تحظى «نظرية النخبة – Elite theory» بحضور واسع في التحليل السياسي والاجتماعي المعاصر، على الرغم من أنها لا تجد نفس الاهتمام على الصعيد النظري. تطرح النظرية أن السلطة ترجع في الواقع إلى مجموعات المصالح الاقتصادية والسياسية، وشبكات صناعة القرار بمعزل عن العملية الديموقراطية الانتخابية.

تمثل النزعة الأرستقراطية صيغة كلاسيكية لنظرية النخبة، حيث تميل إلى اعتبار أن عوائل بعينها، هي مؤهلة لحيازة السلطة خلقيًا دون الجماهير. لكن الصياغة التنظيرية الحديثة اكتملت مع ما يعرف بــ«مدرسة النخبوية الإيطالية» التي تضم الثلاثي «فيلفريدو باريتو، جيتانو موسكا، روبرت ميشيل».


فيلفريدو باريتو

صاحب المقولة الشهيرة «التاريخ هو مقبرة من الطبقات الأرستقراطية». كان «فيلفريدو باريتو – Vilfredo Pareto» أحد علماء الاقتصاد الذين نجحوا في نقل الاقتصاد من مبحث من مباحث الفلسفة الطبيعية، إلى علم رياضي يعتمد على البيانات والإحصاء، مما جعله أحد المؤسسين لما يعرف «بالميكروإيكونوميكس – microeconomics» التي تدرس السلوك الاقتصادي للأفراد، وأثره على وضع السوق والعرض والطلب والأسعار.

تبنى «باريتو» بناء على دراساته الاقتصادية، ووضع إيطاليا إبان تلك الحقبة (حول الحرب العالمية الأولى)؛ رؤية داروينية للمجتمع باعتباره مجموعة من الطبقات المتصارعة التي ينبغي أن يفنى الضعيف منها، وأن يحافظ القوي على سيطرته على الثروة والسلطة.

ألهمت أفكار «باريتو» الحركة الفاشية في إيطاليا، حيث رأى أن الفاشية هي المرحلة الانتقالية التي يتم خلالها حصر نفوذ الدولة على الاقتصاد لإطلاق يد القوى الاقتصادية «النقية». وصفه الفيلسوف النمساوي «كارل بوبر» بـ«منظر الشمولية».

إذا كان «باريتو» قد اعتمد على الاقتصاد في توصله إلى رؤيته الداروينية، عندما رأى أن توزيع الثروة لا بد أن يصب في مصلحة القوي، فإن المفكرين السياسيين «جاتينو موسكا» (1941)، و«روبرت ميشيل» (1936) قد رأوا أن ثمة قانون تاريخي أطلق عليه «ميشيل» القانون الحديدي للأوليجاركية.

في هذا القانون؛ ثمة «طبقة سياسية» أو «طبقة حاكمة» تتواجد في كل مجتمع، وتكون مسئولة عن إدارته السياسية. ففي عام 1911، كتب «روبرت ميشيل» عمله الشهير «الأحزاب السياسية»، والذي حاول خلاله أن يدرس ما رآه مفارقة حديثة، وهي أن الديمقراطية الليبرالية المعاصرة، قد أتاحت الفرصة لنشأة منظمات ذات أهداف ثورية.

لكن بمرور الوقت، وزيادة تعقيد التنظيم، تصير، وللمفارقة، أقل ديمقراطية، ومحكومة من قبل مجموعة من القادة المحافظين. ومن هنا خلص «ميشيل» إلى قانونه: من يتحدث عن تنظيم، يتحدث حتما عن أوليجاركية.

هكذا كانت نشأة «نظرية النخبة» تطرح، كما صرح بذلك «باريتو»، أن الديمقراطية هي مجرد أكذوبة أو وهم لا يمكن تحقيقه؛ وكان البديل لدى المدرسة الإيطالية هو واقعية حكم النخبة بما تحتويه تلك الواقعية من داروينية غير أخلاقية.


أطروحات حديثة

أعيد بعد ذلك طرح الفكرة حديثًا في كثير من الدراسات التي لم تستهدف صناعة نظريات على النحو الذي قامت به المدرسة الإيطالية، وإنما استهدفت تلك الدراسات الكشف عن زيف الديمقراطية المعاصرة. ففي عام 1956، ظهر كتاب «نخبة السلطة – The Power Elite» لعالم الاجتماع الأمريكي «شارلز رايت ميلز» (1962)، والذي حاول فيه أن يجيب عن السؤال الذي أثاره ملهمه «فرانز ليوبولد نيومان» في كتابه (1942) «وحش البحر – Behemoth»؛ وهو كيف وصل النازيون إلى السلطة في دولة الديمقراطية؟

رأى «ميلز» أن النخب القوية في الولايات المتحدة؛ هي التي تحكم بالفعل، وأن الديمقراطية تتعرض للتفكيك في المجتمعات الحديثة. وقد عد «ميلز» 6 مجموعات: العائلات التاريخية في الولايات المتحدة التي تتربع على قمة الهرم الاجتماعي، المشاهير من الإعلاميين وغيرهم، المدراء التنفيذيين، الأثرياء من أصحاب المؤسسات العملاقة، أمراء الحروب جنرالات الجيش، الحكام المستبدين السياسيين.

