شهد العالم في العقود الماضية زيادة هائلة في المعاملات والتسويات المالية بسبب تصاعد حركة التجارة الدولية. وهو ما صاحبه قلق متزايد من أن يؤدي تضخم حجم التعاملات المالية – إذا ما استمرت في الاعتماد على السداد النقدي – إلى ارتفاع معدلات غسل الأموال وتمويل الإرهاب والتهرب الضريبي والجرائم المالية بشكل عام.

ومع تصاعد دور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات واحتلالها أهمية بالغة في تنفيذ أهداف وخطط التنمية المستدامة لأغلب دول العالم، اتجهت النظم المالية الرقابية في معظم أنحاء العالم إلى الأخذ بسياسات وقوانين وبرامج للحد من التعاملات المالية النقدية، والانتقال تدريجيًّا إلى الاعتماد على نظم المدفوعات الإلكترونية.

وبات هناك اتجاه عالمي لتحقيق الحكومة الإلكترونية؛ بدءًا من توفير معلومات عن الخدمات الحكومية، وانتهاءً بإمكانية الحصول على تلك الخدمات من خلال شبكات الاتصال المختلفة بدون انتقال المواطن من منزله أو موقع عمله، وقد ساعد على ذلك التطور التكنولوجي الهائل في السنوات الأخيرة، مما جعل استخدام التكنولوجيا لتسيير الأداء الحكومي ضرورة ملحة.


منظومة الصرف وحدها لا تكفي

ترتيبًا على ما سبق، بدأت مصر سعيها في هذا الاتجاه منذ مطلع الألفية الجديدة، متخذة عددًا من الخطوات المتوالية تجاه ميكنة الخدمات الحكومية بشكل خاص، بدءًا بإنشاء غرفة المقاصة المُميكنة بين البنوك عام 2002، وقانون التوقيع الإلكتروني عام 2004، وإنشاء منظومة الدفع والتحصيل الإلكتروني للمدفوعات الحكومية وإسناد أعمالها إلى شركة e-finance، ولكنها لم تؤدِ الدور المطلوب أثناء فترة إنشائها. بالإضافة إلى البطاقات المدفوعة مسبقًا لدفع المرتبات الحكومية عام 2010، وبطاقات التموين الذكية عام 2014، وبطاقات الوقود الذكية عام 2015.

وقد اتخذت الدولة كل هذه الخطوات بإراداتها الحرة لتلحق بركب التطور العالمي. ولكن الملاحظ في كل هذه الخطوات أن أغلب البطاقات الإلكترونية التي قامت الدولة بإطلاقها حتى عام 2018 هي بطاقات صرف فقط، ولا يمكن الدفع إلكترونيًّا من خلالها.

إلا أنه مع بدء تنفيذ أجندة صندوق النقد الدولي منذ عام 2016، كانت مصر مُضطرة إلى اتخاذ خطوات فعلية تجاه تفعيل الاقتصاد غير النقدي، وتقليل الاعتماد على النقود السائلة واستخدام وسائل الدفع الإلكترونية، وبالأخص في المدفوعات الإلكترونية للحكومة، من خلال وجود حساب الخزانة الموحد للدولة، وتحقيق الشمول المالي وزيادة عدد الحسابات المصرفية للمواطنين.

وبناءً عليه، فقد تمت مناقشة قوانين جديدة للدفع عن طريق الهاتف المحمول عام 2017، وإنشاء المجلس القومي للمدفوعات عام 2017، وهو مجلس أُنشئ بقرار من رئيس الدولة يتضمن 16 عضوًا، ومحدد له 5 اختصاصات، هي:

  • تطوير نظم الدفع القومية.
  • خفض استخدام أوراق النقد خارج القطاع المصرفي وتحفيز استخدام الوسائل الإلكترونية.
  • العمل على تحقيق الشمول المالي لضم أكبر عدد من المواطنين في النظام.
  • حماية حقوق مستخدمي نظم وخدمات الدفع.
  • تحقيق تنافسية سوق خدمات الدفع وتنظيم عمل الكيانات القائمة ورقابتها.

