في مقطعٍ مثير للجدل، خرج الإعلامي المصري عمرو أديب في حلقة ناقشت ارتفاع الأسعار في مصر، وهي ظاهرة مرشّحة للتفاقم خلال الأيام المقبلة بعد الحرب الروسية الأوكرانية وقدوم شهر رمضان الكريم، الذي يهلُّ عادةً مصحوبًا بموجة تضخم كبرى.

في الحلقة اقترح أديب حلولاً «شعبوية» كعادته لا تستند على أي دراسات واقعية بطبيعة الحال بقدر ما يعتمد فيها الإعلامي المصري على قُدرته المميزة على الارتجال حتى لو تطلّب تقديم مقترحات «خارج نطاق الخدمة» مثل عودة النساء للخبز في المنازل واستبدال البيض الأورجانيك بـ«البيض بالبسطرمة».

وصفة أديب المستحيلة

صفقة انتقال أديب القياسية إلى محطة «إم بي سي مصر» حملت مزايا ضخمة للإعلامي المصري، لا نعلم الكثير عن تفاصيلها لكنها جعلته «أغلى مذيع في الشرق الأوسط»، بحسبما أعلن تركي آل شيخ رئيس هيئة الترفيه السعودية، وراعي مهمة اقتناص عمرو من محطة «أون» الفضائية المصرية.

مهما اختلفت أو اتفقت مع أديب، فإن البحث عن المال لا ينتقص أحدًا بكل تأكيد، ولكن الحصول عليه يعني ببساطة الانتقال من خانة الفقراء إلى الأغنياء، ما يعني ببساطة أكثر أن يبتعد المُنتقِل كثيرًا عن ملامسة حقيقة الطبقات الاجتماعية الأخرى التي لم يعد يعرف عنها شيئًا وإن ظلَّ- بحُكم قواعد مهنته- مضطرًا للتعبير عنها من وقتٍ لآخر واقتراح حلول جذرية لمشاكلهم، وهو ما يُوقعه في لجّة متناقضات يبدو معها كسائح صيني مُصمم على الحديث بلغة قومه وسط أهالي الورّاق ويتوقّع منهم أن يفهموه ويفهمهم.

أصدّق تمامًا أن تلك الحلول الجذرية التي تفتّق عنها ذهن الإعلامي المصري حملت نوايا حسنة للغاية منه– ومن فريق إعداده- لمساعدة المصريين الكادحين على تجاوز وقتهم الصعب، لكنها كغيرها من الاقتراحات الإعلامية البرّاقة كانت «تعبئة هواء» لا أكثر بلغة أهل الإعلام عن المذيع الذي يخرج على الشاشة ليقول «أي حاجة» فقط لتمضية الساعة المفترض أن يقضيها أمام الكاميرا.

قديمًا، كانت الحالة الاجتماعية المصرية تسمح للنساء بخبز العيش منازلهن؛ أغلبية النساء لا يعملن، المنازل نفسها مجهّزة بساحة واسعة تسمح بجلوس مجموعة من النساء أمام فرن– مبني من الطين أو الغاز- ليخضن مهمّة شاقة وهي «اللت والعجن» لإنتاج خبزٍ وفطير يكفي العائلة بأسرها، وهي مهمة عادة ما تستأثر بساعات كثيرة في اليوم الواحد.

هكذا كانت الحياة وقتها، لدرجة كان معها مفهوم المخبز الآلي العام أمرًا نادرًا لا تجده إلا في المدن، وبحسب تعبير أبي الذي قال لي ذات مرة «اللي كان بيشتري عيش من بره كان بيخبّيه تحت الهدوم، لأنه هيبقى علامة عند الناس كلها إن مراته كسلانة ومش بتخبز لأولادها»!

أما الآن، فإذا ما تصورنا حياة امرأة عاملة تقضي 10 ساعات خارج المنزل وتحاول استثمار ما يتبقّى لها من سويعات معدودة في الاهتمام بشواغل عائلتها قبل أن تظفر ببعض ساعات النوم تأمل أن تُعينها على تجديد نشاطها في صباح اليوم التالي، تلك المرأة حينما يتطوّع أحد وينصحها بالعودة إلى الخبز، بالتأكيد ستعتبره يمزح!

