يرجع مسئولو الحكومة جزءًا من التشوه الاقتصادي الذي يفترض ببرنامج الإصلاح الاقتصادي الحالي أن يعالجه إلى الاقتصاد غير الرسمي.

من هنا تنطلق مبادرات الحكومة المتلاحقة بهدف السيطرة على الاقتصاد غير الرسمي في مصر، مثل الشمول المالي والذي تسعى الحكومة المصرية من خلاله إلى زيادة نسبة المتعاملين مع القطاع البنكي.

تاريخيًا، كان الاقتصاد غير الرسمي في موضع اتهام دائمًا في مصر، خاصة مع تراجع الإيرادات العامة للدولة من الضرائب، والتي تمثل الآن ما قيمته 14% فقط من الناتج المحلي، وهي معدلات منخفضة إذا ما قورنت بالمعدلات العالمية، بل وحتى بمقاييس الاقتصاد المصري تاريخيًا، ففي 1981 كانت نسبة الضرائب من الناتج المحلي تقارب الـ 21%.

يبدو الهدف الأساسي من خطابات الحكومة حول دمج الاقتصاد غير الرسمي في مصر هو تحصيل الضرائب.

تريد الحكومة ببساطة أن تراقب تلك الأنشطة غير الرسمية في الاقتصاد، عن طريق تسجيلها وإجبار الجميع على إجراء التعاملات المالية في الاقتصاد عبر البنوك والمؤسسات المالية المختلفة.

كيف نفهم الاقتصاد غير الرسمي في مصر؟

في البداية، علينا لكي نفهم ما يمكن أن نسميه معضلة الاقتصاد غير الرسمي في مصر أن نحدد النطاق الذي يشمله هذا المصطلح. نظريًا، يعرف الاقتصاد غير الرسمي بأنه «إجمالي قيمة الأنشطة الاقتصادية التي تُجرى بمعزل عن التسجيل القانوني لدى الدولة»، أي أن القطاع غير الرسمي هو مجمل الأنشطة الاقتصادية التي تغيب عن نظر الدولة ولا تظهر في سجلاتها ولا تخضع بذلك لا لتنظيمها ولا لرقابتها ولا لتحصيل الضرائب.

لكن من أجل أن تصور الحجم الحقيقي للاقتصاد غير الرسمي، علينا أن ننظر لأمثلة حية: لنفترض حالة سمير وهو موظف يعمل في الجهاز الإداري للحكومة في مصر، له مرتب ثابت وتأمين اجتماعي ويدفع ضرائب، لكن هذا الموظف لا تكفيه معدلات الأجور المتدنية في مصر، لذا يفتتح سمير محلاً صغيرًا في بيته بأحد الأحياء الشعبية ليبيع فيه بعض الخردوات والبقالة.

يعمل سمير بدوام جزئي في المحل بعد أن يخرج من عمله الحكومي، وفي الصباح تعمل زوجته أو أحد أبنائه في هذا المحل. يتعامل سمير مع مصانع غير مرخصة، لشراء سلع ذات سعر وجودة أقل يستطيع المستهلكون في المنطقة الفقيرة التي يعيش بها أن يشتروها.

هذه المصانع بدورها تتعامل مع مورد غير مرخص للمواد الخام، يحصل على فاقد المواد الخام السيئة أو التي قاربت صلاحياتها على الانتهاء من أحد المصانع المرخصة.

تستمر تلك الدائرة من الأنشطة الاقتصادية الرسمية وغير الرسمية، مكونة شبكة من العلاقات المتبادلة، وفي حالات كثيرة تكون معظم أنشطة الاقتصاد غير الرسمي هي الحلقة الوسيطة بين نشاطين اقتصاديين رسميين.

حجم هائل من المال اللا محسوب

يشمل الاقتصاد غير الرسمي أنماط العمل بلا أجر، من النساء والأطفال في إطار مشروعات عائلية متناهية الصغر، وكذلك الإنتاج بغرض الاكتفاء الذاتي خاصة في قطاع الزراعة، أو من أجل التبادل في السوق كإنتاج الأطعمة أو السلع الرخيصة في المدن.

ويشمل كذلك مختلف أشكال التوظيف الذاتي التي يعمل فيها الناس لحسابهم الخاص باستخدام كميات محدودة من رأس المال، مثل الباعة الجائلين وأصحاب الحرف كالكهربائيين والنجارين والسباكين، خاصة في حال عدم امتلاكهم لورش أو محال ثابتة للعمل.

ويمتد الاقتصاد غير الرسمي إلى كافة أشكال العمل بأجر لدى الغير طالما كانت لا تخضع لقانون العمل، وطالما كان العمال محرومين من التعاقد الرسمي ومن الحماية الاجتماعية المنصوص عليها قانونًا. ينطبق هذا على العمال غير الرسميين في المنشآت الرسمية كعمال البناء والمصانع، كما ينطبق بالطبع على العمال في المنشآت غير الرسمية التي تعمل أصلاً بدون تراخيص أو تسجيل.

تختلف التقديرات حول حجم الاقتصاد غير الرسمي في مصر، فبحسب تقديرات أجراها الاقتصادي فريدريك شنايدر، فالقطاع غير الرسمي في مصر عام 2007 كان يمثل ما قيمته 40 – 60% من الناتج المحلي المصري، ذلك يعني أن حوالي نصف الاقتصاد والأنشطة المدرة للدخل في مصر تقع في نطاق الاقتصاد غير الرسمي.

