أصدر صندوق النقد الدولي في 21 ديسمبر/كانون الأول 2017 بيانا عن قراره بتقديم الدفعة الثانية (بقيمة ملياري دولار) من التسهيل الائتماني المُمدد الممنوح إلى الحكومة المصرية (بقيمة 12 مليار دولار)، وذلك عقب عام من تطبيق برنامج حكومة شريف إسماعيل للإصلاح الاقتصادي المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي، والذي يمتد لثلاث سنوات.

ولعل ذلك دلالة على نجاح الحكومة الحكومة المصرية في تطبيق برنامجها الإصلاحي، على الأقل من المنظور الحكومي ومنظور صندوق النقد، وقد ذكر المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي في تبريره لصرف الدفعة الثانية أن:

برنامج الإصلاح المصري يُظهِر دلائل إيجابية تُبشر بتحقيق الاستقرار، مع تعافي نمو إجمالي الناتج المحلي وتراجُع التضخم واستمرار الضبط المالي على المسار الصحيح، ووصول الاحتياطيات الدولية إلى أعلى مستوياتها منذ عام 2011.

بيد أن ذلك البيان يعد دلالة على استمرار برنامج قاس ومجحف من منظور المواطن العادي، وربما هو خبر غير سار. إلا أنه يُعد أيضاً منحازا ومفتقدا لمعيارية سليمة من وجهة نظر التحليل الاقتصادي. ذلك أن الهدف الرئيسي من البرنامج ينصرف إلى تحقيق الضبط الرقمي لأداء مؤشرات الاقتصاد الكلي لاسيما المالية العامة، في حين أنه يغفل تحقيق مستوى مقبول من الرضاء العام للمواطن عن إدارة الحكومة للاقتصاد، وإشباع حاجاتهم الرئيسية.

أي أن البرنامج الإصلاحي للحكومة يحمل تضادا في المصالح بين الدولة والمواطن، واستمراره من خلال دفعة جديدة للقرض يعني استمرار هذا التضاد. كما يحمل البرنامج تضادا آخر بين أولوية الضبط المالي لأداء الحكومة أو المالية العامة من جهة، وبين أولوية تحقيق التنمية الاقتصادية العادلة من جهة أخرى. ويمكن رصد مواطن تضاد المصالح المشار إليها في أكثر من موضع.


تخفيض عجز الموازنة على حساب المواطن

أولت الحكومة أكبر جهودها لتخفيض عجز الموازنة العامة للدولة من خلال إجراءات تقشفية صارمة قامت من خلالها بتخفيض الدعم، لا سيما دعم الطاقة، وقامت أيضا برفع حصيلة الدولة من الضرائب والجمارك، وهو ما نجحت فيه الحكومة بالفعل، عند مقارنة مؤشر عجز الموازنة على أساس ربع سنوي خلال العام المالي المنصرم.

ولكن في المقابل تضرّر الدخل الحقيقي للمواطن من الإجراءات السابقة، فبدايةً ارتفعت أسعار منتجات الطاقة ما بين 40 إلى 100%، ومازالت تنتظر ارتفاعات أخرى، علاوة على ذلك ارتفعت أسعار السلع المستوردة، والسلع التي يدخل في تصنيعها مواد مستوردة، بسبب ارتفاع الجمارك، ويُضاف إلى ذلك إقرار الحكومة لضريبة القيمة المضافة، وهي ضريبة على المستهلك أدت إلى ارتفاع جديد في أسعار السلع والخدمات، تُطبق على جميع المستهلكين بغض النظر عن تفاوتهم في الدخول.

أدت الإجراءات السابقة وبشكل مباشر إلى ارتفاع معدل التضخم باطراد غير مسبوق ومفاجئ – وهو ما ساهم به تحرير سعر الصرف – ليصل إلى 34% في فبراير/شباط 2017، و33% في أغسطس/آب 2017 على أساس شهري، ووصل إلى 23.5% في العام 2016 / 2017 على أساس سنوي مقابل 10.2% في العام 2015 / 2016.

والجدير بالذكر أن ذلك الارتفاع غير المسبوق للأسعار لا يصحبه ارتفاع ملائم في الأجور النقدية، أو تحسن في سوق العمل، بما يعني انخفاضا حادا في الدخول الحقيقية للمواطنين (الدخل الحقيقي يعني الدخل النقدي مقسوما على معدل التضخم). فطبقا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ارتفع متوسط أجر العمل الأسبوعي من 879 جنيها عام 2015 إلى 942 جنيها عام 2016، أي ارتفاع متوسط الأجر الشهري من 3516 جنيها عام 2015 إلى 3768 جنيها عام 2016، بنسبة زيادة تصل إلى 7.1% وذلك في مقابل تضخم شهري يصل إلى 33%، وسنوي يصل إلى 23%.

وطبقاً لبيان المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي – بعد مراجعته للبرنامج في نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم – فإنه يتوقع أن ينخفض معدل التضخم إلى 21% في متوسط العام 2017 / 2018، وإلى 13.7% في متوسط العام 2018 / 2019.

وهنا يبرز تساؤلان: الأول هو كيف يعتبر المجلس التنفيذي أن انخفاض التضخم من 23% إلى 21% – وهي نسبة ضئيلة لا تتناسب مطلقاً مع معدل انخفاض الأجر النقدي – هو خطوة قوية على مسار كبح التضخم؟

أما التساؤل الثاني فهو على أي أسس وضع المجلس التنفيذي توقعه بأن ينخفض التضخم بحدة من 21% إلى 13.7% في العام القادم، على الرغم من استمرار انخفاض سعر العملة المحلية مقابل الدولار؟

وعلاوة على ما سبق، فالبرنامج الموضوع قد أعلن استهدافه تخفيض معدل التضخم إلى خانة الآحاد (أي دون الـ 10%) في نهاية البرنامج، وليس من المتوقع الوصول إلى تلك النسبة.