فجدلاً، إن توفّر الوقت، من أين سيأتي القمح؟ وإذا كانت مصر تعاني من عجز مليوني في احتياجاتها من القمح تضطر بسببه إلى الاستيراد سنويًّا من عدة دول–على رأسها أوكرانيا وروسيا- فهل تمتلك ما يكفي من قمح لتوزيعه على البيوت بدلاً من المخابز؟ هل المساكن المصرية التي بات أغلبها شققًا مغلقة تصلح لاستخدام فرن غاز لساعات طويلة؟

أسئلة كثيرة، معقّدة ومتشعّبة تحتاج إلى إجابات حاسمة، بالطبع لن نجدها عن صاحب الاقتراح نفسه. فلماذا يقوله إذن؟

الإجابة لن تكون بسيطة للأسف.

لا مكان للفقراء هنا

يقول أستاذ التاريخ جيسون تيبي «JASON TEBBE»، في مقاله «فيكتوريو القرن الحادي والعشرين»، إن استحواذ النخب البرجوازية على الفضاء المجتمعي بأسره -بما فيها الأخلاق- هو أمر عرفه العالم منذ القرن الـ19 وحتى اليوم.

سلوكيات كثيرة عرفها العالم وأدمنها الناس- بمن فيهم الفقراء منهم- لم تنتشر فقط لأنها محمودة وفاضلة وإنما لأن أصحابها أغنياء!

في العصر الفيكتوري كان على النساء أن يحشرن أجسادهن في كورسيهات شديدة الضيق سعيًا لنيل شكل «الساعة الرملية»، ورغم أضراره الجمّة على الصحة شاع استعمال الكورسيه بين الجميع بعدما تسرّب من القصور المطهّمة إلى عامة الشعب.

وبحسب تيبي، فإن العائلات الثرية في الولايات المتحدة وأوروبا ضغطت من أجل بناء المزيد من الحدائق العامة، لكن إدارة تلك الحدائق خضعت لـ«قيم الأثرياء»، فلم يكن مسموحًا لأي شخص بالاستمتاع فيها كما يشاء، وإنما وُضعت قواعد صارمة للالتزام بها مثل عدم السير فوق الأعشاب، بل إن بعض الحدائق الأمريكية اشترطت على الأطفال تقديم شهادة «حُسن سلوك» من المدرسة قبل السماح لهم بالدخول.

وهكذا تحوّلت الحديقة من مكان يتنزّه فيه أبناء الطبقات الفقيرة إلى مكان يتعلّمون فيه الانضباط، على طريقة الأثرياء.

تذكّرني تلك الممارسات بما يجري خلال التسويق للحدائق العملاقة في حيّ التجمّع الخامس، والذي كان أحد مقومات تسويقه الرئيسية أنه مكان «منضبط إداريًّا» لن تجد أحدًا من زواره يأكل البيض فوق الملاءة، وهو ما جعل مجرد طرح صورة لزيارة تلك الحديقة على حساب التواصل الاجتماعي لأي شخص واحدة من أمارات تمتّعه بالثراء أو الحظ لمجاورة عِلية القوم.

وعلى نفس السياق ذاع الإقبال على ممارسة رياضة كمال الأجسام في مصر، فبعدما تكالَب رجال الأعمال والفنانين على ممارسة الرياضة وامتلاك قوام ممشوق وباتت صورهم حديث وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي نمت الحاجة المجتمعية إلى الاستعانة بالرياضة كوسيلة للوجاهة الاجتماعية وليس للياقة البدنية أو سعيًا لتحسين الصحة.

