محتوى مترجم
المصدر
فورين بوليسي
التاريخ
2016/02/11
الكاتب
رولا جبريل

يُرحَّب بعشرات الفنانين والمؤديين من الشرق الأوسط ويحتُفى بهم بمهرجان «بيل تي جونز» السنوي للأفكار الحية، المقام خلال الأسبوع الجاري. يركز مهرجان العام الحالي، ويحمل عنوان «التحولات الثقافية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، على التحولات الثقافية في المنطقة ويقدم أفلامًا، محاضرات، مناقشات ومحاورات مجتمعية بمشاركة فنانين من المنطقة، لمعالجة بعض الأفكار والأهداف من منظور ثقافي، ضمن جهود لتشكيل طريق جديد للمضي قدمًا، في عالم يغرق بالإرهاب والاستبداد.

مساء الإثنين، كان لي شرف المشاركة في استضافة افتتاح حدث رئيسي ضمن المهرجان مع الكوميدي الأكثر شهرة في العالم العربي، باسم يوسف، المعروف باسم «جون ستوريت المصري». مع الأسف، لم يعد المصريون يستمتعون بأعمال يوسف – أو أعمال العديد من الكنوز الوطنية الأخرى – في بلدهم. فإن كنت فنانًا أو مفكرًا في مصر، تصبح الخيارات المطروحة أمامك قاسية؛ إما أن تتخلى عن حريتك الإبداعية، أو أن تُجبر على مغادرة البلاد من قبل نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي الاستبدادي الخبيث، الذي تقتل حكومته من ينوون توجيه الانتقادات له، أو تسجنهم أو ترهبهم، بهدف إسكاتهم. أدى تدمير نظام السيسي الممنهج للحيوية الثقافية العالمية لمصر إلى خسارة جيلية عظيمة، فقد كانت القاهرة على الصعيد التاريخي عاصمة ثقافية للعالم العربي. فهي مقر لواحدٍ من أقدم ديار الأوبرا في العالم، يعود تأسيسيها إلى عشرينيات القرن الماضي، ومثلت هوليوود السينما العربية، حيث أنتجت أكثر من نصف الأفلام باللغة العربية في السينما العالمية. وعاش أول عربي يحصل على جائزة نوبل في الأدب، نجيب محفوظ، طوال حياته في القاهرة. كما أشيد بالمخرج يوسف شاهين كأحد عمالقة السينما العالمية، وذرف كثيرون في أنحاء العالم العربي الدموع أثناء استماعهم لأغنيات أم كلثوم طوال أغلب القرن الماضي.

يشاهد الملايين الأفلام المصرية، يستمعون إلى الموسيقى المصرية، يقرأون لروائيين مصريين، ويثير ممثلو الكوميديا المصريون ضحكهم. لقد مثلت القاهرة في الماضي مغناطيسًا للكتّاب، الفنانين، العلماء، والطلاب من جميع أنحاء المنطقة. فبالنسبة للمبدعين، مثلت القاهرة نيويورك العالم العربي؛ إن تمكنت من النجاح بها، تستطيع النجاح في أي مكان.

يسود الخوف من الاعتقال التعسفي في أوساط الفنانين، الصحفيين، والكتاب لدرجة تمنع الكثيرين من أداء أعمالهم

تحولت العاصمة الثقافية اليوم، تحت حكم السيسي، إلى نسخة من موسكو في عهد بريجنيف. حيث لقي المفكرون مصرعهم، تعرضوا للسجن، أو أجبروا على مغادرة البلاد. ويسود الخوف من الاعتقال التعسفي في أوساط الفنانين، الصحفيين، والكتاب لدرجة تمنع الكثيرين من أداء أعمالهم. وجعلت الحملة الأمنية، التي تستهدف أي شيء يعتبره النظام مخالفًا للأبواق الرسمية، الباحثين خائفين من إجراء أبحاثهم.

اليوم، يختفي آلاف النشطاء، المنتقدين، المعارضين، والمدونين، أو لقوْا مصرعهم بالفعل، أو يقبعون في السجون التي يفيض نزلاؤها بما يزيد عن 60,000 سجين سياسي.

