سكر أرائيييش… والحلو من الله.
تلبس كرانيييش… وتعيش إن شا الله.
أدي سكرة… وأدي سكرة… واللي اشترى راح يكسب والله.

ترافقنا هذه الأغنية بصوت صفاء أبو السعود في الاحتفال بالمولد النبوي أو بالأدق تذكر «حلاوة المولد»، تلك الحلوى التي تعد رمزًا مصريًّا أصيلًا يؤكد تفرُّد التراث الشعبي المصري، وارتباط وتمسك المصريين بتراثهم وهويتهم.

ولكن من أين نبدأ؟

لتكن رحلة بين الحاضر والماضي أولًا في أرض المحروسة.

المولد بركة المحروسة

بين حواري القاهرة الفاطمية، وفي شوارع «المحروسة» وحضن آل بيت النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وفي رحاب مساجدهم الطاهرة، ربما تجد أحد أهل الصنعة يرتب العرائس على الرفوف الخشبية، يتذكر آباءه وأجداده «الصنايعية» المؤسسين وهم مكتظون «بيسيَّحوا السكر»، وينادونه لإحضار القوالب، فيتأهب لصنع العروس التي وعد بها بنت الجيران، فيأتي بالقوالب مسرعًا وهو ينظر تجاه المشربية، و«الأسطى» يُحذِّره: «خلي بالك من العسل أبو لمون يلسعك»، حينها تتغامز الفتيات خجلًا من ذكر السكر والليمون!

يذكر هذا البائع أنه تعلم صناعة العرائس الوردية والبيضاء الجميلة، التي تضع يديها في خصرها، وتتزين بالأوراق الملونة، كذلك أتقن عمل الأحصنة رمز الرجولة، لكنه الآن يترحم على هذه الأيام وهو يرصُّ عرائس بلاستيكية و«لعب صيني مافيهاش ريحة المولد»، ويصنع حلوى مختلطة، ليست مصرية أصيلة كما كانت، وكأن آباءه رحلوا ورحلت معهم أصالة المحروسة.

هو وغيره من أهل الصنعة ينتظرون هذه الأيام «من السنة للسنة»؛ لتحل البركة على الرزق وهم يتلون الفاتحة؛ ترحمًا على أصحاب الورش وهواة الفن الذي كانوا يرسمون بالسكر والقوالب الخشبية أجمل العرائس، ويصنعون «السمسية» و«الفولية» و«الحمصية» و«البتاعة الناشفة اللي مبتتاكلش»، لكنها تظل طوال العام دليلًا على أن المولد مرَّ من بيتنا.

يصنعون الحلوى وفي حلوقهم غصة من أنها ستوضع في هذا المحل الفاخر، ليضع عليها اسمه العريق، ويلفُّها في علبته «الشيك» دون أن يذكر مَن حلَّاها ومن زيَّنها، يصنعونها وهم يتعجبون من مُحلِّلها ومُحرِّمها، فمن ذا الذي حرَّم نعمة الله؟

يذيبون السكر وهم يشاهدون برامج «التوك شو» تحذر من ورش صناعة حلوى المولد غير الملائمة للصحة والبيئة، ويلقبونهم بـ «مصانع بير السلم»، وهم لا يدركون قيمة هذا السلم الذي ربما يعود تاريخه إلى أكثر من 1000 عام، لكن فرحة هذه الشابة بهدية خطيبها لها أو سعادة تلك الطفلة بـ «عروسة المولد» التي اشتراها والدها تهوِّن عليهم الغصص، وتؤكد لهم أن المهمة تمت على أجمل وجه، فهم يصنعون من السكر حلوى تحلِّي أيام الناس لا تؤذيهم، ينتظرون البسمات وهم يعلمون أن السكر «غِلي» والأسعار ارتفعت، لكن ضحكة الناس وسعادتهم أغلى وأغلى، لذا يخلطون محبتهم وتراثهم مع «الملبن» و«السمسمية» و«الحمصية» و«العجمية» و«الفولية» و«الشكلمة» للفقراء، وكذلك مع المكسرات الفاخرة مثل «البندقية» و«اللوزية» و«الفستقية» لأبناء الطبقات المتوسطة والغنية، و«بعد ما ينفض المولد» يصنعون الشوكولاتة والحلوى العادية، وربما يعتقدون أن الغرب اقتبسوا «عروسة المولد» لتصنيع عرائس، مثل باربي وأمثالها.

