف محاولات يوليو عبر ثمانية أعوام اجتذاب رأس المال الخاص لمزيد من التصنيع، بل وتركها مساحةً له حتى بعد التأميم، عن الدافع الحقيقي لإجراءات التأميم نفسها، فلم تكن الأيديولوجيا؛ أي الاشتراكية هي الدافع له، بل كانت حتمية قيادة الدولة للاقتصاد التابع مفتوح الأحشاء على الخارج وضرورة هيمنتها على الفائض الاقتصادي المُهدر والحاجة لتوجيه الاستثمارات للتصنيع، إنها ضرورة الإنتاج لا الرغبة في العدالة، التصنيع لا الاشتراكية.

أما الإصلاحات الاجتماعية فلم تأتِ لمجرد نزعات شخصية ورغبات زعامة ومساومات سياسية كما يُروّج، بل أساسًا ضمن الحاجة لتنمية الطلب المحلي لمساندة نمو الصناعة المحلية، فلم يكن ممكنًا الاعتماد على هيكل الطلب الاستقطابي الظالم الموروث عن الملكية شبه الإقطاعية في دعم تطور صناعة محلية تلزمه قاعدة طلب مستقرة كمًا وملائمة كيفًا (فحد أدنى من التوافق بين هيكلي الطلب والعرض يمثل ضرورة اقتصادية)، وإن لم يتم ذلك بنجاح كاف بحكم الطبيعة الاجتماعية للنظام، فيما لسنا في محل تفصيله.

لهذا لا يعدو شعار «حتمية الحل الاشتراكي» وقتها كونه غلافًا لهذه الحاجات (قيادة الدولة للاقتصاد، القطاع العام الإنتاجي، إعادة توزيع الدخل)، حتى مع كونه تعبيرًا عن وعي حقيقي –عند أكثر أجنحة النظام تقدمًا- بالعجز التاريخي للرأسمالية المصرية الموروثة عن الملكية عن إنجاز مهمة التصنيع بمُشتملاتها، وفي ضوء ما تم ذكره وقتها من أسباب أخرى كالسياق الدولي والتاريخي والاجتماعي.

فكان اختيار التأميم وإدارة الدولة للاقتصاد والإصلاح الجزئي لتوزيع الدخل اختيارًا أخيرًا مع العجز عن إقناع رأس المال الخاص بالمشاركة في الخطط القومية لتطوير الصناعة، التي مثّل ضعفها ولا يزال أصل العجز في الاقتصاد المصري، والذي اختار ناصر أن يعالجه إستراتيجيًا – على مستوى الهيكل الإنتاجي (التكوين القطاعي والرأسمالي) – لصالح أغلبية الشعب، فيما اختار خلفاؤه أن “يديروه” تكتيكيًا – على مستوى التوازنات الحكومية (المالية والنقدية والتجارية) -، كما يحدث الآن بفجاجة، ولو على جثة تلك الأغلبية!

المراجع
  1. د. حسين خلّاف، التجديد في الاقتصاد المصري الحديث، ص 386.
  2. روبرت مابرو وسمير رضوان، التصنيع في مصر (1939-1973م)..السياسات والأداء، ترجمة د. صليب بطري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1971م، ص 62.
  3. د. حسين خلّاف، التجديد في الاقتصاد المصري الحديث، ص 245.
  4. روبرت مابرو وسمير رضوان، التصنيع في مصر (1939-1973م)..السياسات والأداء، ص 139.
  5. روبرت مابرو، الاقتصاد المصري (1952-1972م)، ص 99.
  6. باتريك أوبريان، ثورة النظام الاقتصادي في مصر، ص 130.
  7. روبرت مابرو وسمير رضوان، التصنيع في مصر، ص 127.
  8. باتريك أوبريان، ثورة النظام الاقتصادي في مصر، ص 39، 40 .
  9. د. حسين خلّاف، التجديد في الاقتصاد المصري الحديث، ص 247، 248