وبالمثل بات الاعتماد على الأكل «الأورجانيك» أحد أشكال الوجاهة المجتمعية، التي تُظهر أن صاحبها يمتلك ما يكفي من أموال لإنفاقها على طعامه الخالي من الكيماويات. وبمرور الوقت زاد الطلب على هذه النوعية من الأطعمة لدرجة دفعت كثيرًا من سلاسل السوبرماركت لتخصيص أرفف كاملة لها.

اقتصاد الفقراء

في كتابهما الشهير «اقتصاد الفقراء»، وضع الباحث الأمريكى صاحب الأصول الهندية «أبهيجيت بانرجى»، والباحثة الأمريكية ذات الأصول الفرنسية «إستر دوفلو»، الحاصلان على جائزة نوبل فى الاقتصاد عام 2019م، أيديهما على صُلب المُشكلة، إذ يقولان:

لقد ظلّت هذه الرغبة لاختزال الفقراء في مجموعة من العبارات المبتذلة ديدننا منذ أن ظهر الفقر على وجه الأرض؛ فالفقراء يظهرون في النظرية الاجتماعية مثلما يظهرون في الأدب بالتتابع؛ كسالى أو مغامرين، نبلاء أو لصوصًا، غاضبين أو مذعنين، عاجزين أو مكتفين بذواتهم. وفي الدراما عادة ما يظهر الفقراء كشخوص درامية في حكايات تستنهض الهمم أو مشهد مأساوي، وهم في ذلك إما ينتزعون الإعجاب أو يستدعون الشفقة والرثاء، ولكنهم لا يظهرون أبدًا كمصدر للمعرفة ولا كأشخاص تتبادل معهم النقاش حول ما يفكرون فيه أو ما يريدونه.

أجرى الكاتبان أبحاث دقيقة لمدة سنوات في العديد من الدول الفقيرة حول العالم، أكّدت لهما أن الصورة الحقيقية للفقراء على النقيض تمامًا مما قد يعتقده البعض، ببساطة لأنهم لا يعرفونهم.

فقِلة الموارد التي يمتلكونها قد تساهم بشكلٍ غير مباشر في صياغة شخصية الفقراء، سواءً سلبًا أو إيجابًا. على سبيل المثال، لكون الفقراء لا يملكون إلا القليل، فغالبًا يقتلون خياراتهم بحثًا قبل اتخاذ أي قرار بشأنها، وهم ما يجعلهم -دون أن يقصدوا- اقتصاديين على درجة كبيرة من الوعي، لا لشيء إلا لكي يبقوا على قيد الحياة.

هذا الوعي الاقتصادي الربّاني الذي يتراكم في النفوس يجعلهم آخر أشخاص في الدنيا ينتظرون نصائح تليفزيونية لتمرير حياتهم؛ فمن ابتكر طُرق إعداد الوجبات من بقايا عظام الدجاج، وإعادة رتق ملابس الأبناء القديمة ليرتديها إخوته الأصغر سنًّا لن يعقم الأفكار لتدبير احتياجاته مثلما نجح طيلة السنوات الماضية، لكن كثيرين لا يعرفون ذلك.

وفي خضمِّ تبرير الإعلامي عمرو أديب لحديثه عن «البيض الأورجانيك» اعتبر أن الطبقة الثرية التي تشتريه هي التي تحرّك السوق بأموالها لذا فهي الأحقُّ بالتركيز في الحديث عن غيرها، وهذا الخطأ تحديدًا علّق عليه الباحثان في كتابهما، معتبرين أن اعتقاد البعض أنه بما أن الفقراء إلا يملكون إلا القليل فإنه يُفترض أنه ليس ثمة اهتمام بوجودهم الاقتصادي، اعتبروا أن هذا الرأي «سوء فهم» يقوّض تمامًا جهود الحرب على الفقر حول العالم.

فعلى مدار العقود الماضية نشأت مناحي مختلفة للتعامل مع مشكلة الفقر أخطرها هو التنصّل من المسؤولية أساسًا، مثلما جرى في أمريكا خلال مطلع الستينيات عبر ابتكار ومحاولة نشر فرضية أن الفقراء هم المسؤولون الأساسيون عن حالتهم البائسة وليس المجتمع ولا النظام الاقتصادي الطاحن ولا الظروف العالمية المتغيّرة، وإنما تمتّعهم بـ«ثقافة الفقر» هي السبب، وهو المصطلح الذي اصطكه عالم الأنثروبولجيا الأمريكي أوسكار لويس في منتصف الستينيات.

