في الآونة الأخيرة ومع الصحوة الإلكترونية لمجتمع الداعين إلى أهمية التعليم المبكر للأطفال، تتجه العديد من الأمهات للتثقف حول الأنشطة والخبرات المناسبة لصقل مهارات الطفل وتنمية عقله ومداركه، وهو أمر محمود جداً، غير أنهن بذلك يحققن نصف المعادلة فقط، فلا شك أن الخبرات التي يتعرض لها الطفل تحفز تكوّن التشابكات العصبية اللازمة لبنية المخ، ولكن مم تتكون هذه التشابكات في الأصل؟

الخلايا العصبية وتشابكاتها الجديدة يتم بناؤها باستخدام أحماض أمينية وبروتينات يستخلصها المخ من الغذاء الذي يصل إليه عبر الدم، لذا فمن البديهي أنه إذا كان هذا الغذاء جيداً، فستنتج تشابكات عصبية قوية وسليمة، وإذا كان الغذاء رديئًا أنتج ذلك تشابكات عصبية ضعيفة ومتهالكة، كما أن نقص بعض العناصر الهامة عن النظام الغذائي للطفل قد تؤدي لمشاكل شائعة مثل ضعف التركيز أو نقص الانتباه، وإضافة عناصر ضارة للنظام الغذائي قد يؤدي أيضاً لمشاكل مثل فرط الحركة، ولكي تكون المعادلة سليمة فلابد أن نحافظ على طرفيها معًا: خبرات مناسبة + تغذية سليمة.

في السنوات الأخيرة ومع رتم الحياة المتسارع، بالإضافة إلى محركات السوق التجارية، تغيرت أنماط استهلاكنا للغذاء، ودخلت المعلبات والوجبات المغلفة والسريعة وفرضت نفسها بقوة ما توفره من وقت وجهد، وإغراء أيضًا، ولنفس الأسباب أيضاً نجد بالسوق العديد من المكملات الغذائية التي يتم تسويقها على أنها الحبل المنقذ لسد ثغرات النظام الغذائي المتداعي، غير أنه لا يختلف أحد على أن حصول الجسم على هذه العناصر من مصادرها الطبيعية بالطريقة التي قدرها الله له أقوى وأفضل كثيراً من تناولها جرعة واحدة مذابة في محلول ملون أو مغلفة بالجيلاتين.

في هذا المقال سأحاول وضع إطار عام لخطة إصلاح النظام الغذائي للأسرة، وأقول للأسرة وليس للطفل لأنه من غير المنطقي أن تمنع عن الطفل شيئاً يراك تتناوله، أو أن تدعوه لتناول شيء يراك تتجنبه!

لن أفصّل كثيراً في هذه الخطة، فكل أسرة لها ما يناسبها، كما أن هدفي الأول هو فقط إلقاء الضوء على النصف الغائب من معادلة التعليم المبكر للأطفال حتى يأخذ حقه هو أيضاً من البحث والتعلم والتطبيق بقدر النصف الآخر، فالغذاء مثله مثل الأنشطة والخبرات المقدمة للطفل، كل سن لها ما يناسبها كمًّا وكيفًا.

تنقسم خطتنا إلى خطوتين رئيسيتين: الأولى: تنقية النظام الغذائي الحالي، والثانية: تقديم الأطعمة المفيدة للجسم. دعونا نبدأ في الخطوة الأولى وهي:


تنقية النظام الغذائي الحالي والاستغناء عن الأطعمة التي لا يحتاجها أطفالكم

كثيراً ما سمعنا عبارة «أنت ما تأكله»، وإحدى أفضل الطرق لكي تبدئي حياة أفضل غذائياً لطفلك هو أن تتخلصي من المواد الغذائية الضارة. قومي بعملية تطهير للمطبخ، وخزانة الطعام، والثلاجة، للتخلص من الأطعمة الضارة وغير الضرورية التي يحتويها النظام الغذائي لطفلك مثل:

الأطعمة المعالجة والمكررة

قللي أو أوقفي استهلاك طفلك لمنتجات الحبوب المكررة المعالجة بإفراط مثل الخبز الأبيض والأرز الأبيض والمعجنات والكعك والمكرونة البيضاء وما شابه ذلك، فهي أطعمة عالية السعرات عديمة القيمة الغذائية، وفوق ذلك هي تستنزف العناصر الغذائية المهمة من الجسم لكي يتم تحليلها، كما تعطل الهضم وتخل بتوازن السكر في الجسم.