«يا سكر ودايب»: صناعة «الحلاوة»

تتركز أماكن صناعة وبيع حلوى المولد داخل المناطق الشعبية بالقرب من القاهرة الفاطمية، في مناطق باب البحر وباب الشعرية والموسكي وحارة اليهود، لكنها لا تقتصر على القاهرة فقط، فهناك «بلاد السيد البدوي»، التي يصفها أحد شيوخ الصنايعية قائلًا: «طنطا أم الحلاوة، والناس بتيجي لها من قبلي وبحري عشان ضامنة إنها هتاكل حلاوة نضيفة وتمنها معقول»، وهناك بعض مصانعها بالمنطقة الصناعية بمدينة 6 أكتوبر.

تبدأ صناعة «عروسة المولد» بصنع «الخميرة»، وهي المرحلة الأساسية والأصعب، لذا تحتاج إلى «صنايعي خبرة»، تتكون الخميرة من سكر وماء وملح الليمون وأحيانًا دقيق، وتسمى «السكر المعقود»، توضع الماء في وعاء نحاسي كبير مثبَّت على موقد حرارته مرتفعة، يتم تذويب السكر في الماء حتى يصفرَّ لونه ثم يوضع به ملح الليمون، ويُضرب ويُقلَّب الخليط بمضرب خشبي كبير وثقيل لمدة ربع ساعة، وهي مرحلة تحتاج تحمل حراراة نار الموقد، وقوة لحمل القدر المملوء، ومجهودًا عضليًّا كبيرًا، وقوة وسرعة؛ حتى يتماسك السائل، ثم يرفع عن النار، ويترك جانبًا حوالي ساعة؛ حتى يتفاعل ملح الليمون مع السكر فيتماسك الخليط، بعدها تُنقل الخميرة إلى صاج صفيح، وتترك بعيدًا.

يُسخَّن سائل آخر حتى يتماسك ثم يوضع به قالب من الخميرة التي وضعت جانبًا؛ لكي تساعد على تبريد وتماسك السائل، ليصبح جاهزًا للصب ثم التشكيل، من خلال قوالب خشبية مختلفة الأحجام، ومحفور بها الشكل داخليًّا، تبلل بماء قبل أن يتم صب السائل الساخن بها، ليبدأ في التجميد متخذًا الشكل الداخلي سواء كان عروسة أو حصان.

بعدها تُفتح القوالب ليخرج ما بداخلها ثم تُترك لتجف، وبعدها تُزين بشكلها النهائي بأوراق ملونة وذهبية وفضية وبعض الأقمشة الملونة المزركشة.

«مُختلَف عليه»: أصل «عروسة» المولد

حلوى المولد فلكلور شعبي مصري متوارث «أبًا عن جد»؛ فمصر من أوائل الدول التي بدأت الاحتفال بالمولد النبوي، وربما لم يختلف المؤرخون والباحثون على نسبة الاحتفالات والحلوى إلى الفاطميين، لكنهم اختلفوا على أصل «عروسة المولد».

يعود الاحتفال والحلوى إلى عصر الفاطميين، وينسبها البعض إلى المعز لدين الله الفاطمي، والبعض الآخر ينسبونها إلى الحاكم بأمر الله.

ويرجح باحثون تراثيون أن الفاطميين كانوا ينتهزون المناسبات الدينية والعامة لاستمالة المصريين لمذهبهم الشيعي، لذلك احتفلوا بالمولد النبوي، وصنعوا «عروسة المولد»، والبعض يرى أن هذه مجرد شائعات ابتدعها الفاطميون لنسبة الأمر إليهم، وذلك بعد فهمهم لطبيعة وطبائع المصريين وحبهم للاحتفالات وتوارثهم احتفالات اجتماعية على مر العصور، فاستغلوا هذا الأمر كنوع من التودد والترويج لسياساتهم ومذهبهم، فأقاموا احتفالات لجميع المناسبات الدينية، مثل الاحتفال بآل البيت والمولد النبوي، لتلعب حلوى المولد دورًا سياسيًّا.

