في تقرير بعنوان «العالم في 2050»، نشرته شركة «برايس ووترهاوس كوبرز»، وهي شركة استشارية متعددة الجنسيات مقرها لندن، طرحت تنبؤها بالشكل الذي سيبدو عليه النظام الاقتصادي العالمي بحلول عام 2050.

توصل الباحثون إلى أن اقتصاد الولايات المتحدة سيتراجع ​​إلى المركز الثالث – بعد الصين والهند – في عام 2050، وسيتضاعف الاقتصاد العالمي وفقًا للتقرير بحلول عام 2042، بفضل نمو الأسواق الناشئة مثل الصين والهند وإندونيسيا والبرازيل.

إذ من المتوقع أن ينمو اقتصاد تلك الدول بمعدل أعلى من 3.5% مقارنة بمعدل نمو 1.6% فقط للبلدان المتقدمة ككندا وفرنسا وبريطانيا واليابان والولايات المتحدة.

نتيجة لذلك ستتراجع مكانة الاقتصادات الغربية، وستسقط بريطانيا وفرنسا من قائمة أكبر 10 اقتصادات في العالم، لتحل المكسيك ونيجيريا مكانهما، في حين أن باكستان ومصر قد تتغلبان على إيطاليا وكندا من حيث حجم الاقتصاد.

في المقابل، تشير التوقعات السكانية الجديدة إلى أن تسعة بلدان ستشكل أكثر من نصف النمو المتوقع لسكان العالم حتى عام 2050 على رأسهم الهند.

تلك التوقعات تفرض عدة أسئلة حول العلاقة بين النمو السكاني والنمو الاقتصادي، وتأثير التركيبة السكانية على الاقتصاد.

الجدل حول علاقة النمو السكاني باقتصاد الدول

النمو الاقتصادي يشمل دائمًا مكونًا ديموغرافيًّا بحت ومكونًا اقتصاديًّا بحتًا، والأخير فقط هو ما يسمح بتحسين مستوى معيشة الأول.
توماس بيكيتي، عالم الاقتصاد الفرنسي.

منذ عام 1798، سيطرت العلاقة بين النمو السكاني والتنمية الاقتصادية على التحليل الاقتصادي، الأمر الذي مثل نقطة جدل كبير.

افترض الباحث السكاني والاقتصادي «توماس مالتوس» أن النمو السكاني من شأنه أن يُخفض مستويات المعيشة في الدول على المدى الطويل، وذلك وفقًا لنظرية مفادها أنه: «نظرًا لوجود كمية ثابتة من الموارد في الأرض، فإن النمو السكاني سيؤدي في النهاية إلى تقليل نصيب كل فرد من الموارد المتاحة، مما يؤدي في النهاية إلى المرض والجوع والحرب».

وإيمانًا بذلك الرأي، ارتفع التمويل الدولي الموجه لتنظيم الأسرة بنحو كبير في فترة الستينيات والسبعينيات، بهدف خفض معدلات المواليد، وبالتالي معدلات نمو السكان.

الأمر الذي أيده بحث جديد قدمه عالما الاقتصاد «سيندينج» و«بيردسال» وأكدا فيه وجود علاقة سلبية بين النمو السكاني والأداء الاقتصادي، وأن النمو السكاني السريع يمارس تأثير سلبيًّا مهمًّا من الناحية الكمية على وتيرة النمو الاقتصادي، خاصة في البلدان النامية.

في المقابل، ظهر العديد من الدراسات والمؤلفات العلمية التي تُرجع جانبًا كبيرًا من النمو الاقتصادي إلى نمو السكان، باعتبار العامل البشري المحرك الأكبر للاقتصاد.

وفي هذا الإطار خرج معهد «بي دبليو سي» بـدراسته الحديثة نسبيًّا بعنوان «العالم في 2050: كيف سيتغير ترتيب الاقتصادات العالمية بحلول عام 2050»، التي استندت لتقدير معدلات النمو حتى عام 2050 على عدة عوامل، على رأسها النمو في عدد السكان في سن العمل، ومن ثم حجم القوى العاملة المحتمل.

كيف يؤثر التكوين العمري في اقتصاد الدول؟

إن التغييرات الناتجة في حجم سكان العالم وتكوينهم وتوزيعهم لها عواقب مهمة على تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ليو تشن مين، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية.