حقيقة أن يوسف والآخرين مضطرون لتقديم عروضهم في نيويورك كمنفيين وليس كسفراء لثقافة ديمقراطية مزدهرة – مثلما كان الحال في عام 2011 عندما كانوا مشاركين أساسيين في الثورة التي أسقطت الرئيس المخلوع حسني مبارك – تمثل مؤشرًا على هزيمة الثورة المصرية بواسطة نظام ينجح بشكل شبه متناقض في أن يصبح أكثر وحشية وأكثر تقدمًا تكنولوجيًا، في آن واحد، مما كان عليه نظام مبارك.

استخدمت تقنيات المراقبة التي لدى النظام لتشويه سمعة النشطاء والمعارضين على وسائل الإعلام الأخرى. فقد أذيعت المحادثات الهاتفية الخاصة بين النشطاء، التي يعتقد أنها قد سجلت من قبل الوكالات الأمنية، على الهواء مباشرة ببرنامج مناصر للنظام يحمل اسم «الصندوق الأسود»، الذي يقدمه من يصف نفسه بأنه «متخصص بشئون الإسلام السياسي»، عبد الرحيم علي. وما يزيد الطين بلة، أن علي قد انتُخب مؤخرًا ضمن أعضاء البرلمان المصري المشكل حديثًا. كما أذاع مقدم تلفزيوني آخر، أحمد موسى، مؤخرًا، صورًا زعم أنها تعود للمخرج الشهير والعضو البرلماني، خالد يوسف، أثناء ممارسته الجنس مع امرأة – وهي خطوة أثارت غضب الصحفيين المصريين وأدت بنقابة الصحفيين إلى إجراء تحقيق تأديبي مع موسى. وللمفارقة، يعد برنامجه أحد البرامج التي حلت محل برامج السخرية واسعة الشعبية – كبرنامج يوسف – التي اعتقد النظام أن وجودها يشكل خطرًا على استمراريته فأجبرها على التوقف.

صاحب ثورة 2011 المصرية موجة من التفاؤل الشاب المرتبطة بالتكنولوجيا. فقد تواجد جيل جديد من المصريين، متصل بشكل فوري ووثيق بأقرانه في أنحاء البلاد، المنطقة، والعالم، عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات المحادثات عبر الهواتف المحمولة. إنها حالة من التضامن الإلكتروني الفوري التي بدت كمقدمة لأدوات تأسيسية للثورة والديمقراطية. ساعدت تلك التقنيات المجتمع المدني المصري على الالتفاف حول سيطرة الدولة على نشر المعلومات عبر وسائل الإعلام الرسمية، وسمحت للنشطاء بتنظيم التظاهرات التي راوغت القمع الأخرق للدولة البوليسية، التي تنتمي أساليبها إلى منتصف القرن الماضي.

هدد الإنترنت استقرار الاستبداد، وأتاح الفرصة للنقاش حول وحشية الشرطة وألغى حصانة مرتكبي تلك الجرائم.

عبر إلغاء احتكار الدولة للتحكم في المعلومات والاتصالات، هدد الإنترنت استقرار الاستبداد. وأتاح الفرصة للنقاش حول وحشية الشرطة وألغى حصانة مرتكبي تلك الجرائم؛ كما وفر منصة لإجراء نقاشات عامة لم يكن متصورًا من قبل أن تجري بين المصريين بشأن الحاجة إلى الإصلاح السياسي.

بلغت قوة الحركة الديمقراطية المصرية، المتمكنة من استخدام الإنترنت، ذروتها خلال ثورة عام 2011، عندما حثت أحلام تحقيق الحرية، المساواة، والكرامة عبر التغيير السلمي الملايين من الشعب على النزول إلى الشوارع، حيث أصبح الميدان الإلكتروني الذي شكله النشطاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي فجأة حقيقة في ميدان التحرير، وأُلهم العالم وأصبح مأخوذًا بمواجهة الشباب المصري لعقود من الفساد الاستبدادي والانتهاكات، ورسموا مستقبلهم بأيديهم.

