يتصاعد الحديث في السنوات الأخيرة حول دور النشر العربية منها والمصرية، وقيم الرأسمالية التي تسعى لتحقيقها وعلى رأسها الربح المادي على حساب جودة المحتوى والمضمون، كما يتصاعد الحديث عن حقوق الملكية الفكرية، وتصوير الكتب ونشرها على الإنترنت للكافة، ومدى أخلاقية هذا العمل، في ظل ارتفاع حاد في أسعار الكتب.

إن الرأسمالي هو الفرد/ المؤسسة الذي يملك قوى الإنتاج؛ الأدوات اللازمة للإنتاج. وفي نمط الإنتاج الرأسمالي لا يسعى المنتج إلا للربح، وليس لإرضاء الجمهور. لكن السلعة التي يُقدمها المنتج الرأسمالي لابد وأن تجد مشتريًا وإلا لن يتحصّل من ورائها على ربح؛ ومن هنا، تبرز بعض الوسائل التي يـتبعها المنتج حين يبيع سلعته [1]. في حالتنا، فالرأسمالي هو «دار النشر»، والسلعة هي الكتاب، والمُشتري هو القارئ!


الناشر التاجر

بدايةً، إن دور النشر بعامة تسعى وراء بيع سلعتها؛ وهي الكتاب. ووفقًا لما قدمناه، فإن الناشر يجب عليه مراعاة ذوق القارئ بالمعنى العام؛ أي ليس مجرد ذوقه في محتوى الكتاب، ولكن أيضًا في الشكل والحجم،.. إلخ. فإذا ما تطرقنا لذوق القارئ العربي، وجدنا أن معظم التقارير، كما الحسّ العام [2]، تؤكد على أن القراءة العربية تتجه نحو الروايات، والسخرية، والكتب الدينية [3].

ووفقًا لإحصائية راجعها خالد عزب وُجِد أن 60% من القراءة العربية موزعة بين الكتب الدينية بنسبة 40% والروايات بنسبة 20%[4]. وفي كثير من الإحصائيات نجد أن هذين الاتجاهين هما الغالبان، تفسير كهذا قد يخرج بنا عن العلاقة المباشرة بين الناشر والقارئ لما هو أكبر؛ وهو الإطار العام لهما؛ فالكتب الدينية يمكن ارجاع انتشارها إلى الوقائع التي يشهدها العالم ككل والمرتبطة «بقضايا دينية»؛ فظهور تنظيم الدولة الإسلامية ومجريات سوريا، ووضع الإخوان المسلمين في مصر، والعمليات «الإرهابية»، بالإضافة لعامل آخر وهو ظهور مواقف إلحادية على الشبكات الاجتماعية هي عوامل كافية كي ينـتـج عنها سوق لترويج كتب تختص بتلك المسائل.

إن الناشر، في المعظم، لا يعتني كثيرًا بالمحتوى، وإنما بمدى إمكانية تسليع هذا المحتوى لبيعه، وهذا يظهر أشد ما يظهر إذا ما نظرنا للمشاكل التي يطرحها الناشرون أنفسهم. فمثلاً، بعد قرار تعويم الجنيه المصري خرجت الكثير من الأصوت تندّد بأن هذا القرار يعني تدهور القراءة في مصر؛ لأنه يعني ارتفاع تكاليف أدوات الإنتاج والشحن [5]؛ أي أن تبرير رفض هذا القرار جاء من منطق اقتصادي خاص بالمنتِج لا من منطق يضعُ القارئ في عين الاعتبار، وحتى حين أراد أحد الناشرين التعبير عن الأزمة المقبلة من منطق القارئ قال: «الناس هتاكل وتشرب ولا تشتري كتب؟»[6]، هنا تعامل الناشر مع الكتاب كسلعة بشكل محض، حتى أن جُـل اهتمامه كان بإمكانية «الشراء» من عدمها، لا بإمكانية «القراءة».


