كان مما حبا الله به مصر وجود ورق البردي بكثرة في مستنقعاتها في دلتا النيل، وعلى مجاريه المختلفة، فاكتشف المصري القديم طريقة تحويل هذا النبات إلى ما يشبه الورق المقوّى للكتابة عليه وذلك قبل ألفين وخمسمائة عام من ميلاد المسيح عليه السلام، وفي وقت كانت الأمم المعاصرة للفراعنة تستخدم الألواح الصخرية، وجذوع الأشجار، ورق الحيوانات وعظامها للكتابة والتدوين. هذا الورق لم كتب عليه فقط باللغة الهروغلوفية أو ما عاصرها من لغات فقط، وإنما أيضا ما لا يعرفه الكثيرون أنه كتب عليه أيضا باللغة العربية ..

الاكتشاف والاهتمام البحثي

ظلّ لورق البردي مكانته في التوثيق والكتابة اليومية في مصر حتى دخول الإسلام فيها على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه سنة 20 هـ، فاعتمد المسلمون الأوائل على هذا النبات لتوفره ورخص سعره مقارنة بالرق أي الجلود المرقّقة المعدة للكتابة، والعظام العريضة وغيرها، ولم يكن العالم في ذلك القرن الأول من الهجرة قد اكتشف الورق الصيني بعد، فضلاً عن عدم انتشاره إلا في القرن الثاني الهجري بعد ذلك.

لقد كان دَرَج البردي الذي يُصنعُ في دور البردي، ثم يُتداول في أيدي الناس عن طريق التجارة، يتألّف من عشرين ورقة ملصق بعضها ببعض، وتُسمى الورقة الأولى من هذه الأوراق باليونانية بروتوكول “protocol” أو “اللصق الأول”، وكانت تشتملُ على الكتابة الرسمية التي تُسمى الآن الطراز [1].

وكان من حسن حظّ المنقّبين عن الآثار في مصر أن اكتشفوا البرديات العربية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين [2]، وكان لهذه البرديات المكتشفة من أماكن متفرقة من مصر في الفيوم والصعيد وغيرها أكبر الأثر في معرفة كيف كانت مراسيم المسلمين الأوائل في القرن الأول الهجري في مصر، وكيف كانت وثائقهم وحياتهم اليومية وعاداتهم وأعرافهم الاجتماعية، ومراسيم زواجهم وطلاقهم، بل وعلاقات الحب لدى بعضهم، مما يعد من أعظم الاكتشافات لباحثي التاريخ والمنقّبين فيه؛ ذلك لأن التاريخ لا يقوم في الأصل إلا الوثائق إن وجدت، وكل ما عدا ذلك من المصادر التقليدية التي كتبها المؤرخون ودوّنوا بها الأحداث تعد تالية أو ثانوية على هذه الوثائق؛ للدرجة التي جعلت بعض كبار المؤرخين ممن كتبوا في منهجيات التاريخ يقولون: لا تاريخ بدون وثائق، وهي الجملة التي اشتُهرت بهذه الصياغة في اللغات الأجنبية:

no documents no history [3].

ومما تجدر الإشارة إليه أن الوثائق المكتشفة في تاريخ التراث الإسلامي تعد قليلة، بل ونادرة، وأهم هذه الوثائق المكتشفة هي: أوراق البردي الإسلامية، ووثائق الجنيزة اليهودية، ووثائق الحرم القدسي الشريف، ثم وثائق متفرقة من العصور الإسلامية المختلفة، وإن اثنين من أهم هذه المجموعات قد اكتشفت في مصر، وهي أوراق البردي العربية والجنيزة اليهودية.

