أحد تعريفات «العلمانية»- بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه- ينسب اشتقاق الكلمة لـ«العِلْم»، ومن هنا فإن العلم- غير الديني- «علماني» أي يُقدم بشكل بحت من دون محاولة ربطه بأي معتقد، ولكن هذا المنطق في الفهم يشوه أو يغيب عند الدول الثيوقراطية (الدينية)، التي لا ينفصل التعليم بها عن العقيدة الدينية كالدولة الفاطمية (297 : 567هـ / 909م : 1171م).

فالتعليم في الدولة الفاطمية لم ينفصل عن الدعوة للمذهب الشيعي الإسماعيلي، فالدعوة كانت هي التعليم، والعكس، وكان التعلم أو الدعوة مسألة يرعاها الإمام (الخليفة) بنفسه وبشكل مباشر، فهو «مستودع الحكمة» كما كان يطلق عليه، والعلم «ثقة أودعها الله فيه»، وفقًا للمعتقد الشيعي.

مصر التي استقرت بها الخلافة الفاطمية كان أغلب مسلميها يدين بالمذهب السني، وهنا المعضلة، إذ كيف سيتلقى المصري السني تعليمًا يرتبط بعقيدة مخالفة لعقيدته، وكيف سيتعامل معه الفاطميون الغرباء الذين دخلوا مصر بعد انتصارهم على الإخشيديين، ويحتاجون إلى القبول الشعبي؟

أسئلة دفعتنا لكتابة هذه المقالة، لشرح نظام التعليم في مصر خلال العهد الفاطمي، كيف كان، وكيف تم التعامل مع معضلة الاختلاف المذهبي بين الحكام الشيعة، والمصريين السنة؟

منهجية التعليم الفاطمي: علم للخواص وآخر للعوام

الطابع العام للتعليم في مصر الفاطمية كباقي العالم الإسلامي لم يكن نظاميًا إلزاميًا، فهو وإن حظي برعاية رسمية من السلطة، إلا أنه كان ممارسة حرة بالنسبة لطالب العلم.

كان الإمام هو رأس العملية التعليمية الدعوية، متدخلاً فيها بقوة ويعتبرها أولوية بالنسبة له، ولذلك كان يتدخل في أدق الأمور، ومنها مثلًا مراجعته للدروس التي ستلقى على الناس بنفسه، سواء كانت في خطبة جمعة أو في حلقات علم، بأي من الأماكن المخصصة للتعليم.

ولتسهيل هذه المهمة سنَّت الدولة وظيفة كبرى هي «داعي الدعاة»، وكان من يتولاها هو الواسطة بين الخليفة (الإمام) والدعاة الصغار أو المشايخ الذين ينشرون الدعوة الفاطمية ويعلمون الناس في كل أراضي الخلافة، فكان هو الذي يعرض على الإمام الدروس التي ستلقى ليراجعها، وينظم مسألة الدعوة والتعليم بشكل عام في الدولة، ولا يخضع لأي سلطة إلا سلطة الخليفة الفاطمي شخصيًا.

ضمن اختصاصات داعي الدعاة تنظيم شؤون ما عرفت بـ«مجالس الدعوة» أو «مجالس الحكمة» والتي كانت تنعقد بالأماكن المهمة في الدولة وعلى رأسها قصر الخليفة الفاطمي، وكان الداعي يرأس هذه المجالس بنفسه نيابة عن الخليفة أو يرأسها الخليفة شخصيًا بعض الأحيان.

المجالس كان هدفها خواص الناس ممن يُعتقد أنهم سيفيدون الدعوة الفاطمية، سواء من الذين أخذ الدعاة عليهم العهد والقسم بالإخلاص للإمام الفاطمي (الخليفة) وللدعوة الإسماعيلية، ممن يطلق عليهم «المستجيبين»، أي المستجيبين للدعوة الإسماعيلية من أهل السنة، أو من الشيعة الأصليين.

كان من الدعاة نحاة ولغويون وأطباء ومتخصصون في الحساب والكيمياء وغيرها من العلوم، وكانوا بجانب تدريسهم لتخصصاتهم يحدثون طلاب العلم عن الدعوة الشيعية الإسماعيلية.

أما علماء الدين الإسلامي، فقد تضمن تعليمهم مستويين، الأول موجه للجماهير بشكل عام، ويتضمن دروس في الفقه والشريعة من منظور شيعي إسماعيلي (في الغالب)، هذه الدروس تتعلق بالموضوعات العامة مثل العبادات والمعاملات وخلافه، وكان يحضرها المسلمون السنة.

