قال المؤرخ نجم الدين الغزي عن إحدى أهم العالمات في النهضة الإسلامية الوسيطة، وهي الشيخة عائشة الباعونية:

أحد أفراد الدهر، ونوادر الزمان فضلاً، وعلمًا، وأدبًا، وشعرًا، وديانةً، وصيانةً. تنسّكت وهي صغيرة ثم حُملت إلى القاهرة، ونالت من العلوم حظاً وافراً، وأُجيزت بالإفتاء والتدريس، وألّفت عدة كتب منها «الفتح الحنفي» يشتمل على كلمات لدنية، ومعان سنية، وكتاب «دُر الغائص في بحر المعجزات والخصائص»، وهو قصيدة رائية، وكتاب “الإشارات الخفية، في المنازل العلية.

شيخات منسيات!

غصت مصادر التاريخ الإسلامي والطبقات والتراجم بذكر مئات من النماذج النسوية اللاتي تميزن في ميادين علمية وثقافية مهمة، وهو جانب لا يتم الحديث عنه إلا في القليل، فعلى سبيل المثال جاء المؤرخ الصلاح الصفدي (ت764هـ/1363م) بطائفة كثيرة من كبار العالمات والنساء المتفقهات في عصره في كتابه الجامع «الوافي بالوفيات»، تنوعت مصادر ثقافاتهن واهتماماتهن بين الأدب والفقه والحديث النبوي، ذكر منهن شيخته وأستاذته آمنة بنت إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل، قال عنها : «الشيخة الصالحة أم محمد بنت تقي الدين الواسطي سمِعَت من ابن عبد الدائم، وأجازت لي في سنة تسع وعشرين وسبعمائة بدمشق، وكتب عنها عبد الله بن المحب». ومثلها شيخته «الصالحة المسندة أم عبد الرحمن بنت زين الدين… أجازت لي في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، فكتب عنها بإذنها عبد الله بن أحمد بن المحب المقدسي، وتُوفيت رحمها الله تعالى في خامس شعبان سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة».

ومن بعده بقرن ونصف جاء الشمس السخاوي (ت902هـ/1497م) على ترجمة أكثر من ألف امرأة بزغت نجومهن وبُدورهن في سماء الثقافة الإسلامية في القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي. لقد كانت العالمات المسلمات يتفاعلن ويُشاركن بجد ونشاط في إصلاح المجتمع، مع الحفاظ على تربية الأولاد ومناصحة الإخوة، وحاجة الزوج، فمن هؤلاء الشيخة الصالحة حبيبة بنت محمد بن أحمد المقدسي (ت674هـ)، قال الصفدي عن قصة حياتها وعلمها وزهدها: «أم أحمد زوجة الإمام تقي الدين محمد بن محمود المراتبي وأم أولاده، رَوت عن حنبل وابن طبرزد، وأجازت لها سكينة وعائشة بنت معمر وجماعة، وكانت صالحة قوّامة تالية لكتاب الله تُلقِّن النساء، وكانت تُنكر على أخيها الشيخ شمس الدين دخوله في القضاء وفي التوسُّع من الدنيا وكثرة الأواني والقماش، روى عنها الدمياطي وابن الخباز وابن الزراد وابن العطار»، وهذه الأسماء التي أخذت عنهم وأخذوا عنها كانوا من أعلام وقتهم شهرة ومكانة.

ومن كبار الشيخات اللاتي أخذ عنهن جمع من علماء القرن الثامن والتاسع الهجريين الشيخة العالمة فاطمة بنت محمد بن عبد الهادي (ت803هـ/1401م) التي درس على يديها العلامة ابن حجر العسقلاني وغيره، قال ابن العماد:

أسْمَعت الكثير … وأجاز لها أبو نصر بن الشيرازي وآخرون من الشام وآخرون من مصر. قال ابن حجر: قرأتُ عليها الكثيرَ من الكتب والأجزاء بالصالحية (بدمشق)، ونِعْمَ الشيخة.

مؤلفات النساء!

