الأطفال هم مستقبل الأمم

الدول التي تؤمن بهذا المصطلح تعرف قيمة مرحلة الطفولة المبكرة جيدًا، إنها تلك الفترة التي تسبق ولوج الطفل لمجتمعه وثقافة بيئته، سنوات الغرس الأولى التي تحفر في وجدانه وتستمر ثمرتها معه طوال حياته، هذا الإيمان يتطلب من تلك الدول النظر بجدية للسنوات الثمانية الأولى في حياة الطفل والتمهيد لها بنظام رعاية شامل يضمن تلبية احتياجاته العاطفية والمادية واللغوية والاجتماعية والفكرية، وهي السنوات التي تحددها «الرابطة الوطنية لتعليم الأطفال NAEYC» كأسرع مرحلة للنمو والتطور يمر بها الطفل.

ولكن مع واقع وجود اختلافات عظيمة بين سياسات الحكومات ومواردها والثقافات المتعددة حول العالم تنوعت منهجيات التعليم المبكر للدول المختلفة.

الولايات المتحدة الأمريكية

ينقسم التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية لتعليم خاص وعام، حوالي ثلثي أطفال الولايات المتحدة بين 3-6 سنوات يلتحقون بمراكز تقدم برامج ما قبل المدرسة أو روضات الأطفال أو مراكز الرعاية النهارية، على الرغم من أن الالتحاق بأي من هذه المراكز ليس إلزاميًا في غالبية الولايات، النمط السائد لشكل الفصول في الولايات المتحدة الأمريكية هو الأقرب لشكل فصول الروضات والحضانات في المنطقة العربية بالطاولات الدائرية والمقاعد الصغيرة واللوحات والملصقات للأبجدية والخرائط وجداول الأرقام وبعض لوحات الأطفال الفنية، مع بعض الاستثناءات في الروضات الخاصة التي تتبع فلسفات مختلفة في التعلم كفلسفة منتسوري، أو المراكز التي تنتهج نهجًا دينيًا محددًا وتؤكد غرس قيم محددة في الأطفال، الهدف الأساسي الذي تطمح له مراكز التعلم ما قبل المدرسة بأنواعها هو الجانب الأكاديمي الذي يؤهل الطلبة للالتحاق بالمراحل التالية في التعليم، ويكون هذا على حساب اللعب الحر والاستكشاف، ويتم استخدام الكتب وأوراق العمل والتقييمات بشكل مكثف، حتى أنه متوقع من الطفل في نهاية مرحلة رياض الأطفال أن يكون قادرًا على الأقل على العد والجمع والطرح وتهجئة الكلمات بشكل صحيح!

الدول الآسيوية

دول مثل اليابان والصين وكوريا الجنوبية فيها تعليم الصغار أقل من 6 سنوات يكون تعليمًا خاصًا، وذلك لأن نظم التعليم الإلزامي لا تغطي سنوات ما قبل المدرسة، وإن كانت تخضع للإشراف والرقابة عليها، ولكنه تعليم غالي الكلفة وصعب الالتحاق به، فالأمر قد يتطلب وقتًا طويلًا لقبول الطفل، يعتمد التعليم المبكر في هذه الدول على الوتيرة السريعة والعمل مع الأطفال بشكل جماعي، وليس فرديًا، فالمهم هو نجاحهم كمجموعات معًا، يعتمد تعلم الصغار على التكرار مع الاهتمام بالتفاعل الاجتماعي والتعاون مع الآخرين للوصول لهدف مشترك وتنمية مهارات التواصل واللغة، ويتم التركيز بشدة على الرعاية الجسدية للأطفال ولياقتهم البدنية. لا تدرس غالبًا الأكاديمات كالأرقام والحروف، لأنه من المتوقع أن يقوم بهذه المهمة الآباء في المنازل. في العقد الأخير استطاعت دولة مثل سنغافورة تغيير الكثير في سياسة تعاملها مع التعليم المبكر وأصبحت أقرب للدول الإسكندنافية مما رفع من أسهمها في مضمار تعليم الصغار.