وفيما يخص «عروسة المولد»، فبعض الباحثين يربط بينها وبين «عروس النيل» الفرعونية أو أسطورة «إيزيس وأوزوريس»؛ فالحصان مستوحى من تمثال حورس ممتطيًا حصانه، ممسكًا سيفه؛ لقتل «ست» رمز الشر، والعروسة بكرانيشها الملونة مستوحاة من جناح إيزيس الملون، حيث كان المصريون يستخدمون الدمى كنوع من أنواع التوثيق الحضاري لحياتهم، ويدللون على ذلك بالعثور على عرائس تشبه «عروسة المولد» في مقابر الفراعنة، لكنها مصنوعة من الخشب والعاج، وكذلك أحد التماثيل بالمتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية، لسيدة ترتدي فستانًا، وعلى رأسها غطاء مجدول في خصلات شعرها، فيما يشبه زينة «عروسة المولد».

وهناك روايات عدة حول نسبة «عروس المولد»، أولها أن ﺍﻟﺨﻠﻴﻔﺔ ﺍﻟﻔﺎطمي ﺍﻟﻤﺴﺘﻨصر ﺑﺎﻟﻠﻪ أراد تحميس جنوده ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻘﺘﺎﻝ والنصر على بعض ﻗﺒائل الصحراء، فوعدهم عند النصر بتزويجهم بعرائس جميلات، ﻭبالفعل نجحت ﺍﻟﺤﻴﻠﺔ ﻭﻋﺎﺩﻭﺍ منتصرين، فزوجهم بأﺟمل جواريه، ﻭﻋﻨدما ﺣل موعد ﺍلاﺣﺘﻔﺎﻝ ﺑذكرى النصر في ﺍﻟﻌﺎﻡ ﺍﻟﺘﺎلي ﺗﺼﺎﺩﻑ مع ذكرى المولد النبوي، ﻓﻘﺎﻡ ديوان الحلوى ﺑﺼﻨﺎﻋﺔ عرائس ﺟﻤﻴﻠﺔ من الحلوى؛ لتقديمها كهدايا ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﺎﺩﺓ ﺍﻟﻤنتصرين ﻭﻋﺎﻣﺔ ﺍﻟﺸﻌب ﻭﺍلأطفال، ومنذ ذلك ﺍﻟﺤين بدأ صنع عرائس المولد النبوي.

وهناك رواية ثانية تقول إن «عروﺳﺔ المولد» ظهرت ﺧﻼﻝ عهد الحاكم بأمر الله، حين خرجت إحدى زوجاته معه في موكبه يوم المولد النبوي؛ لتوزيع الحلوى على الفقراء والبسطاء، فظهرت بثوب ناصع البياض وعلى رأسها تاج من الياسمين، فقام صنَّاع الحلوى بتجسيد الأميرة في قالب حلوى على هيئة عروس جميلة، والحاكم على هيئة فارس يمتطي جواده.

رواية ثالثة تقول إن الحكام الفاطميين كانوا يشجعون الشباب على عقد قرانهم وإقامة أفراحهم يوم مولد النبي، وكانت «عروسة المولد» هي هدية العريس لعروسه، لذا كانت تُصنع بشكلها المزركش وألوانها الجميلة.

وهناك رواية رابعة تقول إن الحصان يمثل الخليفة صاحب الفتوحات والانتصارات، وبدأ في عهد الحاكم بأمر الله، حين منع جميع الاحتفالات في مصر لفترة، بما فيها احتفالات الزواج، واقتصر الزواج على عقد قران وإشهار، ولم يُبقِ إلا الاحتفال بالمولد النبوي، فاستغل المصريون يوم المولد النبوي لإقامة حفلات زفافهم، فكان الحصان يمثل العريس الذي تمكن من الفوز بعروسه في هذا اليوم.

