يتصاعد الجدل في مصر حول خصخصة مرفق هيئة السكك الحديدية وبخاصة في أعقاب كل حادث جسيم يصيب هذا المرفق، ويثور الجدل أحيانًا حول إسناد بعض مشروعاته للقطاع الخاص، أو حتى إشراك القطاع الخاص في إدارة المرفق ذاته. رغم رفع الأسعار النسبية لخدمات هذا المرفق، ومحاولات التطوير المستمرة فإن هذا المرفق يشهد تطورًا بطيئًا لا يتناسب وحجم ما ينقل من ركاب وبضائع.

العراقة وحدها لا تكفي

تعد منظومة السكك الحديدية المصرية واحدة من أقدم منظومات السكك الحديدية بالعالم، ويصل إجمالي شبكاتها نحو 10 آلاف كم، هذه الانتشارية لمنظومة سكك حديد مصر يضفي عليها الكثير من الأهمية في نقل الركاب والبضائع معًا. ليس هذا فحسب، بل تعمل هيئة السكك الحديدية لزيادة شبكاتها، ووضع حجر الأساس لإنشاء خطوط السكك الحديدية للقطارات الكهربائية فائقة السرعة، والعمل من أجل الربط بالمناطق اللوجستية والربط مع دول الجوار بإجمالي أطوال مزمع إنشاؤها تبلغ نحو 1813 كم.

وقد استقل القطارات نحو 270 مليون مسافر في عام 2018/2019، ارتفاعًا من 228 مليونًا عام 2014/2015، و247 مليونًا عام 2009/2010، وتمثل خدمة نقل المسافرين نحو 90% من أنشطة الهيئة، وهي واحدة من أعلى خطوط السكك الحديدية كثافة مرورية في العالم، حيث تنقل نحو 1.4 مليون مسافر كل يوم، بينما تراجع نشاطها في نقل البضائع والذي وصل لنحو 4% فقط من أنشطة الهيئة عام 2016، وما يمثل نحو 1% فقط من جميع البضائع المنقولة على مستوى الجمهورية.

 

وفي إطار توسيع عمل هيئة سكك حديد مصر، فمن المرجح أن تنفذ مصر- بشراكة ألمانية- أربعة خطوط للقطار فائق السرعة، بسرعة تقديرية 250 كيلو في الساعة، وتكلفة تقديرية نحو 360 مليار جنيه (23 مليار دولار)، لربط الموانئ بعضها البعض وربطها بالمناطق الصناعية الجديدة وأماكن الإنتاج، بهدف نقل البضائع والأفراد معا.

ووفقا لما هو معلن تبلغ تكلفة تنفيذ 257 مشروعًا نحو 220 مليار جنيه (14 مليار دولار) حتى عام 2024، وهذا ما يبرر قيام الدولة بهذه المشروعات الحيوية التي تخدم ملايين الركاب يوميًا، ومساهمتها في نقل البضائع، فالنقل بالسكك الحديدية من بين أرخص وسائل النقل عالميًا كما يسهم في نقل الملايين من الأطنان من البضائع والمواد الخام.

جدير بالذكر، على مدار العقد الماضي، شهدت أسعار رحلات السكك الحديدية لارتفاعات متتالية، نتيجة لارتفاع تكلفة التشغيل من جانب، ومن أجل أعمال التطوير ومواجهة خسائر هيئة السكك الحديدية من جهة أخرى- يذكر أن هيئة سكك حديد مصر قد واجهة عجزًا قدره 400 مليون دولار عام 2016/2017، ولم تقابل هذه الزيادة باعتراضات من جمهور الركاب آملًا في تحسين خدمة نقل المسافرين، كما أنها تظل أقل كلفة من وسائل أخرى للمواصلات، وقد وضعت الهيئة خطة لاستبدال عربات القطارات المتهالكة بأخرى جديدة، فقد تم التعاقد على نحو 1300 عربة يتم استيرادها من روسيا وقد تم تسلم دفعات منها بالفعل، بعضها مكيفة الهواء من أجل تحسين الخدمة للمواطنين- لا شك أن السنوات الأخيرة شهدت تحسنًا ملحوظًا في خدمة نقل الركاب عبر القطارات مع دخول قطارات جديدة إلى الخدمة ويأمل جمهور المسافرين أن تستمر الخدمة في التحسن وخفض وقت الرحلات التي تستمر لفترات طويلة وبخاصة في السفر لمسافات طويلة.

تقادم البنية التحتية

إن تقادم البنية التحتية لسكك حديد مصر، وما يفرضه ذلك من تطوير، علاوة على الافتقار إلى ثقافة الأمن والسلامة، يساهمان، ليس فقط في تأخر الرحلات عن مواعيدها المقررة، بل في الحوادث المتكررة التي كثيرًا ما تكون حوادث جسيمة.

وقد قُدرت حوادث القطارات بمصر بنحو ألف حادثة في العام، وفي إحصاءات أخرى للسلامة، فإن حوادث القطارات، المصنفة بالخطيرة، تمثل نحو خمسة أضعاف مثيلتها بالاتحاد الأوروبي، ونحو سبعة أضعاف المملكة المتحدة، وعشرين ضعفًا مقارنة باليابان.