ارتفاع الاحتياطي الأجنبي على حساب الدين العام

أثنى بيان صندوق النقد الدولي على نجاح البنك المركزي في رفع احتياطي النقد الأجنبي إلى أعلى مستوياته بعد العام 2011، ليصل إلى 36 مليار دولار، دون التطرق إلى كل الأسباب المؤدية إلى هذه النتيجة الإيجابية، وتعود هذه النتيجة في جزء منها إلى أن تحرير سعر الصرف أدى إلى سحب النقد الأجنبي من السوق السوداء إلى القطاع المصرفي، أي أنه فعليا لم تحدث زيادة في التدفقات الأجنبية إلى مصر، ولكنها أعيدت إلى الجهاز المصرفي الشرعي.

ويعود ارتفاع الاحتياطي الأجنبي في جزء آخر إلى ارتفاع الصادرات، وفي جزء ثالث إلى استقبال مصر للقروض الدولية وبيعها للسندات الدولية، لتمويل برنامجها الإصلاحي (والذي يقدر بـ 21 مليار دولار حتى عام 2019)، مما أدى إلى ارتفاع نسبة الدين العام إلى 105% في مارس/آذار 2017 طبقاً لوزارة المالية، وإلى 103% في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 طبقاً لصندوق النقد الدولي، أي أن مصر دخلت نطاق الخطر. والذي سيتحمل المواطن مواجهته في المديين المتوسط والطويل.

ومن منظور تنموي، فإن ارتفاع احتياطي النقد الاجنبي غير فاعل وكفؤ إلا إذا نتج عن إضافة مصادر إنتاجية جديدة له، كتحسن الصادرات، وارتفاع تحويلات العاملين، وحصيلة قناة السويس، وقطاع السياحة. ومن الجدير بالذكر أن المصادر السابقة قد ارتفعت بالفعل ولكن بنسب دون المستهدفة.


خلل التنمية وخطر الاحتكار

إن الارتفاع غير المسبوق للأسعار، لم يصحبه ارتفاع ملائم في الأجور النقدية، أو تحسن في سوق العمل، بما يعني انخفاضا حادا في الدخول الحقيقية للمواطنين.

إن خريطة التنمية الاقتصادية وآلياتها التي يرسمها البرنامج الإصلاحي ربما لا تتوافق مع المطالب الشعبية للمواطنين ولقطاع الأعمال، حيث تتجه الدولة إلى المشروعات الضخمة التي يتم تنفيذها في قطاع العقارات والبناء بالأساس، ويتم تنفيذها من قبل مؤسسات الجيش، أو المؤسسات العامة، أو الشركاء الأجانب، أو كبار المحتكرين من رجال الأعمال. وهو ما يتنافى تماما مع أسس التنمية العادلة التي تقتضي:

إن آليات البرنامج الإصلاحي الذي يدعمه صندوق النقد لا ينتج سوى مواطن مفتقر للأمن الاقتصادي، ويعاني من قسوة الضغوط المعيشية، ويخشى من عواقب التعبير عن رأيه بحرية.
  1. استهداف النمو في قطاعات يمكن أن تقود نموا مستداما، وتخدم فئات أوسع من الشعب كالقطاع الصناعي والزراعي واللوجيستي، وقطاع البنية التحتية.
  2. أن ينخرط عدد كبير من الفاعلين في التنمية على أساس تنافسي، وليس أساسا احتكاريا أو سياسيا.
  3. تحديد أهداف وخريطة التنمية من خلال توافق مجتمعي، ورضاء عام بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الرقابية الأهلية.

ويجب ملاحظة أن الإجراءات الحكومية اهتمت بتعظيم الإيرادات الناتجة من الخدمات العامة عن طريق رفع رسومها التحصيلية، بينما لم يلمس المواطنون أي تحسن في مستوى الخدمات العامة المقدمة لهم، خاصة في الصحة والنقل والتعليم والأمن. وهو تضاد آخر أغفله المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي.

كما تفترض مراجعة المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي أن النظام الاقتصادي في مصر هو نظام يقوم على المنافسة الحرة وتعزيز دور القطاع الخاص والمبادرة الفردية، إلا أن الممارسات الواقعية تكشف عن احتكار المؤسسة العسكرية ومجموعة معدودة من رجال الأعمال المقربين لها لوسائل الإنتاج، والتسويق، والمنافسة.

وأخيرا، أغفلت الحكومة وصندوق النقد الدولي معا، المفهوم الحديث للتنمية الاقتصادية، والذي يفيد بأن التنمية هي أن يستطيع المواطن الإدلاء بآرائه بحرية تامة دون الخضوع لضغوط الترهيب، أو الإفقار، أو الجهل. أي أن يكون المواطن متمتعا بمستوى مقبول من التعليم، والحريات العامة، والأمان الاقتصادي. وهو ما لا يجده المواطن المصري في أهداف وآليات البرنامج الإصلاحي للحكومة الذي يدعمه صندوق النقد الدولي، والذي يُنتج مواطنا مفتقرا للأمن الاقتصادي، يعاني من قسوة الضغوط المعيشية، ويخشى من عواقب التعبير عن رأيه بحرية، ولا يجد سبلا للتعليم الجيد وفقا للمعايير الدولية.