لم يكن كتاب «ميلز» هو الوحيد من نوعه. فقد نشر عالم السياسية الأمريكي «إلمر إيريك شاتسشنايدر» (1971) عمله الهام (1941) «الشعب النصف سيد»؛ رؤية واقعية للديمقراطية في الولايات المتحدة The Semisovereign) People)، والذي خصصه لنقد «النظرية التعددية – Pluralism» -سنتعرض لها لاحقًا-.

يرى «شاتسشنايدر» أن أصحاب التعليم، والدخل الأعلى الذين يشاركون فعليًا في جماعات المصالح؛ هم صناع القرار الحقيقيين لا الناخبون في العملية الديمقراطية. كما حظي كتاب «دومهوف»؛ «من يحكم أمريكا» (1967، 2009) بقبول وانتشار واسعين.

نوع آخر من النخبوية أشار إليه «ميلز» ولكن سبق وأن طرحه عليه الفيلسوف الأمريكي «جيمس برونهام» (1987) في كتابه «الثورة الإدارية – The Managerial Revolution». يرى «برونهام» أن الرأسمالية إلى زوال، وهي الفكرة التي بقيت معه من ماضيه «التروتسكي».

لكنه لم يعد يرى بعد تحوله إلى اليمين أن القادم هو المجتمع الاشتراكي، وإنما مجتمع يتحكم فيه المدراء، لا العمال ولا أصحاب رؤوس الأموال. أثرت أفكار «برونهام» فيمن عرفوا بـالمحافظين القدامى (Paleocons) وعلى رأسهم «سامويل فرانسيز، وباول جوتفريد»، والذين رأوا أن الدولة الإدارية التي تحكم الولايات المتحدة اليوم؛ ما هي إلا نوع من «التوتاليتارية» المهذبة.


هل النخبة واقع؟

في مقابل «نظرية النخبة»، تطرح «التعددية – Pluralism» نفسها كنوع من تطوير الديمقراطية، وكمقاربة مختلفة لمفهوم السلطة لا يحصرها في الحيازة المباشرة للسلطة. يطرح الفيلسوف السياسي الأمريكي «روبرت دال» (2014) أبرز منظري التعددية، «البولياركية – Polyarchy» بمعنى توزيع السلطة بين أكثر من فرد. (ترجم «نمير مظفر»، كتاب دال «الديموقراطية ونقادها» (1989) إلى العربية عام 1995).

توظف «نظرية النخبة» اليوم من قبل نقاد الديمقراطية العرب في التزهيد في الديمقراطية، واعتبارها مشروعًا زائفًا أو غير قابل للتطبيق، ولذا يطرح السؤال نفسه: هل النخبوية هي فعلًا واقع لا مفر منه، وهل الديمقراطية هي فعلًا مجرد وهم، أم أن الأمر على خلاف ذلك؟

إذا كانت النخبوية واقعًا لا مفر منه؛ فإن أثر إرادة الناخب وتنوع أدوات السلطة تمثل في الوقت ذاته واقعًا لا يصح التغافل عنه وإنكاره. فالديمقراطية كما يبدو أداة ضغط ينجح عبرها الناخب العادي في الحفاظ على حد أدنى من مصالحه من أن تسرقها النخب المتصارعة.

كما أن الديمقراطية هي مناخ يتيح نوعًا من تكافؤ الفرص للنابهين، للولوج إلى نادي النخبة والمشاركة في صناعة القرار؛ ولذا فإن الديمقراطية تنجح في خلق أنظمة تتوزع فيها السلطة بين هيئات متعددة، تنجح كل هيئة منها في صناعة كوادرها التي تصب أخيرًا في مصلحة بناء دولة قوية، في مقابل التجريف وفقر الكوادر التي تعانيه الأنظمة غير الديمقراطية (وهو ما نشهده اليوم في الفارق بين إيران وتركيا من جهة، وبين سائر الدول العربية من جهة أخرى).

تبقى بعد ذلك حقيقة الحيازة النخبوية للنصيب الأكبر من السلطة وصناعة القرار تحديًا تواجهه الديمقراطية، لكن يبقى العلاج بلا شك أي شيء سوى الإطاحة بالديمقراطية نفسها، حيث يبدو ذلك العلاج نوعًا من الخيار الشمشوني.