نشطت الدعوة إلى أسلمة المعرفة في الثمانينات، وكانت ريادة هذه الحركة والسبق في التنظير لها من نصيب مفكرين إسلاميين منخرطين في الأكاديميا الغربية.

أحدهما «إسماعيل راجي الفاروقي» (1921-1986)، مفكر وفيلسوف فلسطيني درس بجامعتي هارفارد وإنديانا، ومارس التدريس في عدد من الجامعات الأمريكية، منها جامعة تيمبل، حيث شغل منصب أستاذ الأديان ووضع برنامج الدراسات الإسلامية. وهو أحد مؤسسي «المعهد العالمي للفكر الإسلامي»، بولاية فرجينيا الأمريكية عام 1981.

أما الآخر فهو «السيد محمد نقيب العطاس» (1931-2007)، المفكر والفيلسوف الإسلامي الماليزي واسع التأثير، والذي أسس «المعهد العالي العالمي للفكر والحضارة الإسلامية» (ISTAC)، في كوالالمبور العاصمة الماليزية عام 1987.

بشكل عام، ترتبط الدعوة إلى الأسلمة بالمنتج المعرفي الغربي خلال القرون الأخيرة حصرًا، وترى نفسها نتاج وعي بأثر الفلسفات والمسلمات غير الإسلامية والمنهجيات الأيديولوجية في تشكيل ذلك المنتج. أو كما يقول العطاس:

نؤكد أن المعرفة ليست شأنًا محايدًا، وأنها في الواقع يمكن أن تكون مشربة بروح ومحتوى معينين يتنكران في ثوب المعرفة. ومن ثم فهي بشكلها العام ليست في الواقع معرفة حقيقة وصحيحة، وإنما هي تفسير وتأويل للحقائق من خلال – إذا جاز التعبير – منشور الحضارة الغربية ووفقًا لرؤيتها الكلية للوجود ونظرتها العقلية للحقيقة ولإدراكها النفسي للوجود.[1]
هنا تأتي أهمية الأسلمة، التي يقصد بها العطاس:
تحرير الإنسان أولًا من الموروث السحري والأسطوري والأرواحي والقومي الثقافي، ومن ثم تحريره من السيطرة العلمانية على عقله ولغته.[2]

فإذا كان مشروع الأسلمة ذلك قد جاء كغيره من المشاريع النهضوية – الإحيائية والتجديدية على السواء – كرد فعل أمام الأزمة الحضارية التي تحياها الأمة الإسلامية؛ فقد تميز عن سواه بالاهتمام بخصوصية النظرة الإسلامية إلى العالم ومفرداته، واستهداف إعادة إنتاج قواعد وأساسيات العلوم مجردة من تحيزاتها الغربية ومتسقة مع النظرة الإسلامية، وعيًا من مؤسسيه بأن تبني الرؤية الغربية الثنائية – أو أي رؤية أجنبية عمومًا – للعالم، التي زرعت بالفعل تدريجيًا داخل أنظمة التربية والتعليم المستندة إلى الرؤية الغربية؛ سيؤدي لا محالة إلى تشوش معرفي يستحيل معه الإبداع والتقدم، ناهيك عن الاستلاب الثقافي.

في ذلك السياق، وُجّه قدر كبير من الانتقادات – بطبيعة الحال – إلى كل من عملية التربية وعملية التعليم في العالم الإسلامي المعاصر. وقدم العطاس تصورًا إسلاميًا متكاملًا رآه مخرجًا للأمة من كبوتها، ففيه حل الأزمة الخارجية المتمثلة في التبعية الثقافية للغرب، والأزمة الداخلية المتمثلة في التشويش والاضطراب في توزيع الأدوار وندرة الكفاءات داخل المجتمع المسلم.


التعليم في فكر العطاس

قدم العطـاس رؤيته لمفهوم التعليم في كلمة ألقاها خلال «المؤتمر العالمي الأول للتعليم الإسلامي»، المنعقد في مكة المكرمة عام 1977، تحت عنوان «مفهـوم التعليـم في الإسـلام: إطــار تصــوري لفلســفة إسلامية للتعليــم».