البداية الفعلية

في مطلع الشهر الجاري (مايو/آيار 2019) أعلنت الحكومة بدء عمل منظومة الدفع والتحصيل الإلكتروني بالهيئات والإدارات الحكومية، وقد سبق هذا القرار الموافقة على مشروع قانون تنظيم الدفع غير النقدي في أكتوبر/تشرين الأول 2018.

وستُسدد من خلال هذه المنظومة المستحقات المالية الحكومية، بما فيها الضرائب والرسوم الجمركية فيما يزيد عن 500 جنيه، بإحدى الوسائل الإلكترونية، مع إتاحة سداد ما دون هذا المبلغ بوسائل الدفع الأخرى، أما فيما يزيد عن 10 آلاف جنيه فسيُسدد من خلال فروع البنوك العاملة بالسوق المصرفية المصرية.

ومع تطبيق نظام الخزانة الموحد للدولة ستُحول كل الحسابات الخاصة بالجهات الحكومية – والتي تبلغ 61 حسابًا – وجعلها حسابًا واحدًا، وسيتمكن المواطن من الدفع إلكترونيًّا من خلال كارت يصدر من الهيئات البريدية والبنوك الحكومية، سُمي بكارت «ميزة»، ويمكن للمواطن استخراجه بمبلغ لا يزيد عن 50 جنيهًا، ولا يُشترط أن يكون لديه حساب خاص في أى بنك، وسيُدفع في الجهات الحكومية من خلال ماكينات نقاط البيع، ويُمكن أيضًا أن يربط المواطن جميع حساباته بهذا الكارت، ويمكنه من خلاله صرف أي دعم يُقدم له والتعامل به في أي عمليات شراء أخرى من خلال ماكينات نقاط البيع المنتشرة في المحلات.

وعملت الحكومة على نشر 15 ألف ماكينة نقاط بيع، سيُتعامل من خلالها في الهيئات الحكومية للمبالغ التي تزيد عن 500 وتقل عن 10 آلاف جنيه، بالإضافة إلى قيامها بتدريب العاملين من خلال ورش عمل، للتعامل مع الماكينات ونظام الدفع الجديد.

ولا شك أن تطبيق نظام الدفع الإلكتروني، والاتجاه بشكل عام إلى الاقتصاد الرقمي يحمل العديد من المزايا، من أبرزها:

1. الإسهام في تعزيز عملية النمو بزيادة موارد الدولة الضريبية، والحد من عمليات التهرب الضريبي وغسل الأموال والرشوة والفساد، بالإضافة إلى المساعدة في ضم القطاع غير الرسمي لاقتصاد الدولة، حيث إن هناك علاقة تبادلية بين زيادة نسب الاقتصاد غير الرسمي والتعامل بالنظام النقدي، ناهيك عن تجنب الحكومة تكاليف اكتشاف والقضاء على منابع القطاع غير الرسمي.

2. على مستوى القطاع المالي، فهو يساهم في تخفيض تكلفة طباعة النقود، وبالتالي استغلالها في تطوير القطاع وتقدمه، وإدخال التكنولوجيا المالية المتقدمة به في أغلب تعاملاته مع المواطنين.

3.تسهيل عملية الدفع مقارنة بالطريقة التقليدية، وزيادة عنصر الأمان، وتجنب مخاطر سرقة النقود الورقية، وعدم التقييد بالحدود الجغرافية، فيمكن دفع الأموال لجهة خارج مصر بكل سهولة، وتوفير الوقت والمجهود.


معوقات الدفع الإلكتروني

مع التسليم بكل هذه المميزات السابقة، لا يمكن التأكد إذا ما كانت الدولة المصرية ستتمكن من حصد نتائج هذه الخطوة، أم أنها تُنفذها بشكل تقليدي مجاراةً لشروط صندوق النقد الدولي. وينبع هذا التشكك من عدة تحديات ستواجه الحكومة، أهمها:

1. تضخم الجهاز الحكومي في مصر، وهو أبرز تحدٍّ يواجه عملية التحول الرقمي، حيث إن الميكنة وحدها ليست كافية، ولكننا نحتاج إلى نظرة متكاملة للتحول الرقمي لغلق الفجوة التي خلقها التطور التكنولوجي الهائل بين الأجيال، وبين الدول وبعضها.