المثير للاهتمام هو أن الباحث نفسه كان قد أجرى دراسة على 162 دولة أخرى حول العالم، ليجد أن متوسط الأنشطة غير الرسمية المحسوبة في الاقتصاد تصل إلى 17% من الناتج المحلي لتلك الدول، والملفت للنظر أن نطاق الاقتصاد غير الرسمي في عدد من الدول المتقدمة في غرب أوروبا بلغ قرابة 31% من الناتج المحلي في 2007.

تعطينا تلك التقديرات إشارة إلى أن الاقتصاد غير الرسمي لا يمثل بالضرورة مرضًا مزمنًا علينا علاجه. بالطبع يجعل الاقتصاد غير الرسمي من الرقابة على السوق وجودة السلع أمرًا أصعب، وأيضًا يضر بشكل كبير بعملية جباية الضرائب في البلد، لكنه يمثل جزءًا طبيعيًا من الهيكل الاقتصادي للدول.

رأسمالية الفساد

ثمة اتفاق واسع بين الخبراء الاقتصاديين على أن التحولات الاقتصادية التي عاشتها مصر في الثمانينيات كانت سببًا مباشرًا في زيادة حجم الاقتصاد غير الرسمي.

قبل الثمانينيات، كان سوق العمل في مصر ينقسم بين قطاعين أساسيين: الزراعة، والقطاع العام. كان ذلك هو ميراث الفترة الناصرية التي توسعت فيها الحكومة في توظيف الخريجين خاصة حملة الشهادات العليا.

لكن بعد التحولات النيوليبرالية، سادت أنماط العمل غير الرسمي في مصر، ارتبط ذلك بهجرة الكثيرين من العمال الزراعيين نحو المدينة في سعي دؤوب للحصول على وظائف في القطاع الخاص الخدمي الناشئ، والذي شهد طفرات كبيرة في تلك الفترة بفعل تزايد القدرات الاستهلاكية عند مواطني الطبقة الوسطى المصرية العائدين من الخليج أو الذين يعملون في شركات القطاع الخاص.

ساهم ذلك في زيادة الطلب على العمل غير الرسمي في مصر، أي بدون عقود تأمين مسجلة أو ضرائب، وساهمت المحسوبية الكبيرة في الاقتصاد في إفلات أصحاب الأعمال من تسجيل أعمالهم أو في أحيان كثيرة التغاضي عن ذلك لرفع معدلات التوظيف الكلي في الاقتصاد.

أنتج هذا الملايين ممن يعملون بعقود مؤقتة وغير مؤمن عليهم أي نوع من التأمين في القطاع الخاص، بالتالي يشكل هؤلاء اليوم ما يقرب من 70% من قوى العمل في مصر، لكن النتاج الأهم للنيوليبرالة هو أنها قللت من المعدل الحقيقي للأجور، وفي ظل معدلات التضخم الشديد فإنه من الطبيعي أن يسعى الكثيرون لسلك طرق الاقتصاد غير الرسمي للحفاظ على مستوى معيشتهم المتدهور.

النيوليبرالية في مصر: السلم والثعبان

عملت النيوليبرالية، والتي أرادت في البداية رفع يد الدولة عن رقابة السوق الرسمية وخاصة القطاع المالي والقطاعات المرتبطة بالاستيراد والتصدير، والتي كان من المفترض أن تساعد الاقتصاد المصري على الاندماج في الاقتصاد العالمي، على زيادة مساحة العمل غير الرسمي في مصر للاستفادة من الإمكانات البشرية الكبيرة للعمل الرخيص.

ومن ثم فإن النيوليبرالية وبديلاً عن هذا الدمج المفترض للاقتصاد الرسمي، ساهمت مع الوقت في زيادة مساحة الاقتصاد غير الرسمي، والذي أصبح فيما بعد العقبة الرئيسية أمام تلك التحولات النيوليبرالية نفسها.

ما زلنا نعيش في تلك الدائرة المغلقة حتى الآن، الحكومة تريد إحداث إصلاحات اقتصادية نيوليبرالية تعمل على دمج قطاعات من الاقتصاد غير الرسمي لمظلة الاقتصاد الرسمي من أجل جباية الضرائب، لكن أثر تلك الإصلاحات العنيف يدفع المزيد من البشر نحو الاقتصاد غير الرسمي.

عملت الحكومة على إصلاح الخلل من جانبه المالي، تريد السيطرة على كل الأموال داخل الاقتصاد من خلال إجبار المواطنين على التعامل مع البنوك من خلال مبادرات مثل الشمول المالي، لكن مدخرات المصريين الهزيلة تأبى أن تدخل لعجلة البنوك وتستمر في الاتجاه لقطاعات تغلب عليها الصفة غير الرسمية مثل القطاع العقاري، الخدمي، الزراعي.

لذلك تبقى مبادرات مثل الشمول المالي وغيرها من المبادرات لتقنين أوضاع فئات كثيرة في القطاع غير الرسمي مقصورة على جانب جباية الرسوم والضرائب، لكنها لا تتطرق لحل المشكلات الهيكلية والعميقة التي تؤدي للجوء تلك الفئات بالأساس للقطاع غير الرسمي. على رأس تلك الاختلالات يقع سوق العمل المشوه في مصر الذي تسوده الأجور المتدنية، والفساد، والمحسوبية.