ولكن الثورة سحقت في النهاية، فقد غرقت وعودها الديمقراطية وسط دماء انقلاب السيسي العسكري منذ عامين. ومع ذلك، يظل الاختلال العميق الذي تعرضت له طمأنينة الاستبداد ممثلًا لجرس إنذارٍ لجميع الدول البوليسية في أنحاء الشرق الأوسط بشأن الأخطار التي يحملها التدفق الحر للمعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي، وإلى سبل استخدام تلك الأنظمة لأحدث التكنولوجيات الأمريكية، بل وحتى الإسرائيلية (التي تحرص على امتلاكها).

بعد مرور خمسة أعوام، مهد التفاؤل التكنولوجي الخاص بالربيع العربي الطريق أمام الاستبداد التكنولوجي، مع تحول تقنيات الاتصال ووسائل التواصل الاجتماعي إلى أدوات للقمع.

في الأسابيع التي سبقت الذكرى الخامسة للثورة، داهمت أجهزة الأمن المصرية أماكن ثقافية واعتقلت 47 من مدراء الصفحات المعارضة بموقع «فيس بوك». يبدو واضحًا أن الحكومة الجديدة قد تعلمت من أخطاء نظام مبارك، الذي كانت استجابته غير الفعالة لـ”يوم الغضب”، الجمعة 28 يناير 2011، هي قطع خدمات الإنترنت والاتصالات الهاتفية. ولكن بحلول ذلك الوقت، كان الأوان قد فات لوقف موجة الاحتجاج الصاعدة.

يفضل حكام الدولة الأمنية الجديدة في مصر ترك الإنترنت على حاله؛ معللين ذلك بأنهم ليسوا مضطرين للقضاء على الإنترنت إن كانوا يستطيعون السيطرة عليه. تمثل وسائل التواصل الاجتماعي، منصات المحادثات، والهواتف المحمولة، أدواتٍ للمراقبة إن وقعت في يديْ مستبد على دراية تكنولوجية كافية. لا يساهم ذلك النظام للمراقبة، الذي يشمل جمع الكثير من المعلومات عن كل مواطن مصري، في تطبيق قانون منع التظاهر الوحشي فقط، بل ونجم عنه مؤخرًا الحكم على مجند شاب، طالب بكلية الحقوق، بالسجن لثلاث سنوات لمجرد نشره لصورة هزلية للسيسي مرتديًا قبعة «ميكي ماوس».

فى مقابل سحق الوجود المنظم للإخوان المسلمين بعنف، ينمو خطر نشاط الإسلاميين الأكثر تطرفًا.

قدمت لنا السنوات الخمس الماضية من الثورة المضادة «مثالًا قويًا على تنامي الاستبداد في الفضاء الإلكتروني»،وفق الأستاذ بـ«سيتزن لاب» بجامعة تورنتو، رونالد ديبرت. المراقبة التكنولوجية التي يستثمر فيها نظام السيسي مصممة لمراقبة وترهيب مواطنيه، وإعادة تأسيس وتوسيع مناخ الخوف والقمع الشديد الموجه ضد المعارضين. ولكن النظام لديه بالفعل أسباب تدفعه للخوف من مواطنيه؛ فالسيسي لا يستطيع تحقيق الانتعاشة الاقتصادية التي ستصد الفقر واليأس اللذين كانا ضمن أسباب ثورة 2011. ويظل النظام معتمدًا على منح الملوك الخليجيين، الذين تتقلص ثرواتهم حاليًا بفعل هبوط أسعار النفط. وبينما يبدو أن النظام قد سحق الوجود المنظم للإخوان المسلمين بعنف، يظهر التاريخ أنه ليس من السهل ببساطة القضاء على تيار سياسي فاز مرشحوه بآخر انتخابات ديمقراطية. وعلى الجانب الآخر، ينمو خطر نشاط الإسلاميين الأكثر تطرفًا.