السكر

يعتبر السكر سبباً رئيسياً للمشكلات الصحية والسلوكية التي يعاني منها الأطفال، وتُظهر الأبحاث أن السكر يمكن أن يتسبب في زيادة سريعة لهياج الأطفال وفرط النشاط لديهم. كما أن له دوراً كبيراً في ضعف المناعة وزيادة الوزن وإصابة الأطفال بالقلق والتوتر.

الملح

يمثل الملح الزائد مشكلة للأطفال، لأن كُلى الأطفال لا تستطيع التعامل معه والتخلص منه بكفاءة. وليست هناك حاجة لإضافة الملح لطعام طفلك، يكفي استخدام بعض التوابل والأعشاب، جربي الطهو لطفلك دون ملح، أو اقتصري على استخدام كميات قليلة جداً من ملح البحر.

ضعي في اعتبارك أيضاً المنتجات التي تحتوي على الأملاح مثل المخللات والمعجنات وأصناف الوجبات الخفيفة مثل البسكويت، بل وبعض الحلويات أيضاً.

الدهون

و هنا لنا وقفة مهمة فليست كل الدهون ضارة. بعض الدهون، التي تسمى الدهون الأساسية، تعتبر ضرورية لعمل المخ والعينين والجهاز الهضمي وأجهزة أخرى كثيرة بالجسم، وهذه الدهون لا يجب استبعادها من غذاء الطفل ولا حتى تقليلها. لذلك فإنني لا أنصح بإخضاع الطفل لنظام غذائي خالٍ من الدهون، ولكن احرصي فقط على أن تكون الدهون التي يتناولها الطفل من مصادر الدهن الأساسي، وهي الدهون الأحادية أو المتعددة غير المشبعة (أوميجا-3،6،9) والموجودة في زيت الزيتون والمكسرات والبذور والأسماك الزيتية.

و قللي جداً من الدهون المشبعة والمتحولة والمهدرجة والتي يمكن أن تجديها في الأطعمة المقلية والوجبات السريعة وبعض الوجبات الخفيفة مثل البسكويت والكيك والحساء سريع التحضير.

الأطعمة الرديئة أو التافهة «Junk foods»

وهي أي أطعمة تحتوي على الكثير من السعرات الحرارية بينما تكون قيمتها الغذائية منخفضة جداً مثل أصناف الأطعمة السريعة البورجر والهوت دوج والناجتس والمقليات، والأطعمة الشحمية المقلية مثل شرائح البطاطس والمقرمشات، والأطعمة السكرية مثل الشكولاتة والحلوى.

الإضافات الغذائية

يجب الحذر تمامًا من الإضافات الغذائية التي يعمد إليها المصنعون لتحسين لون المنتج أو نكهته أو إطالة صلاحيته، تشمل هذه الإضافات المواد الحافظة والألوان الصناعية والنكهات والمُحليات ومضادات الأكسدة الصناعية، والعديد من هذه الإضافات تتسبب في استجابات تحسسية لدى الأطفال، و فرط النشاط ومشاكل في الهضم.


كانت هذه بعض النقاط التي يمكنك أن تبدئي بها في خطتك لتنقية النظام الغذائي لطفلك، يمكنك وضع قائمة أكثر تفصيلاً بالعناصر التي قررتِ الاستغناء عنها واستبعادها من منزلك.

الآن سنتطرق للمرحلة الثانية من الخطة، وهي تقديم الأطعمة المفيدة التي تنمي طفلك وتقويه، فالحفاظ على صحة الطفل لا يعني وضع قائمة طويلة من «الأطعمة المحرمة» وحسب، بل إن أهم أوجه التحول من نظام غذائي غير صحي إلى آخر صحي هو أن تجدي البدائل الصحية، والخبر السار هنا هو أن تلك البدائل لا حصر لها.