الدول الإسكندنافية

استطاعت دول مثل فنلندا والسويد والدنمارك احتلال مراكز متقدمة على مستوى العالم في التعليم المبكر للأطفال، أبرز ما يميز هذه الدول عن غيرها هو انتهاج اللعب الحر والتعلم التلقائي خارج الفصول التقليدية من خلال الطبيعة، وفي كل حالات الطقس وظروفه، وهذا يكون بجانب مشاركة الوالدين في الكثير من أنشطة التعلم، توفر البلدية التي يعيش فيها الطفل مكانًا في روضة أطفال أو في مركز لرعايته لنصف يوم مجانًا، أو يوم كامل، ولكن لا يكون الالتحاق مجانيًا تمامًا، بل مدعومًا بشكل كبير، وتحدد القيمة المدفوعة حسب مستوى دخل والدي الطفل، وقد يعفى الآباء تمامًا من المصروفات في حال انخفاض دخلهم. الهدف الأساسي في هذه المرحلة لا يكون الأكاديميات ذاتها، ولكن (تعلم كيفية التعلم) واكتساب الطفل صورة ذاتية إيجابية عن نفسه ومن حوله، وتنمية المهارات الأساسية.

تنص الوكالة الوطنية الفنلندية للتعليم على أن تعلم الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة في مختلف المجالات يكون وفقًا لقدرات واهتمامات الطفل، حتى وقت قريب لم يكن يسمح في دولة مثل فنلندا بتعليم طفل دون السادسة القراءة على الإطلاق، ولكن الآن تغير الأمر وأصبح هناك حرية أكبر ومساحة أوسع للموجه أن يساعد الطفل على هذا إن أبدى اهتمامًا واستعدادًا، وهذا يعني بالضرورة أن يكون تعلم الأطفال بشكل فردي كلًا وفقًا لاهتماماته بشكل يدعم استقلاله ويبرز مواهبه الخاصة. فمن النادر أن تجد الأطفال في هذه المرحلة يصطفون حول طاولة ممسكين أوراقًا وأقلامًا، ولكن الطبيعي جدًا أن تجدهم يلعبون في الوحل ويبنون السدود بالحجارة أو يتسلقون الأشجار ويمارسون لعبة المتجر التخيلي، فيبيعون منتجات لبعضهم ويعدون أموالًا رمزية للشراء!

هل يختلف الأمر بين أطفال العالم؟

في دراسة أجراها «سباستيان سوغات Sebastian P. Suggate» من قسم علم النفس التربوي في جامعة أوتاجو في نيوزيلاندا عام 2009 على مجموعتين من الأطفال في عمر الحادية عشرة، مجموعة منهم من مدارس تتبع فلسفة رودلف شتاينر، وهي تنتهج تأخير التعليم الأكاديمي لما بعد سن السابعة، والمجموعة الأخرى تضم أطفالًا تعلموا في المدارس الحكومية في نيوزيلاندا، والتي تبدأ تعليم القراءة للأطفال في الخامسة من عمرهم، وقت إجراء الدراسة كان الأطفال من المجموعتين متساوين تمامًا في مهارات القراءة!

وهناك العديد من الدراسات التي تثبت أن الجانب الأكاديمي لا يختلف كثيرًا بين الأطفال، سواء تعلموا في سن صغيرة أو كبيرة، وأن الجهود المبذولة لدفع الأطفال دفعًا لتعلم شيء لا يرغبون فيه هو هباء منثور.

خسائر التعليم الأكاديمي المبكر

حول العالم هناك العديد من الأطفال دون الست السنوات يناضلون مع نفس التحديات، تحديات تحملهم ما لا طاقة لهم به من تعلم لم يطلبوه ولما يأتِ أوانه، وإن رغبوا أو طلبوا تعلمًا أو استكشاف شيء فغالبًا لن يلتفت إليه، وإن انتبه أحد لهم فقد تستقبل رغبتهم هذه بالتجاهل أو السخرية، وإن وجدوا ما يحتاجونه من دعم ومساعدة فقد يردون إلى داخل الجدران خوفًا عليهم من الخروج لعالم مليء بالمخاطر والعنف، والنتيجة أطفال يجلسون أمام الشاشات ملجمين بدلًا من اللعب والتأرجح، وذلك لإلهائهم عن شغفهم بالحرية والمتعة.

أما ما يخسره الأطفال الصغار مع سنوات عمرهم الأولى المهدرة بين جدران مغلقة هو متعتهم ونشوة المرح والانطلاق والعديد من مهاراتهم الحياتية ونظرتهم الإيجابية عن أنفسهم في ظل بيئة تنافسية استهلاكية. يخسرون الكثير من “ما قبل محو الأمية” فقبل أن نمحو أميتهم للقراءة والكتابة هناك بساط روحي يراد أن يغزل بنسيج قوي يستطيع لاحقًا حمل نقوش العلم وربطها ببعض، ثم تشكيلها تشكيلات فريدة ومميزة من قبل كل طفل. فكل ما يتعلمه الطفل في هذه المرحلة دون إرادته وبلا متعة ومرح فهو ذاهب ولا يبقى له منه إلا الفتات.