وتجلت مكانة المرأة في التأليف أيضًا، وليس مجرد التدريس، وانتشرت مؤلفات بعضهن انتشارًا سريعًا، وكُنّ لهنّ دورٌ في الحياة التربوية والثقافية في العصر الإسلامي الوسيط، فمنهن عائشة الباعونية: عائشة بنت يوسف بن أحمد بن ناصر الدين (ت922هـ)، قال عنها النجم الغزي:

أحد أفراد الدهر، ونوادر الزمان فضلاً، وعلماً، وأدباً، وشعراً، وديانةً، وصيانةً. تنسّكت وهي صغيرة ثم حُملت إلى القاهرة، ونالت من العلوم حظاً وافراً، وأُجيزت بالإفتاء والتدريس، وألّفت عدة كتب منها “الفتح الحنفي” يشتمل على كلمات لدنية، ومعان سنية، وكتاب «دُر الغائص في بحر المعجزات والخصائص»، وهو قصيدة رائية، وكتاب «الإشارات الخفية، في المنازل العلية» وغير ذلك…

وذكر النجم الغزّي جزءًا من كلامها وأسلوبها اللطيف في موسوعته «الكواكب السائرة»، قولها:


مُساعدة القاضي!

أما في الأندلس فيعجز المقام عن ذكرهن وظُرف تخصصاتهن، لكن تجلت ثقافة المرأة الأندلسية في ميادين عدة، منها الأدب والفقه والفتاوى، بل النوازل التي كان يعجز بعض العلماء والفقهاء عن حلها، فبعضهن كُن يُساعدن أزواجهن من القضاة في حل بعض النوازل والمسائل الفقهية، قال المقَّري في “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب”: “حُكي أن بعض قُضاة لوشة [1]، كانت له زوجة فاقَت العلماءَ في معرفة الأحكام والنوازل، وكان قبل أن يتزوجها ذُكر له وصفها فتزوجها، وكان في مجلس قضائه تنزل به النوازل فيقوم إليها فتشيرُ عليه بما يحكم به، فكتب إليه بعض أصحابه مُداعبًا بقوله:

بلوشة قاضٍ له زوجةٌ … وأحكامها في الورى ماضيه
فيا ليته لم يكن قاضيًا … وياليتها كانت القاضيه

فأطلع زوجتَه عليه حين قرأَهُ فقالت ناولني القلم فناولها فكتبت بديهة:

هو شيخ سوء مزدري … له شيوب عاصيه
كلا لئن لم ينته … لنسفعا بالناصيه

وسمعتُ بعض أشياخنا يحكي القضية عن لسان الدين بن الخطيب وأنه هو الذي كتب يداعب زوج المرأة فكتبت إليه:

إن الإمام ابن الخطيب … له شيوب عاصيه

أندلسيات مُبدعات!

كان مما أنعم الله تعالى به علي أنني بحمده لم أزل أتقلب في أطوار الإيجاد، في رفاهية لطائف البر الجواد، إلى أن خرجت إلى هذا العالم المشحون بمظاهر تجلياته، الطافح بعجائب قدرته وبدائع آياته، المشوب موارده بالأقذار والأكدار، الموضوع بكمال القدرة والحكمة للابتلاء والاختبار، دار ممر لا بقاء لها إلى دار القرار، فربّاني اللُّطف الرباني في مشهد النعمة والسلامة، وغذَّاني بلبان مدد التوفيق لسلوك سبيل الاستقامة، في بلوغ درجة التمييز، أهلني الحق لقراءة كتابه العزيز، ومن علي بحفظه على التمام، ولي من العمر ثمانية أعوام، ثم لم أزل في كنف ملاطفات اللطيف.

ولا نحسبُ أن المرأة كانت حبيسة البيوت، لقد رأينا مشاركتها في الفقه وعلومه، بل واستحواذها على النسخ والكتابة، مثل نسخ القرآن الكريم، والنسخ في المكتبات العامة التي كانت في طول بلاد الأندلس وعلى رأسها العاصمة الأموية قرطبة.