انطلق العطاس في كلمته من المقابلة بين التعريف الغربي للإنسان بالحيوان العاقل (rational) واستخدام فلاسفة الإسلام لمصطلح «الحيوان الناطق». بحيث يصبح النطق علامة على العقل. فالنطق (الكلام) هو القدرة على صياغة الألفاظ لإيصال المعنى، بصورة دالة على ملكة العقل، التي هي في حقيقتها جوهر روحي من مهامه ربط (عقل) عناصر المعرفة بما يقابلها من كلمات.

أما إدراك المعنى فهو إدراك موضع الشيء داخل نظام ما، أي إدراك طبيعة علاقته بأشياء أخرى. فالمعنى صورة ذهنية نعبر عنها بالكلمات. إذن لا سبيل إلى الفهم أو إدراك المعاني إن كان كل شيء في نفس المكان، إن لم يكن ثمة أي اختلاف، أو إن لم يتصف النظام بالثبات، لأن حينئذ ينعدم النظام وتنتفي العلاقات.

ومن أجل تحديد ماهية المعرفة عامة، أشار العطاس إلى نوعي التعريف في العربية؛ أولهما، التعريف بالحد، أي بذكر الصفات الجوهرية التي تميز الشيء عن غيره. وثانيهما، التعريف بالرسم، أي بذكر أعراض الشيء وأوصافه العامة. ويدل الأخير على وجود أشياء لا يمكن خبر جوهرها وحقيقتها، وتحت ذلك الصنف تندرج المعرفة.

فإذا استدعينا التصور الإسلامي للكون بأنه كتاب منظور، فيه الموجودات – بما فيها الإنسان ذاته – كلمات كآيات الكتاب المسطور (القرآن)، تُعَرِّفُه بالخالق الواحد؛ يغدو الانشغال بدراسة تلك الكلمات كمجرد كلمات، كأنما هي شيء مطلق دال على نفسه له وجود مستقل، لهو زيغ عن الهدف الأصلي وحقيقة هذا الشيء. فالكلمات رموز دالة على معنى مستقل عنها، ينبغي دراستها بهدف الوصول إليه، وبهذا تدرك حقيقتها.

لكن هل مجرد إدراك الموضع الصحيح للأشياء من المنظومة الكبرى – منظومة الخلق – بحيث نصل إلى إدراك صحيح لموضع الإله منها وحده يعد تعليمًا؟

يجيب العطاس بالنفي، بل يلزم الفرد حينها ممارسة حياته في اتساق مع تلك المعرفة، لينقلب الإدراك إلى إقرار وتسليم. ذلك على المستوى المادي الذي يشمل الإنسان وعالم الأشياء التجريبية، وعلى المستوى اللاهوتي الذي يشمل الجوانب الروحانية والأخلاقية للوجود الإنساني، تلك مواضع الأشياء الصحيحة، لكن الإنسان بجهله يعبث بها ويفسد نظامها، فيكون الظلم عامة، بما فيه ظلم الإنسان لنفسه.

إذن، يمكن القول إن الموضع الصحيح هو الموضع الحقيقي، لأن الحق هو مطابقة الواقع. فيصبح الإقرار المطلوب نوعًا من التحقيق للمعانى المدركة (المواضع الصحيحة للأشياء). حينها تصبح المعرفة تعليمًا، أي تصبح نوعًا من الغرز التدريجي لإدراك وإقرار بمواضع الأشياء الصحيحة من منظومة الخلق، يؤدي إلى إدراك وإقرار بالموضع الصحيح للإله في منظومة الوجود.


الأدب والتربية عند العطاس

في الجزء التالي من الكلمة، وكذا في كتابه «مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية»، ناقش العطاس مفهوم «الأدب»، الذي يشغل مكانة مركزية في رؤيته لكل من التربية والتعليم في التصور الإسلامي. فإن كان التشويش المعرفي هو أساس الأزمة الحضارية التي تحياها الأمة، فإن أثره السلبي على الأدب أنتج أزمة داخلية تعدت مجال الفكر لتشمل المجتمع نفسه.

فقد ظهر القادة غير الأكفاء، ممن يفتقرون إلى المؤهلات الكافية، فيؤيد بقاؤهم بدوره الأزمة كلها. فما الذي يقصده العطاس بالأدب تحديدًا؟

يمكن القول إن الأدب في أحد جوانبه تقبل لموضع الفرد من منظومة الخلق، تقبلًا يفضي إلى التصالح مع سنة التفاوت في المواهب والملكات، وبالتالي الدرجات. فبخلاف الحضارة الغربية، ليس هدف المعرفة في الإسلام إنتاج مواطن صالح، بل إنسان صالح، ولا يعني ذلك إهمال دور الفرد في مجتمعه وأسرته، بل إن تقبل الإنسان الصالح لموضعه في المنظومة يعني تقبل موضعه في الأسرة والمجتمع، وتحمل مسؤولياته في مختلف أدواره داخل المجتمع.