في المقابل، كان السيسي أكثر عدوانية بكثير من أي عهد لمبارك في قضائه على أي مظاهر علنية للمعارضة. فتحت قبضته الحديدية، أصبح اختفاء من يشتبه في كونهم معارضين منتشرًا، وبلغ قتل واحتجاز الصحفيين مستويات مثيرة للقلق، حيث تأتي مصر في المرتبة الثانية بعد الصين فيما يتعلق بسجن الصحفيين، وفق لجنة حماية الصحفيين.

كما لا تتقيد تكتيكات جنون الشك الخاصة بالنظام بحدود البلاد، بل ترسل السفارات والبعثات الدبلوماسية المصرية حول العالم تقارير إلى السلطات حول الأنشطة المعارضة في الخارج، ما يحول الدبلوماسيين بشكل فعال إلى جواسيس. فعندما مُنع عاطف بطرس، الباحث المصري الألماني ومؤسس منظمة «ميدان التحرير» غير الحكومية، مؤخرًا من دخول مصر،ذكرت السلطات معلوماتٍ كانت قد قدمتها السفارة المصرية في برلين. وعلى غرار ذلك حصلت السلطات على الدليل المستخدم في احتجاز الصحفي والباحث إسماعيل الإسكندراني.

تبدو مغريةً مقارنة مصر في عهد السيسي بالدكتاتورية الشيوعية القديمة للاتحاد السوفييتي، باستثناء أنه في حالة مصر، تتمتع تلك الدولة الشمولية على نحو متزايد بدعم الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى تحت مسمى حماية الحرية من التطرف.

بعيدًا عن حماية مصر أو بقية العالم من التنظيمات الشبيهة بـالدولة الإسلامية، لا تضمن أساليب السيسي بأي شكل انحسار التهديد الإرهابي. فقد استنتج بعض شباب الثوار الذين ذهبوا إلى ميدان التحرير متسلحين فقط بشغفهم وأفكارهم منذ ذلك العهد أنه ليس هناك مسار سلمي لإسقاط الاستبداد في مصر. يتضح مثالٌ صارخٌ على تلك الحالة في أحمد الدروي، الذي شارك كناشط في الحملة الرئاسية للمصلح الليبرالي، محمد البرادعي، والذي انضم لاحقًا إلى تنظيم الدولة الإسلامية في صحوة حملة السيسي القمعية.

سيسلك الآلاف مسلك الدروي. فقضاء نظام السيسي الممنهج على جميع المنافذ الديمقراطية والسلمية للتعبير السياسي المعارض يضمن ببساطة أن الموجة الثورية القادمة ستكون مختلفة تمامًا عن الحركة الاحتجاجية السابقة المتفائلة والسلمية إلى حد كبير، التي سحرت العالم بميدان التحرير.

بالرغم من ممارسة تلك الدرجة من القمع الشديد، إلا أن نظام السيسى ما زال عاجزًا عن توفير الأمن والاستقرار.

وبالتالي، تتمثل الخلفية المأساوية لمهرجان الأسبوع الجاري في أنه بينما يحتفل قطاع الفنانين بنيويورك بالفنانين المصريين، تستمر الحكومة الأمريكية في تمويل وتسليح نظام السيسي، الذي يؤدي سحقه العدواني لحقوق الإنسان إلى منع هؤلاء الفنانين المصريين من التعبير عن أنفسهم في بلدهم. وهنا تأتي المفارقة المؤسفة؛ فحتى مع ممارسة تلك الدرجة من القمع الشديد، يعجز نظام السيسي عن توفير الأمن والاستقرار الذي ينتظره داعموه الغربيون.

كان شكسبير ليلاحظ أن هناك شيئًا عفنًا في تلك الدولة المصرية. فالمجد إذن لمهرجان «بيل تي جونز» لإدراكه أن من الواجب على الفنانين والمفكرين في الولايات المتحدة ومصر أن يساعدوا بعضهم البعض، وبلادهم، وأن يتخيلوا أن المستقبل المختلف ليس مستحيلًا، وأن يُبقوا على اتقاد شعلة الحرية الوامضة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.