تبقى الأفلام هي العامل الأهم في تقييم أي مهرجان سينمائي، التنظيم، والفعاليات، وحفلتا الافتتاح والختام مهمون بالطبع، ولكن أيًا كان مستوى التنظيم مع وجود أفلام ضعيفة المستوى، فلن يذكر أحد المهرجان بأي شيء، العكس -في الأغلب- يكون صحيحًا، إذ يمكن التغاضي عن أخطاء التنظيم أحيانًا إذا كانت الأفلام المعروضة جيدة المستوى ومتنوعة وتشبع حاجة أي محب للسينما.

وإذا اجتمعت الجودة في كل هذه العناصر، فنحن أمام دورة مهرجان ممتعة وناجحة، وهو ما قدمه بالفعل «مهرجان الجونة السينمائي» في دورته الأولى التي جرت فعاليتها من 22 إلى 29 سبتمبر/أيلول الماضي.

في إطار المهرجان عُرض أكثر من 50 فيلمًا طويلاً، مقسمة بين المسابقات والبرامج المختلفة، منها الروائي، والوثائقي، والتحريك، بجانب أكثر من 15 فيلمًا روائيًا قصيرًا في إطار مسابقة الأفلام القصيرة. الأفلام الجيدة كثيرة بالفعل، وخاصة في القسم الرسمي خارج المسابقة الذي احتوى على عدد من أهم أفلام السنة، وهناك الكثير من الأفلام التي يمكن الحديث عنها بالتفصيل.

لكن يمكن إلقاء نظرة أوسع على مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، من خلال إعادة النظر في الجوائز التي منحتها لجنة التحكيم.


نجمة الجونة الذهبية لأفضل فيلم عربي: «فوتوكوبي»

يمكن النظر إلى وجود جائزة مخصصة للفيلم العربي داخل المسابقة من وجهتي نظر؛ الأولى هي دعم موجه للسينما العربية، والثانية هي التخوّف من عدم قدرة السينما العربية على المنافسة مع الأفلام الأخرى، وإن كنا نشاهد الكثير من الأفلام العربية شديدة التميز في السنوات الخمس الأخيرة بشكل يؤهلها لتكون منافسًا قويًا بالفعل، بشكل يستبعد الفرضية الثانية.

ضمت المسابقة 4 أفلام عربية هي: من مصر «شيخ جاكسون» لعمرو سلامة، و«فوتوكوبي» لتامر عشري، ومن لبنان «قضية رقم 23» لزياد دويري، وأخيرًا من المغرب «وليلى» لفوزي بنسعيدي.

اقرأ أيضًا: فيلم «الشيخ جاكسون»: الشيوخ أيضًا يحبون الموسيقى

عادة ما تفضل لجان التحكيم إقامة توازن بين الجوائز فلا تمنح فيلمًا واحدًا جائزتين إلا فيما ندر، وهو ما مالت إليه لجنة التحكيم بمهرجان الجونة السينمائي.

التفاوت في المستوى الفني للأفلام كان كبيرًا بالطبع، تناول الفيلم المغربي الصراع بين طبقتين مختلفتين في المجتمع المغربي، الغني والفقير، وإن لم يكن في المعالجة جديد يُذكر بل نفس نقاط الصراع التقليدية. بينما اختار «شيخ جاكسون» الانتقال إلى الصراع الداخلي، بين الاستمتاع بتفاصيل الحياة والتزمت. يقدم عمرو سلامة معالجة جيدة لهذه الفكرة، وإن كان يحتاج إلى المزيد من الإحكام على مستوى السيناريو، ولكنها بالتأكيد تجربة مهمة وبها الكثير من التفاصيل الممتعة.

الفيلم الأقوى هو «قضية رقم 23» الذي كان جريئًا في طرحه لفكرة الصراع بين هويتين مختلفتين بشكل شديد الحدة والقسوة، من خلال سيناريو يدور معظمه في أروقة المحاكم لكنه ظل محافظًا على إيقاع التشويق والتصاعد في الأحداث حتى نهايته.

لكن الجائزة ذهبت إلى «فوتوكوبي» المبني على فكرة جيدة ونادرة الظهور في السينما المصرية وهي علاقة الحب بين مسنّيَن ورد فعل المجتمع والأقارب عليهما، لم تكن المعالجة أو السيناريو على نفس مستوى الفكرة الرئيسية الجيدة، ولم ينجح الفيلم في الوصول إلى عمق فكرته بشكل جيد، بل طرح عدة ملامح وشخصيات من هنا وهناك دون أن يُحكمها معًا.