وفي أوقات كثيرة كانت نفس الدروس يلقيها فقهاء من أهل السنة، خاصة من الشافعية والمالكية، وسنتحدث لاحقا عن دور المشايخ السنة في التعليم.

أما المستوى الثاني من التعليم فكان يتعلق بالخواص، حيث كانت تعقد «مجالس الحكمة» بمباركة وإذن الخليفة شخصيًا، وبها يجري الحديث بعمق في العقيدة الإسماعيلية، لأن من يحضر هذه الجلسات من «المستجيبين» كان يعد ليصبح داعية في ما بعد.

كانت الأعداد التي تحضر تلك المجالس كبيرة لدرجة أن 11 رجلاً ماتوا نتيجة الزحام في القاعة التي عقد بها الدرس الذي كان يلقيه القاضي محمد بن النعمان في القصر، في أحد أيام ربيع الأول 385هـ/ يونيو 995م، وأمر الخليفة العزيز بالله بتكفينهم على نفقته.

وكانت تعقد جلسات خاصة للنساء «الخواص» أيضًا في جناح منفصل بقصر الخلافة.

مؤسسات التعليم الفاطمية

الأزهر: لم يكن مركزًا للدعوة في بدايته

كما هو معلوم شيد الجامع الأزهر بأمر من الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، بالقرب من قصر الخلافة، وافتتحت أول صلاة به عام 361هـ/ 972م، وكان يسمى «جامع القاهرة» في البداية، بحسبما تذكر المصادر الفاطمية، قبل أن يأخذ اسمه الذي عرف به لاحقًا.

وفي بداية افتتاحه لم تُقم به دروس دينية ولم يكن مركزًا لنشر التشيع، ولكن بعد 16 عامًا من افتتاحه، أشار الوزير يعقوب بن كلس على الخليفة الفاطمي العزيز بالله أن يحوله إلى مركز تعليمي دعوي شيعي، فوافق في عام 378 هـ/ 988 م وأصدر قرارًا بتعيين 37 عالمًا من الفقهاء الإسماعيلية للتدريس به، وأنشأ لهم دارًا للسكنى بجوار الجامع.

اقتصر التدريس في البداية على العلوم الدينية، وبعد ذلك تشعبت الدراسة به لتشمل العلوم الدنيوية.

دار الحكمة: أرقى مراكز التعليم الفاطمي

كانت دار الحكمة التي افتتحت في 395هـ في عهد الحاكم بأمر الله، محاكاة لنفس المركز العلمي الذي أنشأه العباسيون في بغداد، ضمن التنافس بين الخلافتين على الزعامة، فأنفق عليها الخلفاء الفاطميون بسخاء لتتفوق على نظيرتها في بغداد.

كانت دار الحكمة أرقى مركز تعليمي في القاهرة، فهي بمثابة أكاديمية للدراسات العليا جذبت الطلاب من جميع أنحاء العالم الإسلامي.

بها دُرست علوم مثل الفلك والمنطق والفلسفة والرياضيات والتاريخ واللغات والطب، بجانب علوم الدين الإسلامي، وانعقدت بها «مجالس الحكمة» لتعليم العقيدة الإسماعيلية، بحضور الحاكم نفسه أحيانًا، والذي كان يقدم عطايا سخية للمشاركين بهذه المجالس.

أفرد الحاكم ميزانية جيدة بمقاييس هذا التوقيت للإنفاق على الدار، بإجمالي 257 دينارًا من الذهب الفاطمي سنويًا، بيانها كالتالي، وفق ما نقل المقريزي:

12 دينارًا للمياه، 15 دينارًا للفراش، 12 دينارًا للأقلام والورق والحبر، دينار واحد لإصلاح الستائر، 12 دينارًا لإعادة تجليد الكتب، 5 دنانير للحصائر الشتوية، 4 دنانير للسجاد الشتوي، وما بقي يصرف على أي شيء تحتاجه الدار.

الجوامع: مناظرات ومجالس في كل مكان

تختلف الجوامع عن المساجد والزوايا الصغيرة، لأنها لم تقتصر على الصلاة العادية، بل كانت مكانًا لإقامة خطبة الجمعة وإلقاء دروس العلم في حلقات تشبه حلقات الأزهر، حيث يُعين لكل حلقة أستاذ في تخصصه، فنجد حلقة للنحويين وأخرى لأهل الحديث، وأخرى للتفسير… إلخ.

