إن أمك كانت ترسلك إلى المدرسة بعد أن أصبحت في سن استيعاب الكتابة وكانت تهتم بك يوميًا بالخبز والشعير في بيتها.

الدلائل الكثيرة تشير إلى أن المصريين القدماء وصلوا لمستوى عالٍ من منظومة التعليم والاهتمام به، وما وجدوه في بعض المقابر مثل مقبرة «توت عنخ آمون» ومقبرة «بتاح حتب» من فصل مدرسي وبرديات وأدات مدرسية، يخبرنا عن شكل التعليم في هذه الآونة، وهناك وثيقتان بهما إجابات على نطاق واسع عن التعليم في مصر القديمة:

وثيقة «بتاح حتب» و«كاجمني»، ورغم العثور عليهما في الدولة الوسطى فإن «هيلموت برونر – hellmut Brunner» أرجعهما إلى الدولة القديمة -لأن صورة التربية بهما مختلفة عن طبيعة الدولة الوسطى- وبعض التعاليم والرسائل الأخرى التي وجدت على برديات مختلفة، وأحيانًا كسور من الحجارة، ومنها تعاليم «خيتي بن داووف»، فالسؤال في ظل كل ذلك هو:

«ما الذي كان المصريون القدماء يعرفونه عن كيان الطفل؟ كيف كان موقفهم من بناء الشخصية وإمكانية تطويرها لديه؟ كيف كان شكل المنظومة التعليمية لديهم؟»

تساؤلات كثيرة عما حملته طيات النصوص التي خلدتها الجدران والبرديات فخلدت التعليم في مصر القديمة وفي عصر من أهم عصور الحضارات، تأملات طرحها «هيلموت برونر – hellmut Brunner» في كتابه «التربية والتعليم عند المصريين القدماء».

كتب, التربية والتعليم عند القدماء المصريين, تاريخ, تعليم, حضارة مصرية قديمة
كتاب التربية والتعليم عند المصريين القدماء — تأليف: «هيلموت برونر hellmut Brunner» — ترجمة: مصطفى عبد الباسط — مراجعة: «محمد أبو حطب خالد» — المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2011. بتاح حتب

مُعلِّم وكتابٌ وتلميذ.. في «دار الحياة»

المدرسة

في الدولة الحديثة بدا مشهد أوضح لشكل المدرسة لدى المصريين القدماء، إذ وجدت نصوص مدرسية حقيقية على أوراق البردي والقطع الحجرية والألواح الخشبية، كما وجدت كراسات لواجبات مدرسية داخل الحصة، وعُثر أيضًا على برديات توضح بعض نظريات التربية والتعليم وتُرغّب التلميذ في التعليم من أجل الوصول إلى مراتب عليا في القصر الملكي، وأغنيات تغنّوا بها للمعلم عرفانًا له. وعثر العلماء على بقايا هذه المدارس، ولم تكن هناك قاعات للدرس فالتعليم كان تحت سماء مكشوفة.

وكان التلاميذ يؤدون واجباتهم المدرسية على كَسْرِ الأواني الحجرية والجيرية لأنها الأرخص. من تلك المدارس، المدرسة التي وُجدت خلف صالات المعبد الجنائزي لرمسيس الثاني غرب الأقصر.

الكتاب المدرسي

في عصر أحدث عُرف الكتاب المدرسي وسُمي «كيميت – kemet» وهي كلمة فرعونية، كما يقول مؤلف الكتاب، بدأ استخدامها من الأسرة الثانية عشرة، وهي أقدم أثر على الإطلاق يتحدث عن المدارس المصرية، ونرى خلالها رجلاً عاديًا بلا لقب، يسافر من الدلتا إلى الجنوب حيث مقر الحكومة ليلحق ابنه بمدرسة الكاتبين.