هنا يتخلص المجتمع من تصارع أفراده على مناصب لا يستحقونها، حيث تقر النفس بالطبيعة التراتبية في النظام الإنساني، من حيث «الإمكانات العقلية والذهنية والمعرفة الروحية»، لكن لا يجوز استخدام ذلك التصور في تأييد نظام ظالم أو مستبد، فليس ذلك نظام في حقيقته، بل هو الفوضى عينها، بل على المجتمع إيكال القيادة إلى أهلها الشرعيين، دون محاباة لقريب أو تعصب للنفس، وفي ذلك نوع من تأدية الأمانات إلى أهلها.

فانعدام الأدب إذًا لا يعني فقط انعدام المعرفة، بل يعني كذلك فقدان الأهلية والقدرة على على تمييز القادة الحقيقيين والاعتراف بهم وتقديرهم […] إن الاعتراف بفضائل الغير وتقديرها لا يعني النظر إليه على أنه رب […] إن ذلك ليس إلا إقرارًا بعلم الله وإرادته وقدرته وحكمته.[3]

إن ذلك التصالح سينهي جانبًا من الأزمة المعرفية، لأن معرفتنا المشوهة لنظرة الإسلام إلى الكون تسمح للفاسدين والمتطرفين بتولي المناصب الدينية والدنيوية، لكن مع تصويب تلك المعرفة وغرز الأدب في النفوس، سيكف المجتمع عن الانخداع بالأدعياء من كل صنف، ومنهم علماء الدين المزيفين الجامدين، وبالتحديثيين الذين ينظرون إلى الماضي تحت تأثير الرؤى الغربية، فيسعون إلى تكييف الإسلام مع مثلهم العليا المستعارة.

كما يندفع ذوو الفكر المسطح إلى تركيز الجهد حول مفاهيم الدولة والأمة في الإسلام، ويهملون مفهوم الفرد على ما له من أهمية. فالقيادة فاسدة، ذلك حق، لكنها نتيجة التشويش والخلط المعرفي وليست علة له.

لننتهي هنا إلى ضرورة إعادة غرس معاني العقل والفضيلة والغاية، وليس السبيل إلى ذلك بعلم النفس بصورته وفلسفته الغربية، بل بالاعتماد على ما وضعه أهل الذكر والبصيرة من العلماء الكبار، لإنتاج نظام تربوي إسلامي ينتج أفرادًا صالحين متعاونين ذوي رؤية واضحة وفكر مستقيم.

لكن ذلك يستوجب مواجهة النزعة الفردية بمسحتها الجاهلية الغربية، والتي تورث الفرد تكبرًا وتمردًا بغير حق، فيرى في نفسه ما ليس فيها، ويبرز لما هو ليس أهلًا له، ويضع أهل الفضل في غير منازلهم فيحرم الناس بذلك الخير الكثير. حتى صار ينظر إلى القرآن كما ينظر إلى سائر الكتب، وصار ينظر إلى الرسول كما ينظر إلى سائر البشر.

فالمشكلة إذا مشكلة تربوية في الأساس، أعني غياب أو انعدام التربية الإسلامية المناسبة، ذلك أن مثل هذه التربية إذا وضعت بصورة منهجية صحيحة ستمنع من دون ريب وقوع التشويش والاضطراب العام الذي يؤدي إلى الزيغ والانحراف في العقيدة والعمل.[4]
المراجع
  1. سيد محمد نقيب العطاس، مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية، محمد الطاهر الميساوي (مترجم)، كوالالمبور، المعهد العالي العالمي للفكر والحضارة الإسلامية ،2000، ص 155
  2. Syed Muhammad Naquib Al-attas, Prolegomena to the Metaphysics of Islam, Kuala Lumpur, ISTAC, 1995, p 44
  3. سيد محمد نقيب العطاس، مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية، مرجع سابق، ص 150
  4. المرجع السابق، ص 138