«العلاليق» و«الحلويين»

رصد البعض وصف أحد الرحالة الإنجليز لعروس المولد بأنها عروس متألقة الألوان، توضع في صفوف متراصة، وترتدي ثيابًا شفافة كأنها عروس حقيقية.

فيما رصد آخرون إعجاب مؤرخي الحملة الفرنسية باحتفالات المولد النبوي، حيث السرادقات التي تضم الدراويش وحلقات الذكر والمنشدين والمقرئين والمادحين، وطبقات المجتمع من المزارعين والعمال والصناع، وحتى المسيحيين.

كانت حلوى المولد تُسمى «العلاليق»؛ لأنها كانت تعلق على أبواب المحلات بخيوط رفيعة؛ لتبدو وكأنها تطير، فتنشر البهجة وتلفت الانتباه في السوق المخصص لصنع وبيع الحلوى وبخاصة حلوى المولد، والذي كان يسمى سوق «الحلويين»، وهو أحد الأسواق المتخصصة التي انتشرت وراجت في القاهرة زمن الفاطميين، مثل «الشماعيين» لصناعة الشموع، و«النحاسين» للنحاس، لكن حال «الحلاوة» تغير بعد قدوم الأيوبيين إلى مصر، إذ عملوا على القضاء على جميع الاحتفالات الفاطمية، بدعوى الحروب أو بغرض القضاء على كل المظاهر الاجتماعية للفاطميين؛ لمحو سيرتهم وتشيُّعهم من ذاكرة المصريين، ولكن المصريين تمسكوا بها وتوارثوها، واعتبروها تراثهم، ثم عاد الأمر للرواج في العصر العثماني، مع اهتمام العثمانيين بالصوفية والاحتفال بالمناسبات الدينية.

من «الحلاوة» إلى «الوحاشة»

أصبحت «عروسة المولد» رمزًا من رموز الاحتفال بالمولد النبوي، وأيقونة من أيقونات الفلكلور الشعبي المصري.

واختلف شكلها وتزيينها خلال العصور المختلفة، ففي عصر الفاطميين كانت تصنع على هيئة عروس تضع يديها عند خصرها، ويتزين فستانها الأبيض بالأوراق الملونة والفضية والذهبية والمراوح الملتصقة بظهره، وفي عصر المماليك تأثر بزي سيدات المماليك اللاتي كن يربطن خصرهن بـ «شريطة»، ويشددنها ليصبحن أجمل وأكثر رشاقة، لذا تميز الفستان بضيقه عند الخصر واتساعه لأسفل، مع أكمام تتسع عند الرسغين.

بعدها أصبح الفستان الأبيض منفوشًا ومصنوعًا من «التُّل» أو الأقمشة الملونة حمراء و«فوشيا»، ومزينًا بالورود والخرز والترتر، حتى وصلنا إلى المرحلة التعيسة التي فقدت فيها «عروسة المولد» هويتها المصرية «المسكَّرة» وصارت عروسًا صينية بلاستيكية ترتدي ملابس خليجية وهندية، وتراجعت «العروسة الحلاوة» أمام البلاستيكية التي تتميز بأنها أطول عمرًا، وتصلح كلعبة بنات، و«مبتلمش نمل».

كذلك تطورت حلوى المولد واستُحدث منها «النوجة» و«الفخفخينا»، و«البروم»، واختلطت بالحلوى السورية، وقمر الدين والمكسرات، حتى وصلنا إلى ابتكار حلاوة المولد بالنوتيلا واللوتس والجيلي.

ربما تمثل حلوى المولد و«العروسة» والحصان فرحة واحتفالًا، لكنها في الوقت نفسه تمثل تراثًا حيًّا، نقل تاريخ المصريين بحُلوِهِ فقط، دون مُرِّهِ، وهذا سر خلوده وحلاوته.

صلى الله وسلم وبارك عليك سيدي يا رسول الله.