لقد بدأ الاهتمام البحثي العلمي بالبرديات العربية منذ نهاية الربع الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، وبالتحديد سنة 1824م، وذلك عندما عثر بعض الفلاحين على جرّة فخّارية صغيرة مختومة كانت محفوظة في مقبرة أو بئر مجاور لهرم سقارة المدرج في منطقة الجيزة، وقد عُثر بداخل تلك الجرّة على وثيقتين اشتراهما القنصل الفرنسي في القاهرة آنذاك ويُدعى برناردو دوفيتي، ونظرًا لعدم درايته بمحتواها سلّمها للمستشرق الفرنسي الشهيرالبارون سلفستر دي ساسي الذي اعتنى بهما ونشرهما في صحيفة فرنسية شهيرة كانت تُسمى “مجلة العلماء”، وكان هذا أول نشر علمي لوثائق بردية عربية [4].

ومنذ ذلك التاريخ بدأ الاهتمام بجمعها وقراءتها ونشرها والتعليق عليها من قبل العديد من العلماء والباحثين والمكتبات الكبرى، فمنها مجموعة هايدلبرج بألمانيا التي تعد من أكبر مجموعات البرديات العربية المحفوظة في أوربا، وممن اهتم بالجمع الباحث الألمانيموريتز الذي حرص على شرائها وجمعها بدار الكتب المصرية، وقد كان رابع مدير لدار الكتب المصرية (1896 – 1911م)، وممن اهتم بالدراسة والترميم الباحث الأشهر الذي أفنى عمره في تجلية تلك المجموعات المكتشفة وهو العالم النمساوي أدولف جروهمان الذي بدأ اهتمامه بدراسة البردي العربي منذ أن كان أستاذًا للغات السامية وتاريخ الحضارة الشرقية في جامعة براغ التشيكية، وكان قد بدأ في نشر عدد من هذه البرديات منذ سنة 1924م معتمدًا على أضخم مجموعة من البرديات العربية التي تحتفظ بها مجموعة الأرشيدوق رينر بالنمسا.

ونظرًا لشهرة ورسوخ جروهمان في هذا المضمار؛ فقد تم استدعاء الرجل كأستاذ زائر إلى جامعة القاهرة فظل بها مدة تقارب العشرين عامًا ما بين عامي 1936 إلى 1955م خصصها كلها لدراسة البرديات المكتشفة، وتمكن من نشر جزء كبير من هذه المجموعات البردية العربية، مخصصًا لها عشرة مجلدات كاملة، صدر منها ستة أو سبعة مجلدات حتى الآن [5].

وتتابع الاهتمام بهذه الوثائق المهمة، فعكف عليها آخرون منهم الدكتورسعيد مغاوري محمد الذي كان مديرًا لقسم البرديات العربية بدار الكتب والدكتور جاسر بن خليل الذي عكف سنين عددًا لتجميع وكتابة بحث قيّم عن برديات قرّة بن شريك العبسي أحد ولاة مصر في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان (86 – 96هـ) وغيرهم كثير ممن لا يزالون يخرجون لنا أسرار ودفائن هذه المجموعات المكتشفة في الأبحاث العلمية المتخصصة المحكّمة أو في كتب تزداد يومًا بعد يوم في أسواق النشر.

الأهمية التاريخية

كتاب (محاضرات في أوراق البردي العربية) أدولف جروهمان
كتاب (محاضرات في أوراق البردي العربية) أدولف جروهمان