التغيير في التكوين العمري إما أن يكون فرصة لبلد ما لرفع مستوى مدخراتها واستثمارها في ظاهرة تعرف بـــ «العائد الديموغرافي»، أو أن يكون عائقًا أمام مساعيها لتحقيق النمو الاقتصادي.

على سبيل المثال زيادة نسبة السكان ممن هم في سن العمل، ينعكس إيجابًا على نمو الإنتاج وفرص الاستثمار، لتوفر أيدي عاملة قادرة على العمل لساعات طويلة، ولتمتع لشباب بقدرة أكبر على الابتكار وأخذ المخاطرة.

والعكس صحيح خاصة عند الزيادة النسبية في أعداد المعالين الأطفال والمتقاعدين، إذ عادة ما يصاحب ذلك انخفاض في الإنتاجية مقابل تزايد أعباء الضمان الاجتماعي مما يؤثر سلبًا على النمو والاستثمار.

فـشيخوخة السكان إلى جانب انخفاض معدل المواليد في العالم المتقدم تشير إلى احتمال الانخفاض في معدلات النمو الاقتصادي مستقبلًا.

لذا بدأت بعض الدول الأوروبية في السعي للتغلب على ظاهرة شيخوخة سكانها عبر فتح أبواب الهجرة إليها، مثلما فعلت ألمانيا. فرغم قوة الاقتصاد الألماني فإن ألمانيا تعاني من ترهل سكاني كبير تسبب في عدم قدرة الشركات والمؤسسات على تأمين احتياجاتها من العمالة والموظفين بشكل طبيعي.

الأمر الذي بات يهدد مستقبل الاقتصاد الألماني، لذا تم فتح باب الهجرة لتشجيع آلاف المهاجرين واللاجئين على القدوم لألمانيا والعمل فيها. ووفق التقديرات الرسمية، فإنه من المتوقع أن يتدفق نحو 800 ألف مهاجر بحلول عام 2025 لتلبية ما لا يقل عن 46% من احتياجات أصحاب العمل في ألمانيا.

متى يصبح الهرم السكاني معيقًا للنمو الاقتصادي؟

في عام 2018، تجاوز عدد الذين يبلغون من العمر ما يفوق 65 عامًا عدد الأطفال الذين تقل أعمارهم عن خمس سنوات. ومن المتوقع بحلول عام2050، أن يتضاعف عدد المعمرين الذين تتجاوز أعمارهم 80 عامًا ثلاث مرات.

وبإمكاننا في هذا السياق مقارنة الهرم السكاني وتأثيره على الاقتصاد في 3 نماذج آسيوية مختلفة لمعرفة هذا الأثر.

اليابان

إن تقلص حجم السكان في اليابان يعني تراجع الإنتاجية وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي سنويًّا.
روب كارنيل، كبير الاقتصاديين في آسيا.

في ظل تراجع أعداد المواليد في اليابان منذ النصف الثاني من القرن العشرين، بات كبار السن، الذين تتجاوز أعمارهم 65 عامًا، الشريحة العمرية الأكبر في اليابان بما يمثل ربع السكان.

يخشى الاقتصاديون أن تعيق الديموغرافيا اليابانية النمو الاقتصادي خاصة في ظل وجود مؤشرات على دخول اليابان مرحلة انكماش، إذ سجلت اليابان ثاني أضعف اقتصاد أداءً من بين الاقتصاديات الرئيسية.

ووفقًا لصندوق النقد الدولي، فإنه من المتوقع خلال العقود الثلاثة المقبلة أن تتسبب الشيخوخة في خفض متوسط نمو الناتج المحلي لأقل من 1%، الأمر الذي سيهدد مكانة اليابان الاقتصادية في العالم.

فمنذ بداية تقلص عدد السكان في اليابان في عام 2010، انكمش حجم السكان مليوني نسمة ومن المتوقع أن يتراجع عدد السكان في اليابان بصورة أكثر حدة في السنوات المقبلة، نتيجة لقلة عدد المواليد.

الأمر الذي تجلى في تراجع أعداد الأطفال ما أدى لإغلاق أكثر من 200 مدرسة في جميع أنحاء اليابان خلال عام 2018.

لا يحد تراجع أعداد الأطفال والشباب في اليابان من فرص نمو الاقتصاد فحسب، بل يساهم وارتفاع أعداد المسنين المحتاجين للرعاية والمعاشات والضمان الاجتماعي في إضافة المزيد من الضغوط على الاقتصاد.

