هل الدحيح ملحد؟
هل ينتقي من المصادر العلمية ما يوافق توجهه الإلحادي؟
هل ينشر العلم أم ينقله؟

إن كنت تنتظر في نهاية هذا التقرير أن نجيبك عن هذه الأسئلة فثق أن «مكانك مش هنا»؛ لأننا هنا لن نناقش الحقائق العلمية التي يوردها الدحيح، ولن نثبت أو ننفي عنه الإلحاد، فلسنا بأهل علم ولا أهل فتوى.

فإذا لم تكن متخصصًا في علم أو دين، ولا تسعى لتفنيد حقائق علمية وفتاوى دينية، وإذا كنت «لا تبص بصة على المصادر»، وتكتفي بالمشاهدة دون تفكير أو مناقشة أو بحث، فأهلًا بك معنا.

ثنائية العلم والإلحاد

تخيل معنا هذا المشهد:

في القرن السابع عشر، أثناء محاكمته على قوله بمركزية الشمس، مخالفًا إيمان الكنيسة الكاثوليكية لمدة 12 قرنًا بمركزية الأرض، يقف العالم الأشهر «جاليليو جاليلي» ويقول لمحاكميه: «بُصوا بصة على المصادر»، ولكن لأنه كان هو المصدر الأول لذلك، فربما يقول لهم: «بُصوا بصة من التلسكوب»، الذي اخترعه ليثبت صحة قوله، ربما كان ذلك سيمنعهم من اتهامه بالهرطقة والحكم عليه بالإعدام ثم تخفيفه إلى الإقامة الجبرية، بعد إجباره على الاستتابة، وربما صارت عبارته «لكنها تتحرك» التي غمغم بها بعد محاكمته عنوانًا لكتاب علمي يصبح فيما بعد من أمهات كتب العلوم، وربما لو كانت السوشيال ميديا موجودة وقت جاليليو لاتهمته بالإلحاد أيضًا.

لكن ذلك المشهد العبثي لم يحدث، وبرّأت الكنيسة الكاثوليكية جاليليو من تهمة الهرطقة بالفعل، لكن بعد وفاته بحوالي 350 عامًا، وربما بعد عقود يقول الناس: كان هناك شاب اسمه الدحيح يقول «بُص بصة على المصادر» لكنهم حوّلوا جدال المصادر العلمي إلى جدال ديني واتهام بالإلحاد، وهو ماحدث منذ بداية ترند #الدحيح_ملحد، حيث غمرتنا السوشيال ميديا بطوفان من الجدالات حول العلم والإلحاد.

هذه الجدالات ليست جديدة لكنها متجددة باستمرار، وتشير إلى أننا نعشق الربط بين الأمور بطريقة عجيبة، فنربط بين العلم الدنيوي والإلحاد؛ فالعالم الدنيوي ليس متدينًا، والمتدين ليس عالمًا دنيويًا، وحينها نستعيد من الذاكرة أحداثًا ومشاهد اعتُبر فيها الدين نقيضًا للعلم أو الفلسفة، فكُفِّر علماء وفلاسفة واتُهموا بالكفر والإلحاد والزندقة والهرطقة والعلمانية وما شابه، ومن أشهرهم: جابر بن حيان، والخوارزمي، والجاحظ، والكندي، والرازي، والفارابي، وابن سينا، وابن الهيثم، وابن طفيل، وابن رشد. وذلك وفقًا للقائمة التي ذكرها «ناصر بن الفهد» في كتابه «حقيقة الحضارة الإسلامية» نقلًا عن «ما قاله أئمة الإسلام فيهم وفي عقائدهم»، على حد قوله.

ويمكن أن ننظر إلى هذا الربط بين العلم والإلحاد ضمن منظور اجتماعي شامل ومتوارث نمارسه في حياتنا اليومية، فكثيرًا ما نربط بين أمرين لا رابط فعلي بينهما، ولكن إذا تحقق أحدها فالثاني يتحقق بالتبعية، فنربط بين الممثلين والخمر والمجون، فالممثلون يشربون الخمر ويفسقون، ورجال الأعمال يغسلون الأموال ويتاجرون في الممنوعات، والأغنياء فاسدون وسارقون، والحرية تعني الفوضى والعمالة، وحقوق الإنسان تعني العري والمثلية، وكذا نربط بين العلم والإلحاد كشكل من أشكال ممارستنا للقولبة والتنميط والتصنيف قبل أن نفكر أو نناقش.