إن أوراق البردي العربية المكتشفة في مصر تكشف لنا كيف كانت حياة الناس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في القرون الأربعة الأولى من الهجرة في مصر، إذ إنّ أقدم وثيقة عثر عليها تعود إلى عام 22 من الهجرة في ظل إمارة عمرو بن العاص رضي الله عنه، وآخر وثيقة مكتشفة تعود إلى العصر الفاطمي. وتعود أهمية هذه الوثائق؛ لأنها اهتمّت – كعادة الوثائق – بتدوين ما لم تدونه أو تهتم به مصادر التاريخ التقليدي، التي غالبًا ما تهتم بحكايات القصور، وحيوات السلاطين والأمراء، وساحات المعارك، وأخبار الدول، ونادرًا ما تلتفتُ إلى الناس وهمومهم اليومية. ولقد تنوعت هذه الوثائق كما أشرنا، وكان للكتابة في أوراق البردي نمط متعارف عليه، فكل مجموعة رسمية في دواوين الدولة آنذاك من أوراق البردي مكونة من عشرين ورقة كان يُطلق عليها الدرَج، وكانت أول ورقة من هذا الدرَج الرسمي خاصّة عبارة عن طراز أو بروتوكول مكتوب باللغتين العربية واليونانية فيه اسم الخليفة أو الوالي الذي صُنع في عصره هذا الدرج، فضلا عن الأوراق غير الرسمية، ويمكن فهم السبب في كتابة اللغة اليونانية بجوار العربية في ورقة الطراز التي تُزيّن بداية كل مجموعة؛ لانتشار هذه اللغة في مصر في بداية الفتح الإسلامي لها، ولغاية انتشار اللغة العربية فيها في نهاية القرن الهجري الأول؛ فضلاً عن استعانة المسلمين بالموظفين المحليين ممن كانوا يتقنون اليونانية بطبيعة الحال [6]. لقد عدّ الدكتور سعيد مغاوري في بداية مجموعته القيّمة “الألقاب وأسماء الحرف والوظائف في ضوء البرديات العربية“، عشرين أهمية بحثية وتاريخية لأوراق البردي العربية، بل ذكر أنها كشفت لنا كشوفات جديدة متعلّقة بطريقة الكتابة في القرن الأول الهجري، وأسماء القرى والمدن والحرف والصناعات والأسعار والعُملات التي كانت منتشرة آنذاك، وطرق جباية الأموال والضرائب والخراج، وكيف تعامل الولاة المسلمون في تلك القرون الأولى من الهجرة مع الأقباط في مصر، وسمحوا لهم بحرية العبادة، والتقاضي، وحرية البيع والشراء والتملّك بل وثراء بعضهم بعدما عصفت بهم عواصف التضييق البيزنطي، وكذلك كشفت أوراق البردي عن مدى تغلغل العلاقات الاجتماعية بين العرب والأقباط من خلال عقود الزواج المكتشفة، كما كشفت هذه البرديات المكتشفة طريقة تقديم المظالم للحاكم. وفي مقالنا القادم سنقف مع نماذج من هذه البرديات العربية المكتشفة لنجلي الغبار عنها، ونحاول تحليلها وقراءتها وفهمها واستيعاب ما فيها بالاستعانة بالمصادر التاريخية والأدبية الموجودة بين أيدينا اليوم.


*باحث في التاريخ والتراث.

[1] أدولف جروهمان: أوراق البردي العربية في دار الكتب المصرية 1/ 4، 5. ترجمة حسن إبراهيم حسن، دار الكتب المصرية – القاهرة، 1934م.

[2] جاسر بن خليل أبو صفية: برديات قرّة بن شريك العبسي؛ دراسة وتحقيق ص14. مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الطبعة الأولى – الرياض، 2004م.

[3] انظر: أدولف جروهمان: محاضرات في أوراق البردي العربية، ترجمة توفيق إسكاروس، مقدمة المحرران. ط دار الكتب والوثائق المصرية – القاهرة، 2010م.

[4] سعيد مغاوري محمد: الألقاب وأسماء الحرف والوظائف في ضوء البرديات العربية 1/ 33. دار الكتب والوثائق القومية – القاهرة، 2000م.

[5] محاضرات في أوراق البردي العربية، مقدمة المحرّران.

[6] جروهمان: محاضرات في أوراق البردي العربية، المحاضرة الأولى ص23 – 25.


اقرأ المزيد:

رحلة ابن فضلان.. الشخصية التي استلهمتها هوليود في (المحارب 13)

البيمارستان القلاووني.. درة شارع المعز