شاع في تراثنا الأدبي نوع من التأليف، وهو المختارات الأدبية، سواء المختارات الشعرية أم التي تجمع بين الشعر والنثر، وكان الهدف الأول من هذا النوع من التأليف هو تقريب الأدب العربي – الذي يصعب حصره – للقارئ، بانتخاب عيونه التي تُنمي الذائقة الأدبية عند القارئ وتشوقه للاطلاع على المزيد.زاد هذا النوع من التأليف في العصر الحديث محاولةً لتجديد روح الأدب العربي مرة أخرى، وتعد مختارات البارودي الشعرية الذي انتخب فيها عيون الشعر العباسي أشهر المختارات الأدبية في عصرنا. ولما أنشأ محمد علي، وأبناؤه من بعده، المدارس النظامية وأسسوا لنهضة تعليمية حقيقية، انتقلت المختارات الأدبية إلى مناهج الدراسة، فألف الشيخ حمزة فتح الله – وهو من رواد اللغة والأدب والتعليم في مصر – كتابه المواهب الفتحية، وهو مختارات مشروحة على طريقة القدماء، وألف الشيخ أحمد الهاشمي كتابه جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب.ثم تطورت مناهج الأدب في المدارس، وأُدْخِل على الدرس الأدبي مادة جديدة وهي «تاريخ الأدب» التي نقلها العلامة حسن توفيق العدل عن المستشرقين الألمان، وهي تعتمد في أساسها على تقسيم الأدب العربي بحسب العصور، ودراسة كل عصر وخصائصه ومميزاته وأعلام الأدب فيه. وتأثرت كتب المختارات الأدبية بهذا العلم الجديد، علم تاريخ الأدب، خصوصًا بالتقسيم الذي ابتدعه الشيخ أحمد الإسكندري والشيخ مصطفى عناني في كتابهما الوسيط في الأدب العربي وتاريخه الذي طبع سنة 1916.