إضافة إلى مجالس العلم التي يعتلي فيها المحاضر كرسيًا ويجلس أمامه الجمهور على أرض المسجد، وهذه مكانة لا ينالها إلا شيخ ذو مكانة، في أي علم من العلوم، ولم تقتصر على العلوم الدينية.

كما شملت الجوامع ما عرف «مجالس المناظرات»، والتي كانت تدور بها نقاشات حول أي قضايا خلافية، وبخاصة في الشريعة أو العقيدة والفلسفة، أو حتى علوم اللغة العربية.

خزانة الكتب الأكبر في العالم

تكاد تكون خزانة الكتب الفاطمية الملحقة بقصر الخلافة هي الأكبر في العالم وقتها أو على الأقل من أكبر المكتبات في العالم، فقد شملت بين 40 و50 قاعة لتخزين الكتب، وبكل قاعة أماكن للجلوس والمذاكرة، والملفت أن كل قاعة اشتملت على فهارس لتنظيم أماكن الكتب وعناوينها وتخصصاتها.

كانت المكتبة خير معين للعملية التعليمية عمومًا، حيث اشتملت على مليون وستمائة ألف كتاب، وكانت تضم كتب السنة بجانب كتب الشيعة، بدليل أنها ضمت ألفًا ومائتين وعشرين نسخة من «تاريخ الطبري»، بحسبما ذكر أبوشامة في «الروضتين في أخبار الدولتين». وفي وصفه لما في الخزانة قال ابن الطوير: «… فمنها في الفقه على سائر المذاهب…».

وفي المكتبة كانت تعقد المحاضرات ومجالس العلم، وكان داعي الدعاة شخصيًا يعقد مجلسين للعلم هناك أسبوعيًا، إضافة لإشرافه الكامل على المكتبة، وتنظيمه دروس العلم بها في كل التخصصات المعرفية لعلماء حاذقين لها.

الكُتّاب: التعليم البدائي لكل الأطفال

بجانب ما سبق كانت هناك الكتاتيب، وهي المختصة بتعليم الأطفال، والتي اقتصرت على تعليم الأطفال والصبية القرآن وأساسيات القراءة والكتابة والحساب، على يد مشايخ لا ينظر إليهم بتقدير كبير في المجتمع المصري غالبًا.

فالكُتاب كان يقدم تعليمًا أوَّليًا ولم يكن يحتاج سوى لشيخ حافظ للقرآن ولديه معرفة مبدئية بالكتابة والقراءة والحساب، وإما أن يكتف به الطفل أو ينتظم بعد ذلك في دروس العلم بالمؤسسات التعليمية الأعلى.

وانقسمت الكتاتيب نفسها لفئتين، إحداها مدفوعة الأجر حيث يدفع خلالها التلميذ أجرًا لشيخه، وأخرى مجانية ملحقة بالأسبلة والمساجد، ويتولى الإنفاق عليها متبرعون من أهل السلطة أو الأثرياء.

ولم يكن أطفال أهل السلطة أو الأثرياء يذهبون إلى الكتاتيب، بل يأتي إليهم مدرسون إلى المنزل قد يقيمون معهم، وفي هذه الحالة يسمى المُدرس أو الشيخ «المُؤدِّب»، حيث يرعى التلميذ في كل شيء، فهو بالنسبة له مرب كما هو معلم.

التعليم السني في ظل الفاطميين: لم يغب أبدًا

خلال العصر الفاطمي كانت فكرة «المدرسة» حديثة في العالم الإسلامي عموما، وبدأت في العراق وخراسان، ولذلك اقتصر التعليم الفاطمي على المؤسسات التي ذكرناها لفترة طويلة، حتى بدأ تنفيذها في العصر الفاطمي المتأخر، أسوة بما كان قد بدأ في بغداد.

والملفت أن المدرستين اللتين افتتحتا في العهد الفاطمي لم يدرس بهما المذهب الشيعي مطلقًا، حسبما يتفق الباحثون.

أول مدرسة بنيت في العهد الفاطمي كانت في الإسكندرية برعاية الوزير السني رضوان بن ولخشي وذلك عام 532هـ/ 1138م، وتخصصت في تدريس المذهب المالكي، وأول مسؤول عنها كان الفقيه المالكي أبو الطاهر بن عوف إسماعيل بن مكي بن إسماعيل بن عيسى.

المدرسة أنشئت بموافقة الخليفة الفاطمي الحافظ لدين الله، الذي أصدر مرسومًا بتأسيسها، وخصص بها مكان لسكن الطلاب، يقدم لهم فيه كل ما يلزم للمعيشة من طعام وخلافه، وسميت المدرسة «الحافظية» نسبة إليه.