وفي وثيقة لـ«خيتي بن بيبي» يعطي إشارات عما كان يجب أن يقوم به بعد عودته من المدرسة ظهرًا، حيث وقت الانصراف، فكان عليه أن يهتم بكتاب المدرسة كيميت وهو تعليم أساسي، يليه تعليم آخر يصاحب فيه التلميذ موظفين أو حرفيين حسب اختياره، وهو ماما يش التعليم المعاصر، بل المفارقة الأكبر أن المصري القديم كان يقرأ في المراحل الأولى التعاليم الكلاسيكية، ثم يتناول الخطابات الرسمية والحسابات والضرائب، كما وُجِد تعليم رياضي وفقًا لحديث خيتي الأسيوطي أنه تعلم السباحة في البلاط الملكي مع الأمراء، كما حوت المناهج الأدب أيضًا، إذ قال الملك خيتي من الأسرة العاشرة لابنه كارع: «لا تقتل شخصًا عرفت فيه جانب الخير وغنّيت معه الأناشيد».

المعلم والتلميذ

قام نظام التعليم في الدولة القديمة على النظام الأسري، فالتلميذ يبيت في بيت معلمه بشكل تام، يعتني بمال معلمه وتدبير بيته، أما الدولة الوسطى فجاء فيها أقدم ذكر لكلمة فصل مدرسيفي عصر الاضمحلال الأول الذي تلا انهيار الدولة القديمة، ففي مقبرة حاكم أسيوط، ذُكرت لأول مرة كلمة مدرسة بالمصرية القديمة (قاعة الدرس)، وللأسف كان النص مهشمًا فلم يُستدل على معالمه كاملة، وذُكر في المعلوم منها نص:

«كل كاتب وكل حكيم والذي ذهب إلى المدرسة إذا مر بهذا القبر وتعامل بالبر وصلى صلاة القرابين، فسأعمل من أجله في الحياة الأخرى»، وقد وجّه المتكلم كلامه في النص بشكل مقصود إلى الذين يقرأون والموظفين والحكماء، وهو ما يدل على بدء التعليم بشكل جماعي في تلك الفترة، بدلاً من رعاية طالب واحد حتى يكبر، وفي الغالب كانت البداية من الأسرة العاشرة في الدولة الوسطى.

ولا ننسى أن كل تلك المشاهد البديعة التي تحاصر زائري مقابر المصريين القدماء، ومنها ما يتم النزول إليه عبر ممر أرضي بطول 15 مترًا، يصعب فيه التنفس، يوجد عليها الكثير من الكتابات المعبرة عن صاحب المقبرة، والتلاوات الدينية الخاصة والصلوات والنظريات الحياتية والمرتبطة أيضًا بالعالم الآخر، جميعها كان على من يكتبها أن يجيد القراءة والكتابة، حتى يتمكن من تغطية الممرات والحجرات الصغيرة للمقابر الملكية بالكتابات المصوّرة.

كانت أم التلميذ هي التي توصله إلى المدرسة يوميًا وليس الأب.

أما علاقة المعلم بالتلميذ فنقلها لنا أحد الخطابات من كاتب إلى معلمه يدعوه فيه إلى زيارته: «لقد صار قلبي متبرمًا ولكنني لا أستطيع أن أتحدث لك بهذا في الخطاب». وكانت العلاقة أشبه بعلاقة الأب بابنه ولم تستخدم كلمة أطفال إلا من قبل رجال الدولة المقربين من الملك، وهناك إشارة لطيفة لشكوى طفل من بدايات الأسرة الـ18 يتعلم الكتابة، يقول فيها:

«لو أنه لا توجد مرضعات لارتاح قلبي، المرضعة تقول للطفل حين يبكي أنت شخص سيئ». والجدير بالذكر هنا أن المرضعة هي المرحلة السابقة للمدرسة وتعلّم الكتابة.

عبقريٌ تراه أمه غبيًا.. كالمعتاد

كانت قصة الطفل المعجزة الكاشفة لعبقرية التلاميذ وقتها حكاية “سي أوزوريس”، التي جاءت في المخطوطات أن والده كان كاهنًا في معبد بتاح بممفيس، ودخل الطفل في منافسة مع الكهّان الذين يكتبون النصوص الدينية في بيت الحياة في معبد ممفيس، وكان جميلاً أن تذهب أمه إلى المعلّم لتستعلم عن ابنها سائلة: «هل ابني غبي؟» فطمأنها بأنه موهوب بشكل غير معتاد.