الكتاب ومؤلفوه

قررت وزارة المعارف في النصف الأول من القرن الماضي إعادة النظر في مناهج الأدب العربي للمدارس الثانوية فتشكلت لجنة من رواد الأدب والتعليم في مصر وهم: الدكتور طه حسين، والشيخ أحمد الإسكندري، والشاعر علي الجارم، والشيخ عبد العزيز البشري والدكتور أحمد ضيف لتقدم للوزارة مناهج تناسب طلاب المدارس الثانوية.وكان من ثمار هذه اللجنة ثلاثة كتب خالدة أثرت تأثيرًا واسعًا في حركة التأليف التعليمي الأدبي وهذه الكتب هي: المجمل في تاريخ الأدب العربي سنة 1930، والمنتخب من أدب العرب الذي طبع سنة 1931، والمفصل في تاريخ الأدب العربي سنة 1934. حاول المؤلفون في هذه الكتب الثلاثة تقريب الأدب العربي وتاريخه في مختلف العصور لطلاب المرحلة الثانوية بحيث «يحيط الطالب بما لا ينبغي أن يجهله الشاب المثقف من تاريخ لغته وآدابها». المجمل ص.كوقد شكلت وزارة المعارف هذه اللجنة من هؤلاء الرواد مجتمعين بالرغم من أن واحدًا منهم كان يمكنه القيام بهذه الكتب وحده، بل إن بعضهم فعل قريبًا من ذلك كما سيتضح من التعريف بهم، لتبلغ غايتها من التحرير في المؤلفات التي ستصدر عن هذه اللجنة، ولتحوز هذه المؤلفات ثقة المطلع عليها من الأساتذة والطلاب والأدباء عمومًا، فأكثر هؤلاء المؤلفين درّسوا بالجامعة المصرية القديمة، أو في جامعة فؤاد الأول. وأكثرهم أيضًا كان من الأعضاء المؤسسين لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، وكانوا من الشهرة في عصرهم بحيث يثق في أسمائهم الأدباء وشداة الأدب في عصرهم.الدكتور طه حسين غنيّ عن التعريف، ولد سنة 1889، درس بالأزهر وبالجامعة المصرية وحصل على الدكتوراه من جامعة باريس، وعين أستاذًا للأدب بجامعة فؤاد الأول، ثم عميدًا لكلية الآداب، ووزيرًا للمعارف، ومؤلفاته مشهورة معروفة. ويخيل إليّ أن د. طه حسين كان دوره في هذه اللجنة شرفيًّا أو إشرافيًّا فقط، حتى أن اسمه قد حُذِف من بعض طبعات كتاب المنتخب التالية على الطبعات الأولى. ولم يشارك في تأليف كتاب المفصل في تاريخ الأدب العربي. وفي مقدمة كتاب المفصل أظهر المؤلفون نصيب كل واحد منهم من التأليف في الكتاب – الذي يغلب أن يكون نصيبه من التأليف في الكتابين الآخرين – ولم يكن للدكتور طه حسين نصيب في الكتابة عن أي عصر من العصور.أما الشيخ أحمد الإسكندري، فهو أحمد علي عمر الإسكندري، ولد سنة 1875 وتخرج في دار العلوم سنة 1898م، وهو من رواد علم تاريخ الأدب العربي والمجددين فيه، وله في ذلك عدة مؤلفات في هذا المجال أشهرها كتابه الوسيط في الأدب العربي وتاريخه الذي ألفه بالاشتراك مع الشيخ مصطفى عناني، وألف كتابًا عامًّا في الأدب العربي في جميع عصوره في بضعة آلاف صفحة، لكن حال موته دون طباعته، وهو الآن في حكم المفقود، وتوفي سنة 1938، وقد كان نصيبه في هذه اللجنة أن يكتب عن عصر صدر الإسلام والدولة الأموية والعصر الأول للدولة العباسية. والأستاذ أحمد أمين ولد سنة 1886 وتخرج في مدرسة القضاء الشرعي وعمل مدرسًا بها، ثم عين أستاذًا للأدب العربي بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول سنة 1935، ومن أهم مؤلفاته كتاب فجر الإسلام، وكتاب ضحى الإسلام، وكتاب ظهر الإسلام، وكتاب يوم الإسلام التي أرخ فيها للحياة الفكرية عند المسلمين الأوائل، توفي سنة 1954، وكان حظه من التأليف في هذه اللجنة العصر الجاهلي.والشاعر علي الجارم ولد سنة 1881 تخرج في دار العلوم سنة 1908، وحصل على دبلوم فن التدريس من إنجلترا سنة 1913، من كبار الشعراء في العصر الحديث حتى لقب بأمير الشعراء بعد شوقي، وله عدة روايات تاريخية قررت وزارة المعارف بعضها على طلاب المدارس، وشارك في وضع عدة كتب مدرسية مثل كتاب النحو الواضح وكتاب البلاغة الواضحة، توفي سنة 1949. وكان نصيبه من التأليف في هذه اللجنة عصر المماليك وحال الأدب العربي في عصر العثمانيين.والشيخ عبد العزيز البشري من كبار الأدباء لقب بجاحظ العصر، ولد سنة 1886 وتلقى تعليمه بالأزهر حتى حصل على شهادة العالمية، واشتغل بالتدريس وألف عدة كتب مدرسية منها كتاب التربية الوطنية، وألف كتاب المختار وهو جمع لبعض مقالاته في الصحف عن الأدب في العصر الحديث، قدم له خليل مطران وطه حسين، وكتاب في المرآة وهو وصف ساخر لأدباء عصره. توفي سنة 1943، وقد كان نصيبه في اللجنة عصر النهضة الأدبية في العهد الحديث.والدكتور أحمد ضيف هو أحمد علي ضيف ولد سنة 1880 وتخرج في دار العلوم سنة 1909، وحصل على الدكتوراه في الآداب من جامعة باريس سنة 1917، وله كتاب مقدمة لدراسة بلاغة العرب، وكتاب بلاغة العرب في الأندلس، وله عدة مقالات أدبية في الصحف والمجلات، توفي سنة 1945. ووُكِل إليه في اللجنة عصور الأندلس.وبقي من العصور العصر العباسي الثاني قسمه أعضاء اللجنة فيما بينهم فلم ينفرد به واحد منهم.وكتاب المنتخب من أدب العرب الذي هو ثاني مؤلفات اللجنة، يقع في جزأين، الأول، لطلاب السنة الثالثة الثانوية، والثاني، لطلاب السنتين الرابعة والخامسة الثانويتين، طبعته وزارة المعارف في مطبعتين حكوميتين في السنة نفسها طبعتين مختلفتين، الأولى دار الكتب المصرية، والثانية المطبعة الأميرية.