القارئ المستهلك

وأما من جهة القارئ، فيمكننا الآن وضع الظاهرة ككل في نطاقٍ أوسع حتى نتمكنَ من فهم دور القارئ كمستهلك، كما سيمكننا هذا من فهم الإقبال على الروايات. إن الصورة الكلية التي تعمل فيها هذه العلاقة الرأسمالية هي «ثقافة الاستهلاك» بالإضافة إلى «التفريد الاجتماعي وخلق للاحتياجات» بلغة زيجمونت باومن. فلكي يتمكَّـن المنتج الرأسمالي المعاصر من بيع أكبر عدد ممكن من سلعته كان يلزم أن تخرج فكرة «التفريد» إلى العلن. إن التفريد الرأسمالي هو إيهام كل فرد على حدة أن له احتياجات لا تنتهي [7]، ويفسر باومن هذا بأنه نتيجة لكون البشر في المجتمعات المعاصرة أصبحوا يشعرون بعدم قدرة على امتلاك العالم؛ مما يؤدي إلى شعور بعدم الأمان يتبعه نَـهم لا يشبع لمحاولات تملك الأشياء عن طريق «التسوق» و«الشراء»، وبما أن المشتريات لا تؤدي إلى الشعور بالأمان، فيظل الإنسان يتسوق ويشتري في لعبةٍ مستمرة [8]. هنا، يتدخل دور المنتج الذي يَعد ذلك المستهلك، الباحث عن الأمان، بسلع يصورها له على أنها مهمة وستشبع نهَمَه.

هذه العلاقة المتبادلة يمكن الكشفُ عنها ببساطة، فالدعاية والإعلان تملأ كل منبر، حتى منابر دور النشر، والتعريف بدار النشر لا ينصب على المحتوى المقروء ولا المحتوى العلمي، بل على اسم كاتب مشهور، أو إنجاز تجاري ما. فمثلاُ، نجد دار الشروق في تعريفها بالدار تركّز كثيرًا على أسماء كُـتّـابها من أمثال نجيب محفوظ وأحمد زويل وغيرهم، بالإضافة لتصديرها التعريف بأنها حاصلة على العديد من الجوائز [9]. وأما مكتبات ألِف فتُـعَـرِّف مهمتها بأنها «تريد المزيد أن يقرأوا»[10] ويمكن النظر لهذا التعبير على أنه تعبير صادق، ولكنه في نفس الوقت يستبطن مفاهيم الرأسمالية!.

وبالعودة للسؤال المطروح حول الروايات، فإن الرواية الراهنة أسهل في الترويج من الكتب المعرفية. فحبكة الرواية أصبحت لا تدور إلا حول الحب، والخوف، والحنين، …إلخ، وغالبًا ما تُـتناول هذه المسائل بشكل يسهلُ على أي قارئ متابعته، ويسهلُ أيضًا فهم أحداثه، بالإضافة إلى أن شخص كاتب الرواية- الأديب- الأسهل ترويجيًا ودعاية من شخص الباحث/المفكر/المتأمل، إلا إذا كان الأخير مشهورًا. فالمعيار هنا هو مدى قدرة الكتاب والكاتب على تحقيق الشهرة والوصول، لنقل، إلى جائزة البوكر مثلاً[11].


