يحيط الغموض الشديد بوجه عام تاريخ الماسونية، سواء في محل نشأتها الرسمية في بريطانيا العظمى، أو في نشأة العديد من أفرع محافلها، كما هو الحال في مصر، أول بلد عربي تدخله المحافل الماسونية، ويعود ذلك الغموض إلى السرية والكتمان كتقليد مسيطر على تلك الجمعية.

يحاول الكاتب والناقد والمترجم المصري الراحل علي شلش في كتابه «تاريخ الماسونية في مصر» الصادر في العدد 31 من سلسلة «مصر النهضة» من إصدار مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر بالقاهرة، أن يكشف بعض جوانب هذا الغموض، بإلقائه الضوء على تاريخ نشأة الماسونية في مصر، وعلى أبرز الشخصيات التي انضمت لمحافلها، والنشاط الاجتماعي لتلك المحافل، وعلى الإصدارات الماسونية التي طبعت في مصر من صحف وكتب ومجلات.

ما الماسونية؟

قبل الحديث عن الماسونية في مصر، يجب أن نعرف ما الماسونية ذاتها، وسنكتفي في هذا الإطار بتقديم تعريف تلك الجمعية، كما جاء في الموسوعة البريطانية طبعة 1981، وكما نقله شلش في كتابه.

تعرف الموسوعة الماسونية بأنها التعاليم والممارسات الخاصة بالطريقة الأخوية السرية للبنّائِين الأحرار والمقبولين، وأنها أكبر جمعية سرية في العالم، وأنها انتشرت بفضل تقدم الإمبراطورية البريطانية، وظلت أكثر الجمعيات شعبية في الجزر البريطانية، وغيرها من بلدان الإمبراطورية.

تُرجع الموسوعة نشأة الماسونية إلى النقابات التي ألفها البناءون عندما تولوا بناء القلاع والكاتدرائيات في العصور الوسطى. عندما توقف بناء الكاتدرائيات، بدأت بعض محافل البنائين العاملين في قبول أعضاء فخريين، لوقف تدهور الإقبال على عضويتها، نتيجة لوقف عمليات البناء، ومن هذه المحافل نشأت الماسونية الحديثة الرمزية والنظرية، غير المرتبطة بحرفة البناء.

خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، بدأت المحافل في تبني تقاليد الطرق الدينية القديمة والأخوة الفروسية. وفي سنة 1717، تأسس المحفل الأكبر بشكل رسمي في لندن، كرابطة تجمع جميع المحافل في إنجلترا، ثم انتقلت بعد ذلك الفكرة إلى بلدان أخرى.

واجهت الماسونية في هذا السياق معارضة شديدة من الأديان المعروفة، وخاصًة من الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وواجهت الحظر من العديد من الدول، كما جري في الاتحاد السوفيتي السابق وفي إسبانيا وإندونيسيا والعديد من البلدان الأخرى.

نشأة الماسونية في مصر

عرفت مصر المحافل الماسونية بشكل رسمي عقب غزو نابليون بونابرت لمصر في عام 1798، إلا أن الأديب والمؤرخ والصحفي اللبناني جرجي زيدان، المنتمي إلى الماسونية وصاحب كتاب «تاريخ الماسونية العام» الصادر سنة 1889، يقسم تاريخ الماسونية في مصر إلى مرحلتين على النحو ذاته الذي اعتاده مؤرخو الماسونية الأوروبيون: مرحلة نقابية، ومرحلة أخرى رمزية ونظرية.

يقول زيدان في هذا الإطار إن تاريخ الماسونية في مصر يعود إلى عصر بناة الأهرام والمعابد القديمة، مرورًا بالعصور الوسطى التي شارك بنائون مسيحيون قادمون من أوروبا في بناء العديد من الجوامع والقلاع والأسوار بالقاهرة خلال تلك الحقبة.

بعد مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر، ظهرت في مصر المحافل الماسونية الرمزية على يد نابليون وكليبر وبعض قواد الحملة وضباطها من الماسونيين، حيث دشنوا في أغسطس/آب من عام 1798 محفلاً باسم «محفل إيزيس» على طريقة ممفيس. وقد توقف هذا المحفل عقب رحيل بونابرت ومصرع كليبر ومغادرة الحملة الفرنسية البلاد.

حدث انقطاع طويل بعد ذلك، إلى أن تكررت المحاولة مجددًا في عام 1830، عندما أسس بعض الإيطاليين في الإسكندرية محفلاً على الطريقة الاسكتلندية، تلاه محفل آخر في القاهرة سنة 1838 تحت رعاية المجلس العالمي الممفيسي الفرنسي، اسمه محفل «مينيس»، وفي سنة 1845 شهدت الإسكندرية تأسيس محفل تحت رعاية محل الشرق الأعظم الفرنسي اسمه محفل «الأهرام» وانضم إليه الكثير من الأجانب والمصريين.

كان لهذا المحفل الأخير، كما ينقل شلش عن زيدان، الفضل الأكبر في بث التعاليم الماسونية في مصر تحت سمع وبصر الحكومة المصرية، وكان من أبرز أعضائه غير الأوروبيين عبد الحليم ابن محمد علي باشا الشهير باسم الأمير حليم والأمير عبدالقادر الجزائري.

