في صباي سمعت باختلاف حول طبيعة المعرفة التي علمها الله سبحانه لآدم عليه السلام، التي أسماها القرآن «الأسماء» حين قرر «وعلم آدم الأسماء كلها»، ولم يظهر لي وقتها أن طبيعة هذه المعرفة مرتبطة بعملية التعلم بحيث يمكن أن تختلف طبيعة خطة وعملية التعلم باختلاف التأويل!

فإذا صح أن المعرفة مودعة في الإنسان – روحه أو فطرته – من الله جل وعلا مباشرة؛ يصبح هدف عمليات التعليم هو التذكير بهذه المعرفة السابقة المودعة بداخل كل إنسان، وإذا كانت المعرفة مكتسبة من الخارج يصبح تزويد الإنسان بها هو هدف عمليات وخطط التعليم.

حين كنت أقرأ الحديث الشريف: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه»، لم أحسب أنني سأتوقف أمامه يومًا لأسأل: هل الحديث يصف تأثير التنشئة على الفطرة، وكأنه يستنكر تغييرها، أم هو يقرر دور التنشئة الذي لا مفر منه، مما يوجب على المسلمين نفس التأثير؟ وبعبارة أخرى: هل المطلوب هو تحرير الفطرة العارفة من التأثيرات المؤثرة عليها، أم المطلوب هو توجيهها إلى ما يقرر الوالدان ومن يشترك معهما في عملية التنشئة – أنه الصواب؟

هل التعليم هو حث وإيقاظ للوعي الكامن بداخل الإنسان أو إزاحة الركام عنه لينطلق ناقدًا ومغربلًا مستحسنًا ومستقبحًا أم هو تزويد للمتعلمين بمعالم الخرائط والأطر والخطط التي يقررها الآباء والأمهات والمربون، أو المدارس أو السلطات الدينية أو السياسية!

هل نؤمن أصلا بوجود جوهر داخلي علوي أصيل للإنسان هو فطرته أو روحه – على اختلاف التصور – وهذا الجوهر الأصيل هو مختلف كثيرًا أو قليلًا عما توحي به تأثيرات وترتيبات العادات والتقاليد والأصوات المحيطة؟

و بالتالي هل يحرر التعليم هذا الجوهر من الاستقطابات والتأثيرات بل وربما يحفز فيه الوعي الروحي الناقد لها، وبكل تأثير مقيد للفطرة، محاولا تطويعها لمقررات وتصورات ومصالح هذه الجهة أو تلك؟ أم دور التعليم أن يقرر للعقل والروح الخطة الأمثل للضرب في الأرض وتحصيل النجاح؟

هل تهدف التربية، ويساعد التعليم على تحرير هذا الجوهر مما علق به من اشتراطات قبول البيئة المحيطة ومحاولات تطويعها للإنسان؟ أم هما يخلقان بيئة وصبغة وقوة جذب جديدة تحرض الإنسان على الانصياع أو المقاومة لهذه البيئة المحيطة!

هل الإنسان قادر بنفسه، بوعيه الروحي – إذا تحرر – على الوصول إلى الحقائق، ودحض الأوهام، وإصلاح الخلل، والسير في الدروب المتشابكة أم هو مفتقر إلى من يرشده، ويعالجه، ويضع له الوصفات، وإلى من يحميه من أهوائه، ومن مصائد نفسه التي بين جنبيه؟

هل هدف التعليم هو تزويد المتعلم بالإجابات النموذجية للأسئلة المقررة – والمكررة أحيانا – أم تحرير الضمير والعقل والوعي الروحي الذاتي نحو النمو والنضج بخوض الخبرات والتعلم منها والاهتداء في متاهات وتقلبات التيارات والأهواء والتحديات التي تواجه الإنسان في كل عصر؟

وإذا دخلنا إلى غور أعمق نتساءل هل وظيفة السياسة أو أجهزة التربية والتعليم والإعلام والتوجيه أن تقدّم للإنسان نموذجا لما ينبغي أن يكون عليه؟بل هل هذه من وظائف الدين نفسه؟

وهذا النموذج المثالي للفرد وللمجتمع وللدولة الذي ترسمه هذه الأجهزة بالاستناد إلى الدين أو غيره هل تفيد الإنسان والمجتمع أم إنها تظل حبرا على ورق، أو مجرد ترديد لنصوص أو مقولات دون اشتباك مع تحديات واقعية، أو توليد من خبرات حقيقية يخوضها الناس في حياتهم اليومية!