لحظات الاستثناء في عالم النشر

وكما يذهب الكثيرون، فإن أي نظام يجب أن يشهد لحظات استثناء [12]. هذه اللحظات في حالتنا ستكون: بعض دور النشر التي أُجبرت على النمط الرأسمالي، وقضية حقوق الملكية الفكرية. فأما الأولى، فهناك بعض دور النشر التي دخلت هذه «السوق» بُغية إثراء المحتوى المقروء معرفيًا بالفعل، لكن بنية العلاقات الرأسمالية نفسها كانت أكبر منها. فنجد مثلاً الشبكة العربية للأبحاث والنشر والتي تقدم محتوى معرفيًا وبحثيًا ينتقي كُـتَّابه بعناية تجبره الظروف الاقتصادية المتعلقة بكُلفة الإنتاج المرتفعة، والقرارات الاقتصادية من جانب الحكومة المصرية، ونمط العلاقات الرأسمالي المتغول نحو رفع سعر الكتاب، والترويج الدعائي للكتاب على أنه سلعة باستخدام آلية دعائية تتمثل في «حفلات توقيع الكتب» على سبيل المثال لا الحصر [13]؛ مما يبرز قوة نمط العلاقات المُشار إليه، وإن كان التقليد قديمًا وفي كل الدور بطبيعة الحال.

هذا ذهب بنا إلى حالة استثنائية أخرى تتمثل في قضية حقوق الملكية الفكرية [14]. ففي الآونة الأخيرة، ومع انتشار التكنولوجيا، بدأ البعض بنسخ وتصوير الكتب، ثم رفعها على مواقع الإنترنت وإتاحتها بالمجان للجميع. ونجد فريقين حول تلك المسألة: الفريق الأول يذهب إلى أن هذا الفعل يجب أن يُجَرَّم لأنه يعتبر سرقةً وتعديًا على حقوق الملكية الفكرية، وفريق آخر يرى أن هذا الفعل لا يدخل في إطار السرقة؛ لأن السرقة تعني حرمان صاحب الملكية من ملكيته بالكامل مما يؤدي لخسارة فادحة. أما إتاحة الكتب فالشخص لم يحرم صاحب الملكية من ملكيته وإنما حرم صاحب الملكية فقط من احتكارها من أجل إتاحة المعرفة للجميع؛ مما يعني أن الكل مستفيد [15]. ولكن في كلا التبريرين يُختزل النقاش إلى توصيف الفعل قانونيًا، على أن النقطة الأهم هي مدى جدوى هذا الفعل ومدى أخلاقيته؛ لأن في واقع الأمر، تحديدًا في المنطقة العربية، هناك اعتبارات أكبر من القانون، متعلقة بالأوضاع الاقتصادية، ومدى الحاجة الملحة إلى نشر المعرفة في ظل تأخر معرفي مقارنة بالعالم الغربي.

إن عرض الحجج المؤيدة والحجج الرافضة أمر لا يتسع له حجم هذا المقال، لكن نظرًا للوضع الراهن في الساحة المعرفية العربية والمصرية، بالإضافة لسوء الأحوال الاقتصادية فإن فعل نسخ/تصوير الكتب ونشرها بالمجان على الإنترنت يبدو الأقرب للصواب، فمعظم الحجج الرافضة لهذا الفعل مبنية على رؤية رأسمالية بالأساس ترى في تملك الفرد للأشياء حقًا طبيعيًا لا يجب حرمانه منه [16]. لكن، الوضع الراهن في مصر والوطن العربي لا يتماشى مع هذا الفرض نظريًا، بل وأكبر منه عمليًا.

فعلى المستوى النظري، يمكن القول: إن النظرة الرافضة مبنية على رؤية ترى أن «أخذ شيء يمتلكه شخص ما هو أمر غير أخلاقي؛ لأنه نظرًا لندرة الموارد فمتى يجتهد شخص ما في عمل ما فإن نتيجة عمله يجب أن تعود إليه وحده»، لكن قضية الملكية «الفكرية» شيء مختلف؛ لأن الفكر نفسه غير مادي، وبالتالي لا تنطبق عليه «الندرة»؛ مما يجعل تداوله شيئًا لا يمكن اعتباره غير أخلاقي [17]، مع الأخذ في الاعتبار حق الناشر في كلفة نشره، وأن الأقرب للتصور تصوير الكتب بعد نفاد طبعتها الأولى كنوع من أنواع المواءمة بين الفريقين.