 الأمير عبد القادر الجزائري
الأمير عبد القادر الجزائري

توسعت بعد ذلك المحافل الماسونية في مصر لتضم كثيرًا من الشخصيات الشهيرة وأعضاء العائلة المالكة والنخبة الاجتماعية والطبقة السياسية والمثقفين والفنانين، ومن أبرز هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر: الخديو توفيق، جمال الدين الأفغاني، إدريس راغب باشا رئيس مجلس شورى النواب في عهد إسماعيل ومؤسس النادي الأهلي، وعدد من الزعماء السياسيين الكبار مثل سعد زغلول وعبدالخالق ثروت وعدلي يكن وأحمد ماهر وفؤاد سراج الدين، ومن الفنانين يوسف وهبي وفريد شوقي ومحمود المليجي، ومن علماء الدين الشيخ المعروف محمد أبو زهرة.

النشاط السياسي للمحافل الماسونية

كان الأمير حليم الذي اختاره الماسونيون أستاذًا أعظم لمحفل الشرق الأكبر في عام 1867، هو الوريث الوحيد للعرش بعد الخديو إسماعيل، إلا أن إسماعيل نجح في تغيير نظام الوراثة وجعل ولاية العهد في أكبر أبنائه، وبذلك حُرم حليم من العرش.

استغل حليم موقعه في الماسونية المصرية وقام هو وأعوانه بالتآمر على إسماعيل. في هذا السياق اتهمه إسماعيل بتدبير محاولة اغتيال فاشلة له في عام 1868 على يد بعض الإيطاليين الماسونيين، واتخذ ذلك ذريعة لطرده من مصر، وذهب حليم للعيش في الأستانة وظل هناك بقية حياته، إلا أن صلته بالأحداث في مصر لم تنقطع، حيث اتهمه إسماعيل بتدبير مؤامرة أخرى لاغتياله في عام 1869، واستمر الأمير حليم في هذا السياق كتهديد للعرش المصري حتى خلال عهد توفيق بن إسماعيل.

تورطت أيضًا المحافل الماسونية المصرية في السياسة في قضايا أخرى، رغم الشعار الماسوني المعروف الذي يحظر علي المحافل التدخل في أمور السياسة أو الدين، من أبرزها مناشدتها أهالي فلسطين الهدوء والسلام والعيش المشترك مع اليهود خلال عشرينيات القرن الماضي، إبان الهجرات اليهودية المنظمة التي كانت قد بدأت في ذلك الحين، وقد صدر ذلك في بيان موقع من إدريس باشا راغب رئيس المحفل الوطني الأكبر في مصر بتاريخ 2 أبريل/نيسان 1922 تحت عنوان «نداء إلى أهالي فلسطين».

الصحف والكتب والنشاط الاجتماعي

ظهر أول كتاب عن الماسونية في القاهرة عام 1889، وهو كتاب «تاريخ الماسونية العام» لجورجي زيدان الذي سبق الإشارة إليه، تلاه في هذا السياق مؤلفات شاهين مكاريوس التي بلغت عشرة كتب، كان أولها كتاب «الآداب الماسونية» في عام 1895، ومؤلفات إدريس راغب الخمسة التي نشرت في مطبعة المقتطف التي كان يديرها مكاريوس.

خلال مرحلة انتشار واستقرار الماسونية في مصر، برزت عشر صحف ومجلات بين يومية وأسبوعية وشهرية مهتمة بالماسونية اهتمامًا عامًا، مثل «اللطائف» و«المقتطف» و«المقطم»، هذا فضلاً عن الصحف المتخصصة التي اهتمت بالماسونية اهتمامًا خاصًا، وكان عددها سبع صحف، من أبرزها «المجلة الماسونية» و«الجريدة الماسونية» ومجلة «الإخاء».

بلغ من شهرة الماسونية في تلك المرحلة، اهتمام المسرح بها، حيث قدمت فرقة عزيز عيد في هذا الإطار مسرحية باسم «الماسون» في أكتوبر/تشرين الأول عام 1907 على خشبة مسرح دار التمثيل العربي ثم على خشبة تياترو الشيخ سلامة حجازي.

تؤرخ البيلوجرافيا الماسونية للنشاط الاجتماعي للماسونية بصفتها مسجلة قانونيًا في البلاد كجمعية خيرية، وتسجل في هذا السياق العديد من التبرعات والولائم والمساهمة في المدارس، وإعانة الفقراء والمحتاجين ولا سيما من أعضائها، ويعلق شلش هنا بوجه عام على النشاط الخيري للماسونية بأنه كان محدودًا، ولا يعتبر متفردًا في عصره، ولا يحتل مكانة من نوع خاص.

نهاية الماسونية في مصر

كانت حرب فلسطين عام 1948 هي بداية النهاية للماسونية في مصر، حيث بدأت بعد تلك الحرب مرحلة جديدة شهدت تغيرات دراماتيكية أهمها حدث 23 يوليو/تموز عام 1952 وسقوط النظام الملكي. خلال تلك الفترة، لم تتخذ الدولة إجراء مباشر ضد الماسونية، ولكنها أهملتها حتى ذبلت وانكمشت بالتدريج.

بنهاية المطاف، في 18 أبريل/نيسان من عام 1964 أصدرت وزيرة الشئون الاجتماعية حكمت أبوزيد قرارًا بحل الجمعيات والمحافل الماسونية، ونشرته جريدة الأهرام في اليوم التالي، وتلى نشر هذا القرار نشر تحقيقات صحفية عن تجارب أعضاء الماسونية السابقين، وكان مما نشرته جريدة الأهرام في هذا السياق أن سبب وقف نشاط الماسونية، هو أن اجتماعاتهم كانت سرًا حتى على الدولة نفسها!