ولكي تحافظي على صحة طفلك، التزمي بقاعدة الـ75%، أي أن يكون 75% على الأقل من غذائه صحياً، والـ25% الباقية تتركينها للأوقات التي لا يمكنك السيطرة فيها على ما يأكله أو يشربه. فإذا كان كل الطعام الذي يأكله في البيت صحياً، فلن يضيره كثيراً لو حدثت بعض الاستثناءات فيما يأكله في الحفلات، أو بيوت أصدقائه.

حسناً، والآن ما هي الأطعمة التي يجب الاهتمام بها؟

الفواكه والخضراوات، لا سيما النيئة

فهذه أطعمة غنية بالفيتامينات والمعادن الضرورية لصحتنا، كما أنها غنية بالكيميائيات النباتية ومضادات الأكسدة التي تقوي جهاز المناعة وتقي من الأمراض. كما تحتوي على إنزيمات وألياف تساعدنا على هضم الطعام وامتصاص العناصر الغذائية منه، ويحتاج طفلك لثلاث حصص من الخضراوات يومياً. حجم الحصة يعادل تقريباً الكمية التي يستطيع الطفل أن يمسك بها بيد واحدة. مثلا: ثمرة طماطم صغيرة + ملء ملعقة كبيرة من الخضراوات المطهوة+ نصف جزرة، ويحتاج أيضاً حصتين من الفواكه يومياً. مثلاً: تفاحة صغيرة ونصف ثمرة مانجو.

الدهون الأساسية

و هي تلعب دورًا مهمًا في كثير من أوجه الصحة وتكوين الأعضاء ووظائفها مثل إنتاج الهرمونات وتركيب الغشاء الخلوي ووظائف المخ والجهاز العصبي، والهضم والامتصاص، وعمليات أخرى لا حصر لها.

و من الضروري أن نحصل على هذه الدهون من الغذاء، لأن أجسادنا لا تستطيع تصنيعها.

  • أوميجا 3 و6 : توجد هذه الأحماض الدهنية الأساسية في الزيوت المعصورة على البارد مثل زيوت زهرة دوار الشمس وبذر الكتان، وأيضاً الأسماك الزيتية مثل السردين والسلمون، لكن من المهم جداً ألا تستخدمي هذه الزيوت في الطهو، فالحرارة تغير تركيبها الكيميائي مما يجعلها ضارة بالصحة.

و إذا لم يكن طفلك يعاني حساسية للمكسرات والبذور النيئة الطازجة، فإنها تعتبر بالنسبة له مصدراً ممتازاً للزيوت الأساسية الضرورية لنمو المخ، وتقوية الذاكرة، وزيادة مستوى الذكاء.

  • أوميجا 9 : تعد ثمار الأفوكادو والزيتون من مصادر الأوميجا 9، كما أن زيت الزيتون يحتوي على أوميجا 9 بالإضافة لدهون تعتبر أساسية لكنها تعمل أيضاً كدهون تكاد تكون مشبعة، مما يجعل تركيبها الكيميائي أكثر استقراراً وبالتالي ملائمة أكثر للطهو.
  • الزيوت المركبة : وهي المنتجات التي تشمل مزيجاً من زيوت أوميجا 3 و6 و9 بنسب مثالية، يمكن إعطاء الطفل ملعقة أو ملعقتين صغيرتين منها يومياً أو وضعها مع العصائر والأطعمة غير الساخنة.
  • الحبوب

يكثر وجود القمح في الأطعمة المحيطة بنا فهو رخيص ويسهل الحصول عليه، تكمن المشكلة في أن القمح في وقتنا الحالي يزرع بانتقائية بهدف الإنتاج الضخم والاستخدام التجاري واسع النطاق، ويرش بمواد كيميائية متعددة، كما أنه يحتوي على نسب عالية من الجلوتين.

فإذا تحتم أن يتناول ابنك منتجات القمح، فاحرصي على أن تكون مصنوعة من حبوب القمح الكاملة ليحصل على جميع عناصرها الغذائية، ومن الأفضل إضافة أنواع أخرى من الحبوب إلى وجباته وأكلاته الخفيفة. والطبيعة تحتوي على تشكيلة واسعة من الحبوب التي يمكنك إضافتها، فقط احرصي على استخدام الحبوب الكاملة الغنية بالألياف النباتية والكثير من العناصر الغذائية الضرورية للصحة وابتعدي قدر الإمكان عن الحبوب المكررة والمعالجة.