هكذا كانت هذه الجائزة هي الأغرب في إطار جوائز الأفلام الطويلة، يمكن التخفيف من غرابتها إذا نظرنا إلى بقية الجوائز، إذ نالت الممثلة «نادية كوندا» أفضل ممثلة عن «وليلى». كما حصد «قضية رقم 23» جائزة النجمة الفضية، وعادة ما تفضل لجان التحكيم إقامة توازن بين الجوائز فلا تمنح فيلمًا واحدًا جائزتين إلا فيما ندر، وإن كان «شيخ جاكسون» يبقى فيلمًا أفضل على مستوى الصناعة على الأقل من «فوتوكوبي»، ولم يفز بأي جائزة أخرى، لكنها في النهاية رؤية لجنة التحكيم.


نجمة الجونة لأفضل ممثلة: «نادية كوندا»

على عكس أدوار الممثلين التي تألق وبرز من خلالها الكثيرون، كانت الأدوار النسائية اللافتة في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة نادرة، يمكن تلخيصها في أربعة أدوار.

الأولى بالطبع هي الممثلة «ناتو مورفانيدزه» بطلة الفيلم الجورجي «Scary Mother» الحائز على النجمة الذهبية لأفضل فيلم روائي طويل، في دور شديد الصعوبة، كثير التفاصيل، لأم مضطربة في علاقتها بأسرتها وبوالدها، تؤلف رواية صادمة لكل من يقرأها، وتقدم لنا مورفانيدزه أداءً مذهلًا، يجمع بين الاضطراب النفسي، وحمى الإبداع التي استغرقتها أثناء كتابة تفاصيل روايتها، حتى نشعر أنها أزالت الخط الفاصل بين واقعها وخيالها لتصبح هي وروايتها واحدًا، كل هذا بهدوء، دون انفعالات زائدة أو تشنجات مفتعلة.

وفي دور أم أخرى تقع تحت معاناة من طابع مختلف تأتي «فاليري تشيبلانوا» في فيلم «Son of Sofia» من اليونان، وتظهر بصورة أم تعشق ابنها وتتورط بعد موت زوجها في الزواج من رجل عمره ضعف عمرها حتى تستطيع أن تستمر في الحياة، أهم ما قدمته تشيبلانوا هو الحفاظ على نظرة الأسى في عينيها طيلة الوقت، وانتقالها بسهولة بين طريقة تعاملها مع ابنها المملوءة حبًا، وتعاملها مع زوجها المملوءة كبتًا وخنوعًا.

ثم تأتي الممثلة الفرنسية «سيلين ساليت» في فيلم «Corporate» في دور مديرة الموارد البشرية القاسية التي لا تتورع عن فعل أي شيء من أجل مصلحة عملها ومصلحتها الشخصية، لكن الأحداث تضع مصلحتها الشخصية في مواجهة العمل، وهكذا تبدأ هذه الشخصية القاسية في الانكسار تدريجيًا حتى تستطيع الوصول إلى قرار. هكذا قدمت ساليت تدرجًا مميزًا لسقوط وتدهور الشخصية التي لعبتها.

ما الذي قدمته «نادية كوندا» لتحصل على الجائزة؟

كما ذكرنا فإن فيلم «وليلى» عليه عدة مآخذ من جهة السيناريو، ولكن ليس على مستوى التمثيل. تظهر كوندا في دور بسيط وهادئ لزوجة تقليدية فقيرة تحب زوجها، ولا تستطيع ممارسة الحياة الطبيعية معه نظرًا لفقرهما وإقامتهما في بيت واحد مع أسرة الزوج.

تمزج نادية في أدائها بين عاطفة الحب الشديد لزوجها، والأسى في الآن ذاته لعدم قدرتها على التواصل مع زوجها، الذي زاد ابتعاده تعرضه لصدمة شديدة. تظل ناتا مورفانيدزه المرشح الأقوى للجائزة، ولكن أفضل ما قدمته نادية هو الصدق والبساطة في أداء شخصية نستطيع مقابلة مثلها في الواقع يوميًا.


نجمة الجونة لأفضل ممثل: «دانيِل خيمينيز كاتشو» عن فيلم «Zama»

هذه الجائزة تحديدًا كان بها الكثير من المنافسة؛ لتعدد الممثلين الذين قدموا أداءات لافتة بل وجود أكثر من اسم في فيلم واحد.

