انتشر الطاعون في الديار المصرية، أواخر 910 هـ، وصاحب ذلك موجات من الأزمات الاقتصادية في تلك السنة، خلال عهد السلطان قانصوه الغوري (906-923 هـ)، الذي أمر حاجب الحجاب ووالي القاهرة، بأن يكسروا جرار الخمر ويحرقوا أماكن وجود الحشيش والبوزة، أملًا في تحسن الأحوال في البلاد، بحسب ابن إياس في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور».

الحشيش بدأ كدواء

يحكي أحمد بن يوسف الكاتب في كتابه «المكافأة وحسن العقبي»، أن صديقًا له في عهد خمارويه، عُرف بـ«الدفاني» قابل أحد الأطباء في الشرقية، ودعاه إلى تناول الطعام، ثم قام لجلب الماء، فاستبدل الدفاني رغيفه برغيف الطبيب، فلما أكلا، شَخَّص بصر الطبيب وتمدد على الأرض، وظل هكذا حتى مرت بهم جماعة فلما رأوا ما به، قالوا لـ«الدفاني»: أنت مبنج بنجت هذا المسكين، وقاموا بتفتيشه هو والطبيب، فوجدوا مع الطبيب أرغفة بها بنج وأخرى خالية، والنبج كما ذكر: هو نبات ينتبذ به، وإذا استعمل خدر وأرقد، وبنجه: أي سقاه منه.

تشير تلك الحكاية إلى أن الحشيش كان يُعرف باسم البنج في عهد الدولة الإخشيدية، وقد استخدم كمادة مخدرة حتى عهد الدولة الأيوبية، وهذا ما يؤكده الدكتور مصطفى سويف في كتابه «المخدرات والمجتمع»، أن المنطقة العربية عُرفت بالاستخدامات الطبية للقنب خلال القرن التاسع الميلادي، وانتشرت طرق استخدامه في كتب الطب خلال القرن العاشر الميلادي، وتغير مسماه من بنج إلى حشيش في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، وانتشر في مصر خلال عهد الدولة الأيوبية، زراعة الحشيش وأكله، وعن هذا قال عالم النبات ابن البيطار: إن آكله يشعر بالخفة والسرور، ولكنه ينتهي به إلى العته وربما الموت.

حشيشة الفقراء: هنا أغصان السعادة

انتشر تناول الحشيش بين الفقراء والبسطاء في مصر خلال العهد الأيوبي، ولم تكن هناك عقوبة تذكر لمن يزرع أو يأكل الحشيش، وبجانب عدم وجود عقوبة يرجع انتشار الحشيش في القاهرة، لوفرة نبتة الحشيشة في البستان الكافوري، الذي كان يذهب له الناس ويقطفونها، لكن أحيانًا إذا شاهد أحد السلاطين تلك النبتة فيأمر بجمعها وحرقها، مثلما فعل السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب (637-647 هـ)، بحسب ما ذكر المقريزي في كتابه «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار».

وحكى المقريزي، أنه في عهد السلطان العزيز بالله عماد الدين عثمان الأيوبي (589 – 595 هـ)، كانت توجد في حارة المحمودية بالقاهرة، طاحون لطحن الحشيش وبيعه وفرضت عليها ضرائب باهظة، وصلت إلى 16 دينارًا يوميًا، مما يدل على أن الحشيش لم يكن منكرًا في تلك الفترة.

وذكر المقريزي، أن زراعة الحشيش انتشرت في القاهرة، فنجد بخلاف البستان الكافوري، في بساتين أرض الطبالة وباب اللوق وحكر واصل ببولاق، التي عُرفت بزراعة الحشيش وبيعه خلال العصر المملوكي، وقد انتشرت هذه «الشجرة الملعونة» (يقصد نبتة الحشيش) وولع بها أهل الخلاعة والسخف ولوعًا كثيرًا، وتظاهروا بها من غير احتشام.