وهل دور مناهج التربية والتكوين هو صياغة الإنسان الحر، أم إعطاءه نوعا من الإشارات التي يستلهمها في حركته الحرة وهو ينمو وينضج ويدور في مدارات أفلاك الوجود وآفاقه؟

هذه تساؤلات في فلسفة التعليم وأهدافه النهائية الكلية الكبرى لم أسمع أحدا يطرحها – على أهميتها – بينما سمعت كثيرا من يطرح كلاما حول التعليم هل يكون دينيا أم مدنيا؟ هل يكون في المدرسة أم في البيت؟ مع تفاصيل كثيرة في نواحي متعددة!

أما إذا نظرنا للواقع المصري – على سبيل المثال – سنجد أن الطفل يولد رائعًا متأملًا ومبدعًا ثم تتداعى عليه الأيدي كما تتداعى الأرضة على قصعتها. فهذا يلقنه وهذا يربيه بالأوامر والتوجيهات وذاك يؤنبه ورابع يقرّعه والأوامر والملاحظات والتوبيخات بعضها فوق بعض تعيد إنتاج التسلط الأبوي بأشكال شتى وتحت رايات شتى.

النتيجة إنسان ممسوخ تتلاعب به الريح وتتراكم في روحه التشوهات وتظهر هشاشة تكوينه مع أول نقاش يتحدى ثوابته الموروثة وأفكاره المدسوسة وتدينه المغشوش!

كرة تتلاعب بها الأقدام من تعليم تلقيني معلّب أو مؤدلّج، وإعلام تسطيحي موجّه، أو جذب جماعات العنف المسلح المتسربل بديباجات دينية!

بين مناهج إعادة إنتاج التسلط الأبوي في أشكال متنوعة دينية أو وطنية فاشية، وبين محاولة تحريره منه لمصلحة تسلط الدولة كمرجعية عليا فوق المساءلة والنقد، أو تسلط منطق السوق، أو غرائز الجسد، أو خليط من هذا وذاك، ضاع الإنسان، وضاعت روحه، وضاع جوهر صوته الداخلي الأصيل وسط ضجيج الأصوات.

هذا الإنسان – العالة الذي ينتظر من يقوده، ويجيد الادعاء والمماطلة والتهرب من مسئولياته وتعليق الأخطاء والخطايا على الوالدين أو غيرهما، وانتظار العلاج والنجدة والإنقاذ من المهدي المنتظر أو الإمام الغائب أو القيادة الملهمة أو من يحركه ويقوده إلى جادة الصواب!

هذا الإنسان الذي ينتظر من يقرر له ويختار له ويشعر دوما بالتقصير وتأنيب الضمير لأنه لم يبلغ درجة النموذج الذي تعلّم أن يكونه أو أن يعتبر مشاعره الإنسانية الطبيعية أو حتى غرائزه ورغباته دنسًا يعطله عن بلوغ هذا النموذج وبالتالي الدرجات العلا في الجنة أو المواطنة الصالحة في الدنيا!

هذا الإنسان يبدو مشلولًا عاجزا أعمى ينتظر من يقوده في ظلمات جهله وتقصيره وينتظر من يعظه ويبرمجه برمجة إيجابية تبلغ به المعالي التي عاش عمره يحلم بها. وهو يتقلّب في بحثه بين معلم روحي وداعية أو مدرب تنمية بشرية يبحث عن نور لبصيرته، بينما النور بداخله لكنه مطمور تحت ركام الوصايا والتعاليم والخطط والبرامج والمواعظ والبكائيات والتضرعات التي علمته أنه عاجز لن يبلغ الهدف وحده!

وكلما ارتفع صوت متذمر أو متمرد على هذا الموات رافضا كل تسلط تنطلق أصوات الاستنكار والتحذير والتهديد من أن نكون مثل الذين خلوا وتحرروا من سيطرة الكنيسة إلى الانحلال والعهر والإيدز!

فإذا سولت لنا أنفسنا وسوغت لنا أحوالنا أن ننتقد الوضع الغربي مع الشرقي .. ونطمح إلى تفكيك التسلط الأبوي بأشكاله، وكذلك تسلط الدولة والسوق والجسد لمصلحة استعادة يقظة ونور الوعي الروحي العلوي.. عندئذ ترتفع كل الأصوات بالتحذير من الفوضى، حتى ارتبطت الحرية الحقيقية بها.. والنظام والاستقرار بالتسلط!

كم أنت مسكين أيها الإنسان…