وبعد 14 عامًا من افتتاح «الحافظية» أنشأ الوزير السني العادل بن السلار مدرسة ثانية في الإسكندرية لتدريس المذهب الشافعي، وعين الحافظ الشهير أبو الطاهر أحمد بن محمد السلفي مسؤولاً عنها.

ويذكر السبكي في طبقات الشافعية أن ابن السلار بنى هذه المدرسة وهو وال على الإسكندرية قبل أن يتولى الوزارة. وبعد تولي صلاح الدين الأيوبي الوزارة في عهد آخر الخلفاء الفاطميين بدأت المدارس السنية في التوسع.

التعليم السني لم يبدأ في العصر الفاطمي المتأخر الذي شهد ضعف الخلفاء الفاطميين، وإنما كان سياسة واضحة لدى الخلفاء الفاطميين منذ عهود متقدمة، فالحاكم بأمر الله الذي كان قويًا لدرجة الاستبداد عين خلال السنوات الأولى من إنشاء دار الحكمة مشايخ من أهل السنة بها، وعلى رأسهم: الحافظ عبدالغني بن سعيد، وأبو أسامة جنادة بن محمد اللغوي، وأبو الحسن علي بن سليمان المقرئ الأنطاكي.

ولكن في ظروف غامضة قُتِل أبو أسامة والأنطاكي، فخاف عبدالغني بن سعيد وانكمش وقل نشاطه، ولم يذهب إلى الدار.

ويرجح الدكتور أيمن فؤاد سيد المتخصص في التاريخ الفاطمي أن الحاكم بأمر الله قصد من تعيين مشايخ من السنة في هذا المكان الحساس إضعاف جامع عمرو بن العاص بسحب مشايخه المهمين، وقد كان جامع عمرو معقلًا لأهل السنة حتى في وجود الفاطميين.

وكان جوهر الصقلي القائد العسكري الفاطمي الفاتح لمصر قد أعطى أهلها عهدًا بالأمان، وباحترام مذهبهم السني وعدم فرضه التشيع عليهم، وذلك بموافقة الخليفة الفاطمي المعز لدين الله.

حاول الفاطميون إظهار احترامهم لهذا العهد فلم يجبروا السنة على التشيع- على الأقل بشكل مباشر- بل كانوا يتصرفون بعض التصرفات التي تعطي انطباعًا باحترام أهل السنة، منها توفير كتب الفقه السني بخزانة الكتب الفاطمية.

 إلا أن الدولة بكل جهدها كانت تدعو لمذهبها، وبالتأكيد من كان ينتمي للمذهب الشيعي كان له وضع أفضل سياسيًا واجتماعيًا.

هذه السياسة ربما كانت سببًا في عدم انتشار التشيع بالشكل المطلوب، ففي كل العهود الفاطمية كان أهل السنة كُثُر في مصر، بل كانت هناك مدن بأكملها يسكنها أغلبية سنية، وعلى رأسها الإسكندرية، بجانب المدن التي تحول أغلبها إلى التشيع خاصة في الصعيد كأسوان.

وانعكس ذلك على التعليم حيث كان هناك باستمرار هامشًا للتعليم السني حتى في عهد الخلفاء الأقوياء الأوائل، وفي عهود الضعف الأخيرة اتسع هذا الهامش، نتيجة نفوذ الوزراء السنة.

وساعد على استمرار التعليم السني أيضًا عدم وجود تعليم نظامي إلزامي بالشكل الذي عرف في عهود لاحقة، ما ساعد السنة على استمرار نشاطهم التعليمي بشكل حر، وإن كان بمحاذير وبتقية في أحيان كثيرة.

المراجع
  1. دراسة بعنوان: THE FATIMID EDUCATIONAL ADMINISTRATION IN EGYPT للباحث بالجامعة الإسلامية الدولية في ماليزيا Tahraoui Ramdane
  2. “الدولة الفاطمية” لأيمن فؤاد سيد
  3. “اتعاظ الحنفاء” للمقريزي
  4. “نزهة المقلتين” لابن الطوير
  5. “بغية الملتمس” للضبي
  6. “أخبار مصر” للمسبحي
  7. “كنز الدرر” لابن أيبك الدوداري
  8. “الروضتين في أخبار الدولتين” لأبي شامة المقدسي
  9. “الوافي بالوفيات” للصفدي
  10. “وفيات الأعيان” لابن خلكان