تشمل الخيارات المتاحة لكِ حبوب الأرز الأسمر، والشوفان، والجاودار والدخن والكينوا.

البروتين

وهو لبنة البناء الأساسية لجميع أنسجة ووظائف الجسم تقريباً وهو ضروري للنمو وتطور الجهاز العصبي، ويمكننا أن نجد البروتين عالي الجودة في اللحوم الصافية الخالية من الدهن، والدواجن والمأكولات البحرية، كما يوجد في الفول والبقول والمكسرات والبذور والبيض.

حاولي أن تدخلي صنفًا من البروتين عالي الجودة في كل وجبة وكل وجبة خفيفة تقدمينها لطفلك فهو يلعب دوراً كبيراً في تحقيق التوازن لسكر الدم مما يساعد في منع التقلبات المزاجية ورفع مستويات التركيز والطاقة.

المشروبات

يحظى الطعام باهتمام كبير للحصول على صحة أفضل لدرجة أن الناس كثيراً ما يتجاهلون المشروبات!

إن ما يشربه طفلك له نفس أهمية ما يأكله، ولكي تساعدي طفلك على الاحتفاظ بصحة طيبة تجنبي بعض المشروبات مثل القهوة والشاي والكولا والعصائر المُحلاة، وقدمي المزيد من العصائر والمخفوقات الطازجة، والفرق بينهما هو أن العصائر يتم استخلاص الماء والسكريات اللذين يشكلان المكونين الرئيسيين للعصير، بينما المخفوقات حيث يتم خفق الثمرة كاملة مما يجعل الناتج أكثر كثافة ورغاوة وأيضاً أكثر تغذية، إذ تدخل فيها القشرة والألياف واللب بجميع عناصرها الغذائية.

الماء

ينبغي أن نعود أطفالنا منذ نعومة أظفارهم على اكتساب عادة شرب الماء، فالماء لا يطفئ الظمأ فحسب ولكنه يغسل الجسم من الداخل من السموم ويساعد في عملية الهضم ويعزز التركيز.

قدمي الماء لطفلك على معدة خاوية في الصباح وعقب أي نشاط بدني وكميات قليلة في أوقات الوجبات، خذي معك زجاجة ماء لأي مكان تذهبين إليه مع أطفالك، حاولي ألا يقل المجموع عن 8 أكواب يوميًا.

الآن وبعد أن تحدثنا عن الإطار العام لخطة إصلاح النظام الغذائي، وقبل أن أنهي المقال أود الإشارة لنقطة هامة:

قد لا يعي طفلك بعد لماذا يتم حرمانه من بعض الأصناف، وتشجيعه على تناول البعض الآخر، وما لم تساعدي طفلك على استيعاب أهمية الغذاء الصحي لجسمه، وضرر الأطعمة الرديئة عليه، فتوقعي مخالفات كثيرة منه لا سيما عند غيابك عنه!

لذلك حاولي أن تشركي طفلك معك في تنفيذ هذه الخطة وفي اختيار الأصناف وفي ابتكار طرق الطهو، اقرئي معه عن جسم الإنسان وعن التغذية السليمة وقوموا بالعديد من الأنشطة المرحة والمشاريع المسلية لتعزيز هذه الفكرة ولإكسابه هذه العادة عن اقتناع وليس عن اتباع، حتى يستطيع أن يتخذ قراره بنفسه مستقبلاً مع كثرة الخيارات الرديئة أمامه وإغرائها له، ولا تفكري أنه ربما يكون صغيراً على استيعاب معلومات كتلك، فهو أذكى كثيراً مما تتخيلي، فقط قدمي المعلومات بطريقة مبسطة وجذابة، وكرري تقديمها بأشكال مختلفة على فترات متفاوتة حتى تلاحظي أنه بدأ ينفذها بنفسه دون توجيه مباشر منك.

أتمنى لكم حياة صحية سعيدة، ودمتم بخير.

المراجع
  1. كتاب I want healthy kids لأخصائية التغذية ا/ علياء المؤيد
  2. دراسة عن تأثير الألوان الصناعية على الأطفال وعلاقتها بفرط الحركة
  3. دراسة عن تأثير السكر على سلوك الأطفال