2. يأتي ترتيب مصر في مؤشر التطور الرقمي متأخرًا للغاية، فقد حصدت المرتبة الـ 54 من بين 60 دولة حول العالم، وهو ترتيب متدنٍ جدًّا يتطلب إصلاحًا مؤسسيًّا وتكنولوجيا رقمية ملائمة لتحقيق الأهداف.

3.البنية التحتية لشبكات الإنترنت في مصر ضعيفة للغاية، وهو ما سيصعب تطبيق هذا التحول، حيث تحتل مصر المركز 165 في مؤشر سرعة الإنترنت من بين 178 دولة، واحتلت المرتبة 95 من بين 139 دولة على مستوى العالم في سرعة إنترنت الهاتف المحمول. وقد ظهر جليًا ضعف البنية التحتية لشبكات الإنترنت في مصر أثناء تجربة إجراء امتحانات المرحلة الثانوية (أونلاين) للطلاب، حيث إنه مع بدء التطبيق والضغط على الشبكة ودخول الطلاب لأداء الامتحانات انقطعت الخدمة، وهو ما اضطر الحكومة إلى العودة لنظام الامتحان الورقي مرة أخرى بعد فشل التطبيق.

4. على الرغم من التغلب على مشكلة قلة الأفراد المالكين للحسابات المصرفية في مصر (الذين قُدروا بحوالي 30% من إجمالي عدد السكان حتى عام 2017) بخدمة ماكينات نقاط البيع التي لا تحتاج كروت تفعيلها إلى امتلاك الأفراد لحسابات بنكية، إلا أنه عند زيادة قيمة الدفع عن 10 آلاف جنيه سيتعين على الفرد تسديدها في البنوك، وهنا ستظهر مشكلة انخفاض عدد الحسابات البنكية مره أخرى، وبالتالي سيحتاج الأفراد لفتح حسابات بنكية مرتفعة التكاليف لإتمام معاملاتهم، مما سيؤدي لهروبهم من تسديد أي معاملات لهم.

5. رغم ارتفاع نسب حاملي المحمول ومن يستخدمون الإنترنت في مصر، فإنه يقتصر التعامل فيهما على المكالمات ومواقع السوشيال ميديا، فقد بلغت نسبة مستخدمي الإنترنت في مواقع السوشيال ميديا حوالي 70% مقارنة بنسبة لم تبلغ حتى 5% من المستخدمين في عمليات الشراء عبر الإنترنت. بالإضافة إلى تفضيل المواطنين المصريين للتعاملات النقدية والتعامل وجهًا لوجه تبعًا للعوامل والموروثات الثقافية، حيث تصل نسبة التعاملات غير النقدية في مصر إلى 2% فقط مقارنة بدولة عربية أخرى كالسعودية تبلغ نسبة المدفوعات النقدية بها 32.3%.

6. خطأ تعميم التجربة على كل المصالح في وقت واحد، خصوصًا بعد فشل تجربة وزراة التربية والتعليم مع الامتحانات، وهو ما سيؤدي إلى تكدس المواطنين على البنوك لاستخراج كروت الدفع، وبالتالي تعطيل مصالح عدد كبير من المواطنين، بالإضافة إلى ارتباك الموظفين أنفسهم في التعامل مع المواطنين بالنظام الجديد.

7. نظام الدفع الإلكتروني قد يواجه بعض التحديات التي تعيق انتشاره في مصر، مثل إمكانية تعرض البطاقات للسرقة أو الاختراق لعدم وجود نظام حماية قوي، كما أنه يخلق حالة من الإسراف لدى العميل، بسبب سهولة توفير الأموال من خلال بطاقات الدفع.