والحق أن العلاقة الاستهلاكية سالفة الذكر تقوم على أساس السعي وراء الربح، ولكن وفقًا لفعل النسخ/التصوير فإن هذه العلاقة تُشارِف على الانهيار؛ لأن تكلفة نسخ الكتاب تقارب الصفر نسبيًا [18]؛ مما يسمح للأفراد بأن يتجاوزوا النمط الرأسمالي ولو في مساحة بسيطة من مساحات تغول هذا النمط. وعلى المستوى العملي، فإن هناك معوِّقات يواجهها الباحث العربي تزداد صعوبة يوماً بعد يوم بسبب التدخلات الحكومية المختلفة، وبسبب النظرة العامة للباحث على أنه مشكوك في أمره تجعل من إتاحة مثل تلك الكتب بالمجان أمرًا في صالح البحث العلمي، بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار، في مصر تحديدًا.


[1] Frederick Engels, “Principles of Communism”, (Peking; Foreign Languages Press, 1977), pp.1-2, and also: Frank Elwell, “Karl Marx and the rise of Capitalism”, retrieved December 16, 2016, http://www.faculty.rsu.edu/~felwell/Theorists/Essays/Marx3.htm[2] وهو أمر لابد من الاعتماد عليه في تلك الحالة نظرًا لغياب الإحصائيات الدقيقة.[3] مادونا عماد، «الأكثر مبيعًا في معرض الكتاب لعام 2016: تراجع كتب التنمية البشرية أمام الروايات»، المصري اليوم، 10 فبراير 2016: http://www.almasryalyoum.com/news/details/890594، و:«في معرض الكتاب: إقبال على الروايات والكتب المسيحية، وتاريخ الإخوان الأكثر مبيعًا»، النبأ، 31 يناير 2016: http://www.alnabaa.net/story/529787 و: آية مصطفى، «دور النشر الإسلامية بمعرض الكتاب: “الروايات وقفت حالنا»، فيتو، 1 فبراير 2016: http://www.vetogate.com/2026252، ومجلة العرب، «إقبال كبير على الروايات والكتب العلمية»، بتاريخ 2 ديسمبر 2016: http://m.alarab.qa/Story/1024870، و:محمد جميل، «الإقبال على الروايات في معارض الكتب: أزمات على هامش المعرفة»، حوار بوست، 22 يونيو 2016: http://hewarpost.com/?p=1772[4] خالد عزب، «صناعة الكتاب العربي في أزمة»، الفيصل، 30 أغسطس 2016: http://www.alfaisalmag.com/?p=2987[5] سعادة عبد القادر، «مع اقتراب معرض القاهرة تعويم الجنيه يغرق صناعة الكتب»، أصوات مصرية، 18 نوفمبر 2016: http://www.aswatmasriya.com/news/details/70073[6] المصدر السابق.[7] زيجمونت باومن، «الحداثة السائلة»، ترجمة حجاج أبو جبر، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2016)، صـ137-138.[8] المصدر السابق، صـ 138-139-140.[9] الموقع الرسمي لدار الشروق، «عن دار الشروق»: http://www.shorouk.com/about/arabic.aspx.[10] الموقع الرسمي لمكتبات ألف، “Mission and Vision”: http://alefbookstores.com/mission-vision/.[11] انظر: د. محمد الغذامي، “رفوف المكتبات (رأسمالية الثقافة)، الرياض، 4 فبراير 2010: http://www.alriyadh.com/495605.[12] مثل والتر بينيامين وكارل شميت.[13] انظر: الصفحة الرسمية للشبكة على فيسبوك: https://www.facebook.com/NetworkArabMainGate/.[14] حول الجدل الدائر على هذه القضية وتفصيل مسهب للحجج انظر: Richard Spinello and Herman Tavani, “Intellectual property rights in a networked world”, (UK: Information Scince Publishing, 2004)[15] المصدر السابق.[16] المصدر السابق، صـ 7.[17] المصدر السابق، صـ 68.[18] Paul Mason, “Postcapitalism”, (London: Allen Lane, 2016).