وقد تنوعت أسماء نبتة الحشيش بين الناس، فهناك من لقبها بالمعلوم، وشجرة الطرب، وشجرة الفهم، ومعلوم الفقراء، وحمصة، وأغصان السعادة، والدواء، والترياق، والعقدة، وغيرها من الأسماء التي ذكرها تقي الدين البدري الدمشقي في كتابه «راحة الأرواح في الحشيش والراح»، وكما تنوع الحشيش في أسمائه تنوع في طرق تناوله، يذكر المقريزي، أن الناس كانوا يضيفون له السكر والعسل، أو يصنعون منه أقراصًا مضافًا لها السمسم والسكر، ثم يؤكل، رغم ما عرف عن الحشيش من أضرار، ومنها إفشاء السر وإنشاء الشر وإذهاب الحياء وعدم المروءة وعدم الغيرة، كما ذكر عماد الاقفهسي في كتابه «إكرام من يعيش بتحريم الخمر والحشيش».

ضمان الحشيش: بين المد والجزر

تباين رد فعل سلاطين المماليك مع زراعة الحشيش والاتجار فيه وتناوله، ما بين المد والجزر، فأحيانًا كان مباحًا وأحيانًا كان محرمًا ويتم محاربته بشدة.

عُرف عن دولة المماليك فرضها الضرائب والمكوس، لسد حاجة خزانة الدولة من الأموال، ومن هذه الضرائب «ضمان الحشيش» التي بدأت في العهد الأيوبي واستمرت في عهد المماليك، ففي عهد أول سلاطين دولة المماليك، الملك المعز عز الدين أيبك (1250-1257م)، فرض مكوسًا على الدواب من الخيل والجمال والحمير وغيرها، وعلى الرقيق من العبيد والجواري، وعلى سائر المبيعات، وضمانات على المنكرات من الخمر والمزر والحشيش وبيوت الزواني، وسميت تلك الضمانات بالحقوق السلطانية والمعاملات الديوانية، وقد ذكر المقريزي في كتابه، أن الأموال التي جمعها أيبك، مكنته من محاربة الأمراء الفارين، وشراء عديد من المنازل والمماليك.

وظل ضمان الحشيش معمولًا به، حتى بدأ عهد الملك الظاهر ركن الدين بيبرس (658-676 هـ)، حيث أمر بإبطال ضمان الحشيش الخبيثة وأمر بتأديب من أكلها، بحسب المقريزي في كتابه «السلوك لمعرفة دول الملوك»، كما أنه منع الحانات والخواطئ، وأرسل المراسيم لجميع أقطار مصر والشام، لمنع الخمر والحشيش، فاشتد إنكار المنكر في عهده.

وسعى السلطان المنصور لاجين (696 – 698 هـ) إلى منع الحشيش، وكذلك السلطان الناصر محمد بن قلاون (709 – 741 هـ)، بعدما شاع في عهده تناول الحشيش، فقرر مكافحة الحشيش بتعيين «قدا دار» على ولاية القاهرة، سنة 724 هـ، فتتبع المفسدين، ومنع الخمر، وعاقب من وجد عنده، فتخلص الناس منها، ثم تعقب أماكن وجود الحشيش، بخاصة خط باب اللوق، وكان يجمعه ثم يحرقه عند باب زويلة، وظل هكذا شهرًا، حتى طهر المدينة منه، وخاف منه أهل الفساد، وشكره السلطان وأثنى عليه، بحسب ما ذكر المقريزي في كتابه «المواعظ والاعتبار».

وأشار المقريزي في كتابه إلى أن السلطان المظفر بيبرس الجاشنكير المنصوري (708 -709 هـ)، أبطل ضمان الحشيش والخمر، وكبس على أماكن الريب والفواحش بالقاهرة، وعاقب بالضرب بالمقارع كل من يعرف عنه تناول الحشيش والخمر، وتتبع أماكن الفساد وإزالها.

ومن العقوبات التي توقع على من يتناول الحشيش، كانت قلع الأضراس، وهذا ما فعله الأمير سودون الشيخوني، سنة 780 هـ، عندما كبس على الجنينة من أرض الطبالة وباب اللوق وحكر واصل بباب اللوق، وأتلف تلك الشجرة الملعونة (نبتة الحشيش)، وقبض على مَن فيها، ثم قام بخلع أضراسهم، وذلك للحد من أكل الحشيش، كما ذكر المقريزي.