لقد اشتهرت بعض نساء الأندلس بالتنسّك والزهد وفعل الخيرات، منهن الأميرة الأموية البهاء بنت الأمير عبد الرحمن الأوسط (ت305هـ)، قال عنها القُضاعي:

كانت من خير نسائهم، من أهل الزهد والعبادة والتبتل، وكانت تكتبُ المصاحف وتحبسها (أي توقفها على المساجد)، وكان لها رغبة في الفضل والخير، وهي التي يُنسب إليها مسجد البهاء في مساجد ربض الرُّصافة توفيت في رجب سنة خمس وثلاثمائة لأول ولاية الناصر فلم يتخلف أحدٌ عن جنازتها.

ومنهن من كانت تعمل بمجال الكتابة والإنشاء وهو من المجالات والوظائف المرموقة في كل الدول الإسلامية، مثل «زمرد الكاتبة الحاذقة»، ومنهن الأميرة «مرجان أم الحكم المسنتصر بالله كانت أديبة لطيفة المقاصد».

ومنهن من كان زوجها يتعلم على يديها، مثل حبيبة بنت عبد العزيز بن موسى (ت506هـ) قال القُضاعي:

سمعت أبا عمر بن عبد البر وكتبت عنه من تواليفه وأبا العباس العذري وسمع زوجها أبو القاسم بقراءتها عليهما وكانت جيدة الخط ضابطة لما كتبته دَيِّنة.

ومنهن من أخذت العلم على زوجها، مثل أم شُريح المقرئ إحدى معلّمات القرآن الكريم في مدينة إشبيلية جنوب الأندلس في القرن الخامس الهجري، قال عنها القُضاعي:

كانت تُقرِىءُ القرآن لمن خَلَفَ عليها، خَلْفَ سِتْرٍ بحرف نافع، أَخَذَت عَن زَوْجها أبي عبد الله بن شُريح، وكان أبو بكر عياض بن بقي ممن قَرَأ عَليها في صِغره، وكان يفخر بذلك، ويُذاكر به ابنها شُريحًا، ويقول: قرأتُ على أبيك وأمك فلي مزيةٌ على أصحابك، وماتَةً[2] لا يمتُّ بمثلها أحدٌ إليك. فيُقِرُّ له الشيخ ويصدقه.

ومنهن الداعية الواعظة التي كانت تجوب البلاد لوعظ النساء، وهذه من الأدوار التي قلما قرأنا أو سمعنا بها، مثل رشيدة الواعظة؛ فقد كانت «تجول في بلاد الأندلس تعظ النساء وتذكرهن وكان لها صيت واتصاف بالخير».

هذه بعض الأمثلة العابرة على مشاركة المرأة في الحياة العامة في التاريخ الإسلامي، وهي مشاركة ركزنا فيها على دورهن في النهضة العلمية والثقافية، وكيف اقتحمن ذلك المجال في وقت برز فيها علماء فطاحل، وأدباء عظام، ومع ذلك سُمح للمرأة بحرية كبيرة في المشاركة والتفاعل الثقافي، في وقت كانت المرأة الأوربية لا تعرف من الثقافة غير اسمها، أو كما يقول ستراتش:

كانت النساء في أوربا متأخرات جاهلات يقفن عقبةً في سبيل العلم والنور، وكانت الكتبُ الشرعية تضطرم بسخط شديد على مجرد وجود النساء في العالم، وكان يُقال لهنّ: يجب أن يخجلن من أنهن نساء، وأن يَعِشْنَ في ندم متصل، جزاء ما جَلَبْنَ على الأرض من لعنات.

[1] لَوشَة مدينة أندلسية تقع في مقاطعة غرناطة جنوبي إسبانيا. تطل على نهر الشنيل.[2] أي صلة وقرابة.

المراجع
  1. الصفدي: الوافي بالوفيات.
  2. النجم الغزي: الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة.
  3. ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب.
  4. المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب.
  5. ستراتش: تاريخ العالم.
  6. القضاعي: التكملة لكتاب الصلة.