ومن المبررات التي تسوقها الهيئة لتكرار الحوادث، افتقاد العنصر البشري للكفاءة اللازمة، فضلًا عن السلوكيات الخطأ لبعض العاملين بالهيئة والتي تتسبب في حوادث جسيمة، علاوة على أعمال التطوير بالتزامن مع انسياب حركة القطارات وعدم توقفها. برغم محاولات الهيئة المتكررة لوضع أنظمة آلية وإشارات إلكترونية- توقف حركة القطار آليًا إذا تصادف وجود قطار أمامه إذ إن نحو ثلث شبكة القطارات فقط ذات مسار مزدوج– من أجل منع مثل هذه الكوارث الجسيمة، إلا أنها تؤول إلى الفشل، رغم رصد خطة التطوير نحو 46.8 مليار جنيه لغرضي ازدواج الخطوط المنفردة وتطوير نظم الإشارة بالخطوط الرئيسية. قد يعود ذلك لأخطاء في التشغيل، أو الاعتماد على الطرق التقليدية في إدارة المرفق من أجل خفض أوقات التشغيل للرحلة الواحدة. فضلًا عن عدد من السلوكيات التي تفاقم من حوادث القطارات منها؛ الثقافة الموروثة التي تتمثل في إساءة استخدام الممتلكات العامة، مثل سرقة قضبان السكك الحديدية، وإلقاء القمامة، وإنشاء الأسواق على المعابر المستوية للسكك الحديدية.

خصخصة مرفق سكك حديد مصر

الاستثمار في البنية التحتية وتوصيل المرافق العامة، واحدة من المهام المنوط للدولة القيام بها، بخاصة مع الارتفاع الكبير في التكاليف الاستثمارية المرتبطة بإنشاء خطوط السكك الحديدية أو تمويل شراء القطارات الجديدة أو حتى تكاليف الصيانة، وهذا ما يبرر إعراض القطاع الخاص عن مثل هذه المشروعات.

وقد نفت وزارة النقل، ومركز معلومات مجلس الوزراء، خصخصة مرفق سكك حديد مصر، بيد أن الوزارة لم تنف أي مشاركة بين هيئة السكك الحديدية والقطاع الخاص، فمن الممكن إسناد إدارة بعض خطوط نقل البضائع الجديدة للقطاع الخاص، أو حتى استثمار بعض أصول هيئة السكك الحديدية من أراض ومنشآت لتدر عائدًا مناسبًا للهيئة، دون نقل مليكة أي من تلك الأصول أو بيعها للقطاع الخاص.

ومن ثم فإن هناك خططًا لإسناد بعض المهام في إدارة وتشغيل مرفق هيئة السكك الحديدية للقطاع الخاص، ورغم الموروث السلبي تجاه عملية الخصخصة في مصر، وبخاصة مع بيع أصول إنتاجية مربحة وبأسعار زهيدة، فإن تشغيل مرفق بحجم هيئة السكك الحديدية يحتاج إلى خبرات القطاع الخاص والتي من الممكن أن تساعد في تطوير المرفق، فمن المحتمل إسناد عمليات التدريب والصيانة، أو إدارة قطارات البضائع على الخطوط الجديدة للقطاع الخاص دون خصخصة كاملة للمرفق.

إن من الخطأ البحث عن خصخصة كاملة لمرفق السكك الحديدية، إذ يملك أصولًا تقدر بمليارات الجنيهات، كما أن قرار الخصخصة بشكل كامل وإسناد المرفق إلى القطاع الخاص، سيكون له تكلفة اجتماعية كبيرة، فكما أشرنا سابقًا فإن هيئة سكك حديد مصر تسهم في نقل نحو 1.4 مليون مسافر يوميًا، ومن المرجح رفع الطاقة الاستيعابية لنحو مليوني مسافر بحلول عام 2024، لانخفاض تكلفتها وكونها أكثر أمانًا مقارنة بوسائل النقل الأخرى، علاوة على غياب خطوط نقل أكثر كفاءة لنقل الركاب بريًا، من جهة أخرى سيكون لمثل هكذا قرار أثر على ارتفاع تكاليف النقل وارتفاع أسعار المواد الأولية والوسيطة، وسيتحمل المستهلك النهائي الارتفاع في الأسعار، وهذا يزيد من الأعباء المالية للمواطنين، إذ يقدر الفقراء في مصر بنحو ثلث السكان.

رغم تحقيقها خسائر كبيرة، وما تحتاجه إلى تكاليف استثمارية كبيرة، فإن السكك الحديدية تتشابك مع كافة القطاعات الاقتصادية، ومن ثم فإن هذه الخسائر ليست مبررًا لخصخصة هذا المرفق، فلا يجب أن يُدار هذا المرفق وفقًا لاعتبارات العائد والتكلفة. فهذا المرفق يتشابك مع كافة القطاعات الاقتصادية والأسواق، خصوصًا سوقي العمل وسوق السلع. كما أنها قد تمكن من توطين صناعة عربات القطارات والمونوريل بمصر بما يعود بالنفع من خلال فتح آفاق جديدة للتصدير، فإذا ما آضفنا الآثار الخارجية الإيجابية التي تنتج من هذا المرفق، سنجد أن هناك عوائد إيجابية صافية له على الاقتصاد المصري.

ختامًا، يبقى تطوير مرفق هيئة السكك الحديدية وتدريب العاملين به طوق النجاة لقطاع النقل المصري وما يمثله من أهمية، إذ يوفر نقلًا آمنًا وبتكلفة منخفضة، ولكن هذا لا يعني عدم الاستفادة من خبرات القطاع الخاص، بخاصة في التدريب والصيانة بل وتشغيل بعض المرافق المتعلقة به مثل نقل البضائع، ولكن تحت إشراف كامل من هيئة سكك حديد مصر. ويبقى نشر الوعي بأهمية شبكة قطارات السكك الحديدية غاية في الأهمية، وبخاصة على المناطق المار بها، فعدد من السلوكيات تتسبب في كوارث جسيمة بهذا المرفق الحيوي، ومع ضرورة وضع خطة يتم تنفيذها تدريجيًا لوضع سور حماية لهذه الشبكة، وبخاصة في المناطق النائية لعزل الشبكة عن محاولات عبورها أو حتى تفكيك بعض قضبانها.