منهج الكتاب

وقد قسم المؤلفون مختاراتهم على عصور الأدب العربي ابتداءً من العصر الجاهلي ثم عصر الإسلام وبني أمية ثم العصر العباسي الأول ثم العصر العباسي الثاني ثم العصر الأندلسي ثم عصر المماليك ثم العصر الحديث، يُبدَأ في كل عصر بمختارات من شعر أعلام شعرائه ثم مختارات من النثر. وحرص المؤلفون على أن تكون النصوص المختارة «مرآة صافية وصورة صادقة واضحة للحياة الأدبية في هذا العصر على اختلاف فروعها وافتراق نزعات الشعراء والكتاب والأدباء فيها … وأن يكون في جملته جميلًا رائقًا خفيف الموقع من الأسماع».وأهم ما يميز الكتاب التزام المؤلفين بشرح مختاراتهم والتعريف بالشعراء والكتاب الذين اختاروا من نصوصهم، ولا يقتصر شرحهم على بيان معنى المفردة المبهمة فقط، بل يشرحون المعنى العام لكل بيت شعر، أما النثر فكانوا يكتفون بشرح المفردة الغريبة فقط، واعتنوا بضبط الشعر كله، واكتفوا بضبط المشكل فقط في النثر.وقُسِمَ الجزءانِ على الأبواب نفسِها، ولكن اختلف كل جزء عن الآخر في مختاراته وفي بعض الشعراء المختار لهم، ففي الشعر الجاهلي كان عدد الشعراء المختار لهم ثلاثة عشر شاعرًا، وفي الجزء الثاني عشرةُ شعراءَ اتفق الجزءان في ستة شعراء وهم امرؤ القيس ولبيد بن ربيعة والنابغة الذبياني وطرفة بن العبد وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة، واختلف الجزءان في مختارات كل شاعر منهما، ففي الجزء الأول، اختاروا من شعر امرئ القيس وصف الليل من معلقته الذي يبدأ بقوله:

وليل كموج البحر أرخى سدوله … علي بأنواع الهموم ليبتلي

واختاروا من شعره أيضا أبياتًا له في الفخر، وأبياتا من قصيدته:

ألا عِم صباحًا أيها الطلل البالي … وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وفي الجزء الثاني اختاروا أبياتًا أخرى من معلقته تبدأ بقوله:
وقد أغتدي والطير في وكناتها … بمنجرد قيد الأوابد هيكل

وانفرد الجزء الأول بدريد بن الصمة وعلقمة بن عبدة التميمي وسلامة بن جندل السعدي وعبد يغوث الحارثي، وذي الإصبع العَدواني وعبيد بن الأبرص والأفوه الأودي. وانفرد الجزء الثاني بزهير بن أبي سلمى وعنترة بن شداد وأعشى قيس وتأبط شرًّا.أما النثر، فبدأت مختاراته من عصر الإسلام وبني أمية، ولم يختاروا من نصوص النثر الجاهلي سوى بعض أمثال العرب في الجاهلية والإسلام أُورِدَت في عصر الإسلام وبني أمية. بالرغم من كثرة النثر الفني عند الجاهليين، فالخطب والوصايا وسجع الكهان كانت من فنون القول في الجاهلية. وصدروا عصر الإسلام بآيات مختارة من القرآن الكريم، ليست في باب النثر، بل كانت قسمًا مستقلًا عن الشعر والنثر، وهو رأي الدكتور طه حسين الذي ذكره في كتابه من حديث الشعر والنثر:

ولكنكم تعلمون أن القرآن ليس نثرًا كما أنه ليس شعرًا، إنما هو قرآن، ولا يمكن أن يسمى بغير هذا الاسم، فهو لم يتقيد بقيود الشعر، وليس نثرًا لأنه مقيد بقيود خاصة به.

وفي العصر العباسي الأول والثاني وعصور الأندلس وعصر المماليك والعثمانيين اعتنوا بإيراد أمثلة من الكتابة العلمية في هذه العصور للتفرقة بين الكتابة الفنية، ففي العصر العباسي الأول اختاروا في النثر الفني نصوصًا من كلام ابن المقفع، وعمرو بن مسعدة والجاحظ، وفي الكتابة العلمية اختاروا نصوصًا من كتاب طبقات الشعراء لابن سلام الجمحي، ونصًّا من كتاب فتوح البلدان للبلاذري.وقد كان للكتاب أثر كبير في حركة التأليف التعليمي بعد إصداره، وقد توالت المطابع على إعادة طبعه مرات عديدة بحيث يصعب إحصاء طبعات الكتاب، وقد أعادت وزارة المعارف طبعه في الأربعينيات بعد تعديل مناهجها، فبدأ الكتاب بعصر النهضة، وخُتم بالعصر الجاهلي، بل إن أثر الكتاب ما زال ممتدًا حتى عصرنا الحالي فقد أعادت مكتبة الأسرة طباعة الكتاب مرة أخرى، وأصدرت منه دار عالم الأدب طبعة جديدة هذا العام.