وفي محاولة من اليابان لتدارك الأزمة الديموغرافية لديها، باتت الدولة مستعدة لتقبل العمالة الأجنبية، إذ أعلنت الحكومة اليابانية في 2018 عن نظام جديد للتأشيرات يستهدف اجتذاب نحو 345 ألف عامل أجنبي، في المجالات التي تشهد نقصًا في العمالة، كالبناء والتشييد والمطاعم وقطاعات التمريض ورعاية كبار السن.

الصين

ففي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، كانت الأجور في الصين متدنية وعدد العمالة وفيرًا، لذا اتجه صناع السياسة، بالتوازي مع تقديم حوافز للاستثمار الأجنبي في الصناعات التي تتطلب عمالة كثيفة، إلى الحد من زيادة عدد السكان، لاستغلال عوائد التنمية في تحسين جودة حياة الصينيين، بدلًا من استنزافها عبر الزيادة السكانية.

عكفت الصين منذ مطلع الثمانينيات على تنفيذ سياسة الطفل الواحد، التي بموجبها فُرضت عقوبات على المخالفين شملت دفع غرامات والطرد من الوظيفة أو مواجهة الإجهاض الإجباري، في محاولة منها للحد من عبء التزايد المطرد لعدد السكان، الأمر الذي كان يستنزف عوائد نمو الاقتصاد.

فلم يكن لدى صانعي السياسة الصينيين استراتيجية اقتصادية فحسب، بل استراتيجية ديموغرافية اقتصادية معًا.

غير أن متوسط عمر السكان ارتفع سريعًا ليتجاوز 37 عامًا. ازداد المجتمع الصيني شيخوخة، تجاوز عدد المتقاعدين مائتي مليون صيني، بينما ظلت أعداد المواليد منخفضة، رغم إنهاء الصين لسياسة الطفل الواحد، واستبدال سياسة الطفلين بها في عام 2015.

عاد الخطاب السياسي الصيني لمناقشة الملف الديموغرافي من زاوية أخرى، إذ أصبح صناع السياسة في الصين يخشون من أن تعيق شيخوخة المجتمع الصيني المتزايدة أهداف النمو المنشودة، وأن تصبح الصين دولة عجوزًا آفلة قبل أن تصبح دولة عظمى.

الهند

بخلاف الصين لم تهتم الهند بوضع سياسة صارمة لتحديد النسل، الأمر الذي أدى لتضاعف أعداد السكان، ومن المتوقع أن تتجاوز الهند الصين لتصبح أكثر دول العالم سكانًا خلال الـ 10 السنوات القادمة.

وبالرغم من ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي في الهند، فإن فوائد وثمار ذلك النمو لا تتدفق لمعظم الهنود. فالأغلبية في الهند يكافحون لتأمين الاحتياجات اليومية الأساسية، إذ يعيش حوالي 60% من الهنود تحت خط الفقر المقدر ب 3.2 دولار في اليوم.

فأكثر من 30% من الهنود الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و35، لا يجدون فرص عمل مناسبة. يعود السبب بالأساس إلى ضعف برامج التعليم والتدريب، الأمر الذي صير عشرات الملايين من الشباب إلى عمالة غير ماهرة، وهو ما يضطر العديد من الهنود للسفر والعمل بالخارج في وظائف متدنية والقبول بمرتبات قليلة بحثًا عن لقمة العيش.

لم تتمكن الهند من استغلال النمو السكاني والاقتصادي ومواءمتهما معًا مثلما فعلت الصين، بعد أن كان متوسط دخل المواطن الهندي يبلغ ضعف نظيره الصيني في النصف الأول من القرن العشرين، نتيجة لغياب السياسات الاقتصادية المناسبة.

يعني هذا إجمالاً،أنه لا يمكننا القول بأن التركيبة السكانية وحدها تحدد مصير النمو الاقتصادي في دولة ما، لكنها بالتأكيد عامل رئيسي في تحديد إمكانات نمو الاقتصاد. فالسكان يمثلون القوة العاملة والإنتاج والاستهلاك، وإما أن يحولهم صانعو السياسة إلى قوة وإمكانات اقتصادية هائلة أو يصبحون عبئًا على التنمية الاقتصادية في الدولة.