ليس موضوعنا هنا البحث في أسباب ذلك الربط؛ فقد أكدنا من البداية أننا لا نبحث في علم ولا نفنّد فتاوى.

ناقل الكفر ليس بكافر

قد تسمع هذه العبارة من شيخ جليل فتتوقع أنه سيتحدث عن الكفر والإيمان، وربما لا يكون ذلك في نيته، وقد تسمعها من عالم جليل فتتوقع أنه سيعلل بها إلحاده، وربما لا يكون ذلك في نيته، الأمر إذن يتوقف على اعتقادك وتوقعك وسياق القول وقائله، بالرغم من أنه يجب أن يتوقف على ما يُقال.

قد تقول: إن ناقل الكفر ليس بكافر إذا أنكره، أما إذا أقرّه فهو كافر كالقائل، حينها نقول لك: الدحيح لا ينكره ولا يقرّه بل يسوقه كدليل علمي، ولا أحد يدري نية الدحيح وإيمانه، كما أن الدحيح لا ينقل كفرًا أو إلحادًا بل نظريات علمية قد تعارضها نظريات أخرى، وقد تكون نظرياته إلحادية أو من علماء إلحاديين بالفعل، فإذا كنت عالمًا فجادله في علمه، وإذا كنت فقيهًا فجادله في دينه، وإذا لم تكن هذا أو ذاك فشاهد واصمت، وفي كل الأحوال لا يجب أن يعنيك الموقف العقائدي للدحيح؛ لأن الله لم يبعثنا لنفتّش في نوايا الناس وضمائرهم، خاصة إذا لم يظهروا عقيدة واضحة.

التصنيف: صنم من عجوة

في متن شرحه لأحد أحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم- في كتاب «مرقاة المفاتيح»، ذكر الإمام التبريزي أن الصحابة كانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم الرسول، وعلّق التبريزي على ذلك بقوله «يأخذون في أمر الجاهلية أي على سبيل المذمة أو بطريق الحكاية لما فيها من فائدة وغيره، من جملتها أنه قال واحد: ما نفع أحدًا صنمه مثل ما نفعني، قالوا: كيف هذا؟ قال: صنعته من الحيس، فجاء القحط فكنت آكله يومًا فيومًا»، (الحيس هو تمر يُخلط بالسمن ويعجن ويُسوّى).

وكذلك ذكر ابن حجر في فتح الباري أن «أهل الجاهلية كانوا يعملون الأصنام من كل شيء، حتى أن بعضهم عمل صنمه من عجوة ثم جاع فأكله».

ربما ذلك هو ما صنعته السوشيال ميديا، التي عمل أهلها صنمًا من عجوة اسمه التصنيف، حين يجوعون يأكلونه ويصنعون غيره.

بعد ثورة يناير 2011 لم يسلم أحد من تصنيف شعب السوشيال ميديا، وتاهت الثورة بين ثوار وفلول وليبراليين وإخوان وسلفيين، وبالقدر نفسه لم يسلم «يوتيوبر» مصري من التصنيف؛ باسم يوسف عميل، وأبلة فاهيتا ماسونية، وعبدالله الشريف سلفي، وجوشو إخوان، والدحيح ملحد.

هكذا كان الحال والسجال، من يرد على التصنيف يُرد عليه بالتصنيف، وربما ذلك هو ما أعطى «هاشتاج الدحيح ملحد» مكانة الترند، ليصبح صنمًا من أصنام التصنيف لدى شعب السوشيال ميديا، بالرغم من أن الأمر بسيط؛ فالدحيح ليس عالمًا، إنما يعرض العلم، هو يعمل ويجتهد، ويخطئ ويصيب، لسنا ملائكة، ولا نشاهد ملائكة، كما أنه ليس مجبرًا على الرد أو الدفاع عن نفسه وعن تدينه، لكنه التصنيف، الذي يدفعك للتساؤل البسيط: حينما قيل إن الدحيح لا ينشر العلم بل ينقله هل هاجت الدنيا وماجت؟ لا، ولكن حينما قيل إنه ملحد ماذا حدث؟ هي كلمة مفتاحية تأخذك إلى ملايين الآراء، والآراء التي ترد على الآراء، والآراء التي ترد على الآراء التي ردت من قبل، وهكذا ندور في دوائر التصنيف و«التحفيل»، والغريب في الأمر أن ممن يتهمون الدحيح بالإلحاد يحفظون قول الرسول – صلى الله عليه وسلم-: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهم».