وذكر ابن تغري بردي في كتابه «حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور»، أن السلطان الظاهر جقمق (842 -857 هـ) منع الحشيش، وعاقب كل من تناوله، حتى إنه كان يحضر بنفسه محاكمات من تناول الحشيش، مثل حضوره لمحاكمة أسد الدين الكيماوي، سنة 852 هـ.

ذكر المقريزي وابن تغري بردي في كتبهما، أن الحملات ومكافحة تناول الحشيش ومحاربة المنكرات، كانت تزداد في أوقات انتشار الأوبئة والمجاعات وانخفاض منسوب النيل، في محاولة من السلاطين ورجال الدولة في دفع الناس بعيدًا عن المعاصي، على عكس أوقات الرخاء، فلم تكن الدولة تلتفت إلى ظاهرة أكل الحشيش.

ويشرح المقريزي أن أكل الحشيش انتشر بين طوائف الناس، وأصبح مرحبًا به، فكان يؤكل دون حياء أو احتشام في الطرقات، وهذا ما دفع صدر الدين أحمد محتسب القاهرة إلى الذهاب لأماكن الفساد بنفسه لكسر جرار الخمور ومنع التظاهر بالحشيش، مما يدل على عدم منع زراعته أو أكله في السر والخفاء.

وهكذا ظل حال الحشيش في الديار المصرية، ما بين مكافحة ومنع أو تناول دون عقوبة مع فرض ضمان الحشيش، الذي كان يفرض على استحياء على فترات متباعدة، ويسمح لمن يريد، بزراعة الحشيش، والاتجار به، وتناوله في العلن.

ويحكي «ابن إياس»، أن الطاعون ضرب البلاد مرة ثانية، في عهد السلطان الغوري، سنة 919 هـ، فقرر منع الحشيش والبوزة، وظل عماله ينادون في القاهرة، لمدة ثلاثة أيام، حتى يمتنع الناس، مما يدل على انتشار الحشيش يشكل واسع فيما بينهم، فامتنعوا عنه حتى تمرُّ الأزمة ثم عادوا لأكل الحشيش مرة أخرى، وهنا نادى السلطان الغوري بتحريم بيع الحشيش، وأن يشنق من يجاهر به غير معاودة، وذلك سنة 922 هـ، فلم يسمع له الناس، ولم ينتهوا عما هم فيه.

الحشيش في يد النخبة

لم يرد في كتب التاريخ تناول سلطان مملوكي للحشيش، إلا السلطان المؤيد شيخ (815 -824 هـ)، حيث ذكر المقريزي في كتابه «السلوك»، أنه كان يتظاهر بأنواع المنكرات، فحاشًا شبابًا، وأيد ذلك «ابن إياس» في كتابه، أن المؤيد كان يتجاهر بالمعاصي، وأكل الحشيش المستقطر.

ومن أغرب ما ذكره المقريزي، أنه في سنة 742 هـ، اجتمع الناس أمام بيت قاضي القضاة حسام الدين الغوري الحنفي بالمدرسة الصالحية، بعد أن عرفوا أنه يأكل الحشيش، وكسروا باب بيته لكنه فر منهم، واستجار بقاضي القضاة موفق الدين الحنبلي، ومنع الناس منه، كذلك ذكر أن الشيخ محمد بن محمود الصوفي، أحد طلبة الحنفية، متهم بحشيشة الفقراء (أي أكل الحشيش).

أما عن الصوفية، فهم لم يستنكروا أكل الحشيش، بل رغبوا فيه، مثل طائفة الحيدرية، وطائفة القلندرية، وهما طائفتان عرفتا بالتصوف وأكل الحشيش، وقال عنهم المقريزي، إنهم قوم طرحوا التقيد بآداب المجالسات والمخاطبات، وقلت أعمالهم من الصوم والصلاة إلا الفرائض، ولم يبالوا بتناول شيء من اللذات المباحة، واقتصروا على رعاية الرخصة، ولم يطلبوا حقائق العزيمة، والتزموا ألا يدخروا شيئًا، وتركوا الجمع والاستكثار من الدنيا ولم يتقشفوا ولا زهدوا ولا تعبدوا، وزعموا أنهم قد قنعوا بطيب قلوبهم مع الله تعالى.