نعود لفيلم «شيخ جاكسون»، تألق خلاله الممثلون الرجال بشكل لافت، «ماجد الكدواني» في دور الأب اللاهي الذي يقسو على ابنه ليصبح رجلًا، في إطار مفهومه هو للرجولة، القوة البدنية والعلاقات النسائية، ثم «أحمد مالك» في دور «جاكسون» مراهقًا الذي كان عليه أن يحمل عبء إظهار تطور الشخصية وحيرتها وقد قدم مالك هذا ببراعة، حتى أنه كان ندًا لماجد الكدواني، ومع تألق الكدواني عادةً يصبح من الصعب الظهور أمامه، لكن المشاهد التي جمعتهما كانت من أكثر مشاهد الفيلم إمتاعًا وتألقًا لكل منهما.

شهد فيلم «شيخ جاكسون» تألقًا لافتًا للممثلين الرجال؛ ماجد الكدواني في دور الأب، وأحمد مالك وأحمد الفيشاوي في دور جاكسون في مراحل عمرية مختلفة.

ثم نأتي لأحمد الفيشاوي في دور شيخ جاكسون، الذي قدم دور الشيخ المتدين بشكل مختلف، ملمًّا بأصغر تفاصيل الشخصية، وفوق هذا، محافظًا على وحدة ملامح الشخصية بينه وبين مالك، فلا يشعر المشاهد لوهلة أن هذه الشخصية مفصولة عن تلك، وهو أمر يحسب لمخرج الفيلم «عمرو سلامة» بالطبع، لكنه بالتأكيد يحتاج إلى ممثل بقدرة الفيشاوي.

هكذا نجد أن فيلمًا واحدًا احتوى على ثلاثة ممثلين مميزين يستطيعون المنافسة على الجائزة.

الحال نفسه تقريبًا ينطبق على فيلم «قضية رقم 23» إذ يظهر الممثل الفلسطيني «كامل الباشا» في دور الفلسطيني المغلوب على أمره والذي يعاني من الصعوبات للحصول على عمل في لبنان، ويجد نفسه متورطًا في قضية أكبر منه لمجرد موقف عابر أثناء العمل، كامل هو أقل الشخصيات حديثًا في الفيلم، لكنه عبر بوجهه عن كل ما يريد أن يقوله، وهكذا لم يكن غريبًا أن يحصل على جائزة أفضل ممثل في مهرجان فينسيا في دورته المنصرمة.

لكن هذا لم يمنع تألق أكثر الشخصيات نُطقًا بالحوار التي أداها ببراعة الممثل «كميل سلامة»، والذي كان له حضور قوي على الشاشة، ساعده تكوين الشخصية، التي يسهل الصدام مع مبادئها، لكن يصعب عدم الإعجاب بها في الوقت نفسه.

بجانب هؤلاء أيضًا قدم كل من الهندي «عرفان خان»، والروسي «أليكساندر ياتشينكو» أداءً جيدًا في فيلمي «No Bed for Roses»، و«Arrhythmia»، لكن الجائزة ذهبت في النهاية للمكسيكي «دانيِل خيمينيز كاتشو».

يقدم كاتشو شخصية «زاما»، أحد الضباط التابعين للإمبراطورية الإسبانية، الذي يقضي خدمته في إحدى مستعمرات أمريكا الجنوبية، يقدم كاتشو شخصية زاما بمظهر ضعيف، يحاول أن ينال رضا الأسياد حتى ينتقل لمقاطعة أخرى، لكنه في النصف الثاني من الفيلم يُدرك أن هذا النقل لن يأتي وهكذا يتحول من ضابط منكسر إلى ضابط أكبر سنًا غير عابئ بما يحدث، يريد أن يعيش بأي شكل كيفما اتفق، هكذا قدم كاتشو عدة شخصيات من خلال شخصية واحدة، ولهذا لم يكن فوزه بالجائزة مستبعدًا.


نجمة الجونة للفيلم الروائية الطويل

مسابقة الأفلام الروائية الطويلة ضمت 15 فيلمًا من دول مختلفة، تمثل اتجاهات وأساليب مختلفة، بعضها تعد التجارب الطويلة الأولى لمخرجيها، مثل «Scary Mother» للمخرجة «آنا أوروشادزه»، و«فوتوكوبي» للمخرج «تامر عشري»، والبعض الآخر لأسماء معروفة ولها تجارب سابقة مميزة مثل المخرج الفنلندي «آكي كوريسماكي» صاحب فيلم «The Other Side of Hope»، الحائز عنه على جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين في دورته لهذا العام.

هكذا ندرك أن مهمة اختيار الأفلام الفائزة ليست سهلة بحال.

بالطبع تفاوت مستوى الأفلام، فهناك أفلام يصعب إدخالها في المنافسة بأي شكل مثل الإيطالي «The Music of Silence» عن قصة حياة مغني الأوبرا»​_ «أندريا بوتشيلي»، الذي جاء بسيناريو تقليدي جدًا وأداء مصطنع من بطله الشاب «توبي سيباستيان»، لكن هناك ما لا يقل عن 6 أو 7 أفلام جيدة بالفعل وبينها منافسة حقيقية.