بين الحوار و«اللوك لوك»

عند الحديث عن نهاية الأرض يخبرك العالِم بأن البشرية يجب أن تبحث عن كوكب آخر للعيش عليه، وعند الحديث ذاته يتحدث رجل الدين عن الثواب والعقاب والجنة والنار، هنا يجب أن ترى التقاطع والتوافق في الطرح وليس الخلاف والتناقض؛ فكلاهما يبحث في «أما بعد»، وينظر في الأمر وفقًا لتخصصه وفهمه، كلاهما يريد لك الخير، ويريد للبشرية أن تصير للأفضل، وبين هذا وذاك ليس من الصواب أن نقف لنصنّف هذا إلى عالم ملحد وذاك إلى شيخ رجعي، ويسود «اللوك لوك» لا الحوار، ويتسيّد الجدال بالرغم أن الأمر بسيط: العلم ليس دينًا والدين ليس علمًا، لكل منهما وظيفته ومجاله، قد يتقاطعان وقد يتنافران، لكن لا يفتي أحدهما في فُتيا الآخر.

ربما قرأت الفقرة السابقة دون أن تمرر المؤشر على عبارة «يخبرك العالِم»، فأنت لا «تبص على المصادر»، ولكن إذا تتبعت مصدر هذا القول ستجد أنه منسوب إلى ستيفن هوكينج في إحدى محاضراته، ذلك العالِم الذي يعد اسمه مرادفًا للإلحاد، وانتشر الجدال بعد وفاته حول معنى واحد: «أديك رايح عند ربنا اللي مأمنتش بيه!».

هل نحن هنا ننشر رأيًا إلحاديًا أو ننشر إلحادًا؟ بالطبع لا، إنما نسوق رأيًا لعالم قد يكون هناك رأي يخالفه، لكننا لم نهتم بإلحاده أو إيمانه، بل اهتممنا بتخصصه، هكذا أمر الدحيح، هو ليس بداعية أو دارس للفقه كي ينقل دينًا، هو يدرس علمًا فينقل العلم الذي يدرسه، وليس هناك ما يجزم بإلحاده أو ما يدعو لمناقشته أو الهجوم عليه بسبب ذلك، وهو ليس في حاجة إلى الرد على مثل هذه السجالات التي يغلب عليها طابع الجدال و«اللوك لوك».

من ناحية أخرى فإن الجزم بإلحاده، وتصنيفه في غير تخصصه، وحصره في توجه ديني يرفضه المجتمع هي أمور مؤذية وفاسدة شكلًا وموضوعًا، وينبع فسادها وأذاها من كون الجدالات حول عقائد الأشخاص لا يكون هدف غالبية مجادليها هداية الملحد أو مناقشته، إنما هو الجدال والتصنيف والاتهام بين ثلاثة فرق: أولها، ينفي إلحاده، وثانيها، يثبته، وثالثها، يشاهد دون أن يحكم، والمشترك بين الثلاثة أنهم انشغلوا بأحاديث الإلحاد، إما لنفيها أو إثباتها أو مجرد متابعتها.

وأكثر ما يثير الحفيظة هو أن الدحيح عندما اعترضت صفحات «اليابان بالعربي» على حلقته عن اليابان وجدنا أن عددًا من متهميه بالإلحاد يقفون ضده، دون أن يعرفوا ما حدث، وما وجه الاعتراض، وبعدها كثرت على صفحات الدحيح على فيسبوك ويوتيوب تعليقات من عينة: «صفحة اليابان بالعربي لو عترت فيك هتنفخك»، ومن ثم تطور التعليق بعد حلقتي إياد قنيبي إلى «دكتور إياد لو عتر فيه هينفخك» و«دكتور إياد بيسلّم عليك»، ويكفي أن تدخل على صفحة الدحيح لترى التعليقات، وكأنها لجان إلكترونية مجرد «كوبي بيست»، حتى لو لم يكن للحلقة علاقة بالإلحاد.

ربما يسعى البعض للتصنيف؛ لأنهم لا يتقبّلون الاختلاف، ويسعون للربط لأنهم لا يفقهون حوار الرأي والرأي الآخر، ويسعون للجدال لأنهم لا يحسنون النقاش.

في النهاية نحن لا ندافع عن الدحيح ولا ندينه، لا نكفّره ولا ننفي الكفر عنه، ولا ندعي العلم أو التدين، ولا نبغي الحكم على علمه أو دينه أو الجدال في ذلك، ولا ندس سمًا في العسل، نحن فقط نحلل «ترند» من جانب حيادي، ربما اختفى في ظلال جوانب أخرى طغت عليه.