تقوم هذه النظرية على أن الأصول الحقيقة للفقر هي الخيارات الشخصية الخاطئة وغير الأخلاقية التي يرتكبها الناس في مراحلٍ من حياتهم، وبالطبع راجت تلك الأفكار بشدة في صفوف الأثرياء بعدما أزاحت عن رقابهم همَّ المسؤولية وألقته في ملعب الذين عجزوا عن حصد الأموال لأنهم أغبياء أو كسالَى.

ولهذا السبب وسعيًا منهما لوضع حلول جذرية وحقيقيّة لمشاكل الفقر حول العالم اعتبر بانرجي ودولفو أن البداية المُثلى هي التخلّي عن عادة اختزال الفقراء في شخوص كرتونية، وبذل ما في وسعنا لفهم حياتهم فهمًا حقيقيًّا بكل ما يكتنفها من تعقديات.

وهي جهود أجزم أنها لن تتم أبدًا لأسباب كثيرة أهمها –في رأيي- أن البشر عادةً لا يميلون إلى الاهتمام بالمشاكل المعقدة صعبة الحل.

فقد أهتمُّ بالمساهمة في علاج طفلة بعينها في مستشفى، رأيت صورتها أو سمعت خبرها فتأثّرت وتبرعت بنفقات علاجها، لكن إن حدّثني أحدهم عن العمل على حل مُشكلة الصحة في مصر بأسرها لن أجد في نفسي قبولاً حتى لو كان المطلوب هو نفس المبلغ الذي تبرّعت به سابقًا.

وهو ما يفعله الكثيرون منّا، حينما نواجه مشكلة نعتقد أنها مستحيلة الحل، فنحاول تجاهلها من الأساس أو التعبير عنها بأكثر أشكال الدنيا تسطيحًا. حدّث رفيقك عن الحروب الأهلية في أفريقيا أو عن انتشار رقعة التصحّر البيئي أو عن استغلال الأطفال في المناجم، لن يهتمّ مهما استعرضتَ من أرقامٍ مليونية صادمة تُبيّن أننا على وشك كارثة، في المقابل حدّثه عن ابنة جارتكم التي كادت تنزلق من الشرفة لكنها نجت في نهاية الأمر بمعجزة.

في أغلب الأحوال لن يهتم إلا بابنة الجارة التي يعرفها ويعرف اسمها وأحوالها بينما لن يكترث بتلك الكوارث التي تحدث بعيدًا في بلادٍ لا يعرف عنها شيئًا. وهو بالظبط ما ينطبق علينا حينما نناقش قضية الفقر وكيفية حلّها، فحالما نلمس مدى تعقيدها وازدياد عدد ضحاياها نتجاهلها فورًا أو نسطّح نظرتنا إليها.

لهذا يعجز العالم الرأسمالي ذو النزعة الاستهلاكية –وسيظلُّ عاجزًا- عن حل مشاكل الفقراء دائمًا، طالما تمسّك بنظريته السطحية المتعالية للأمور من أبراجٍ مشيّدة، تلك الأبراج التي تدير عجلة حياتنا اليوم لم تُبن إلا للأثرياء ولن تعترف بالفقراء إلا حينما يصبحون مثلهم أو يقترب منهم.

هنا يُمكن الحديث عنهم كمكافحين نحتوا في الصخر حتى انضمّوا إلى الفرقة الناجية، يستحقون الاحتفال بـ«فيلم مبهر» عن ذلك الفقير السابق\ الثري الحالي الذي امتلك القُدرة -أخيرًا- على التماهي مع إعلانات العقارات باهظة الثمن ومتابعة «دراما الكمباوندات» باعتيادية، والأهم… أكل «البيض بالبسطرمة»!