وقع اختيار لجنة التحكيم على فيلم «Arrhythmia» لبوريس خليبنيكوف ليحصل على نجمة الجونة البرونزية، و«قضية رقم 23» لزياد دويري ليحصل على نجمة الجونة الفضية، بينما نال «Scary Mother» لآنا أوروشادزه نجمة الجونة الذهبية.

الفيلمان الحاصلان على الجائزة الذهبية والفضية يصعب جدًا الخلاف على جودتهما الفنية أو استحقاقهما للجائزة، فيلم «Scary Mother» هو التجربة الأولى لمخرجته صاحبة الـ27 عامًا، لكنه يظهر وكأن وراءه مخرج اختبر العديد من الأساليب حتى يصل إلى هذا النضج، تكوين الكادرات وضبط الحركة والأداء، واختيار أماكن التصوير، كل هذا جعل من هذا الفيلم تجربة مدهشة، وليس غريبًا حصوله أيضًا على جائزة «جمعية نقاد السينما المصريين»، بجانب حصوله على جائزة أو أكثر في كل مهرجان آخر عرض خلاله.

عمومًا لا تعترف السينما بالسن، ولكن وجب التنويه عن عمر المخرجة هنا لأنه يعني أنها وُلدت رائعة وأمامها مشوار رائع إن حافظت على المستوى المميز لفيلمها الأول.

ويأتي زياد دويري بفيلمه المثير للجدل ليحصل على الجائزة الفضية، ربما يتفاوت تقبل الفيلم من الناحية السياسية، وهو أمر طبيعي، وليس على المخرج السينمائي أن يطرح كل وجهات النظر بالتساوي بالمناسبة، في النهاية هو يطرح رؤيته، وسيأتي مخرج آخر لاحقًا ويقدم رؤية مضادة، ويبقى في النهاية كيفية صناعة الفيلم وإجادة طرح وجهة النظر تلك داخل الشريط السينمائي هو الفيصل في الحكم.

ومن هنا يصعب الاختلاف حول الجودة الفنية والتماسك لفيلم زياد دويري، ويصعب أيضًا عدم الاستمتاع بطرحه رغم أنه يطرح موضوعًا سياسيًا شائكًا، هكذا يمنح دويري درسًا سينمائيًا، وهو كيفية طرح قضية شديدة الحساسية والجمود في فيلم ذي إيقاع ممتع وجذاب حتى آخر دقائقه.

فيلم «Arrhythmia» هو الذي يمكن الجدال حوله، إذ كان هناك أكثر من فيلم آخر يستحق أيضًا الوصول للجائزة. «Arrhythmia» فيلم بسيط حول ممرض محدود الإمكانيات ومندفع متزوج من طبيبة، ونتيجة لشخصيته يواجه خطر خسارة زوجته وعمله في آن واحد. المعالجة بسيطة لكنه من الأفلام التي يمكن بسهولة التوحد مع شخصياتها، وجزء من هذا يعود للأداء المميز للممثلين.

لكن لا يمكن نسيان «The Other Side of Hope» الذي قدم فيه المخرج آكي كوريسماكي خطّان متوازيان للاجئ سوري متسلل إلى فنلندا، بجانب رجل أعمال يسعى فجأة للانفصال عن زوجته وتغيير حياته وعمله، وهكذا نتابعهما إلى أن يلتقيا في نقطة بعينها.

ما يميز الفيلم هو تقديم المخرج للخطين بشكل مختلف تمامًا، على كافة المستويات، فبينما تسود حالة من العبثية في الخط الخاص برجل الأعمال، وتظهر الألوان الزاهية محيطة بكل التفاصيل، تتحول الألوان إلى درجات غامقة وألوان ليس فيها الكثير من الحياة، مع حالة قاتمة في الخط الخاص باللاجئ.

هكذا يمكن القول إن المنافسة في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة كانت قوية، والنتائج في معظمها قابلة للجدل، كما هو الحال عمومًا مع جوائز المهرجانات، وإن كانت مُرضية إلى حد كبير. المهم هنا هو وجود عدة أفلام قوية في المنافسة مما جعل المسابقة ممتعة بالفعل، وهذا أفضل من أن تنحصر المنافسة في 3 أو 4 أفلام فقط.

من خلال 15 فيلمًا عُرضت في مسابقته الروائية الطويلة، نجح مهرجان الجونة في تأسيس دورة أولى قوية ومنوعة بها عدة أفلام مهمة من أفلام العام، مما يعد بالكثير في الدورات القادمة بالتأكيد.