كما حذّر بتاح حتب أيضًا من الأخطار التي تواجه المعلم في عمله، ومنها الغيرة، وذكّره بأن الحكمة ليست حكرًا على المتعلمين وحدهم، فمن الممكن أن تكون لدى الطبقات الدنيا من الشعب أيضًا، بل حتى لدى الخادمات «الحكمة مختفية مثل الحجر الكريم».


آراء متخصصة

يقول «أحمد صالح»، مدير عام آثار أسوان، في حوار خاص أجرته معه إضاءات، تعليقًا على المنظومة التعليمية لدى المصريين القدماء:

«إن ملامح تلك الصورة جاءت في كتابات التلاميذ التي وجدت في (در) المدينة عبر الشقافات الفخارية التي كتبوا عليها بعض الكلمات وحكوا عن تجارب التعليم»، وحاول تقريب المشهد لنا فذكر أن التعليم كان في بدايته يشبه (الكُتّاب) في القرى، حيث يتجمع التلاميذ والكاتب أو المفكر ليعلّمهم، واتفق بذلك مع حديث «هيلموت برونر – hellmut Brunner» من أن الدولة القديمة لم يكن بها نظام المدرسة، وإنما تعليم من الأسرة لفنون القراءة والكتابة ومبادئ الحساب من أجل الحياة اليومية.

وإذا كانت الأسرة لديها طموح أعلى، ترسل ابنها إلى المدرسة التي بدأت في الدولة الوسطى، في حين لم يُعثر على أي من برديات يتحدث فيها المعلم عن نفسه، إلا وثيقة وحيدة في الدولة الوسطى، تعد سيرة ذاتية للمعلم (بيكن خنسو)، تؤكد دخوله إلى المدرسة في عمر الخامسة، واستمرار تعليمه حتى عمر السادسة عشرة حينما أصبح كاهنًا، أي أنه ظل 11 عامًا يتلقى التعليم.

دار الحياة

ما وصل إلينا كان من كتابات التلاميذ فقط.. والمصريون القدماء عرفوا دار الكتب. «مدير عام أثار أسوان»

يكشف لنا (صالح) عن (دار الحياة) أو الجامعة في الدولة الحديثة التي سميت (در عنخ) وتعني دار الحياة، وتخرّج فيها الكثيرون في فروع مختلفة وقتها، كالطب والهندسة والفلك،في ظل اهتمام الدولة المصرية بكل المجالات، وهى مرحلة يتم الارتقاء إليها بعد الانتهاء من التعليم المدرسي. وُجدت تلك الأكاديميات أو الجامعات في مناطق أونو عين شمس والأقصر، وفي الأغلب كانت تابعة للمعابد، وجاءها الكثير من المؤرخين الإغريق القدامى كأفلوطين وأفلاطون.

وربما لا يعلم الكثيرون أن المكتبة وجدت في منظومة التعليم بمصر القديمة تحت عنوان (الدرمجات)، وكانت أشبه بدار كتب أو مخطوطات حوت كل ماما يتع بالفلك والطب والهندسة والحساب، حتى يطّلع عليها طلاب (در عنخ)، ووجدت في معابد كثيرة كمعبد إدفو وحورس وفيلة وبعض معابد الأقصر.

وفي النهاية يتضح أن للفراعنة نصيبًا من التعليم المدرسي القديم، وأن تعليم العلوم كانت له مكانة كبيرة في مصر منذ آلاف السنوات، ربما أكثر مما هو عليه الآن بكل تأكيد!

إن إلهة السعادة للكاتب على كتفه يوم مولده، اشكر أباك وأمك اللذين وضعاك على طريق الأحياء.

المراجع
  1. التربية والتعليم عند المصريين القدماء، هيلموت برونر، مصطفى عبد الباسط، مراجعة: محمد أبو حطب خالد، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2011.