بسقوط حائط برلين في نهايات القرن العشرين، أسُدل الستار على الحقبة السوفيتية وانقضى عصر الثنائية القطبية، ليُمهد ذلك إلى انطلاق العالم نحو أقوى اتجاه اقتصادي شهده على الإطلاق ألا وهو العولمة. حيث تحرير أسواق رأس المال ليس فقط في أوروبا الشرقية والكتلة السوفيتية سابقًا بل وآسيا وأمريكا اللاتينية أيضًا، وقد صاحب ذلك موجة كبيرة من الخصخصة للشركات الحكومية.

بيد أن فترة التسعينيات قد شهدت أزمات دولية حادة كانخفاض قيمة البيزو المكسيكية عام 1994، والأزمة الاقتصادية الآسيوية عام 1997 نتيجة لخفض قيمة عملتها، إلا أن تلك الفترة مثّلت بيئة خصبة لبزوغ شمس الاستثمار في الأسواق الناشئة.اُستخدم مصطلح «اقتصاد السوق الناشئ» للمرة الأولى عام 1981، من قِبل مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي، في إشارة منها لاقتصادات تلك الدول الأقل تقدمًا والتي تتحرك في إطار إنشاء أسواق جديدة حرة.

وقد بلغ عدد الشركات التي تجاوزت قيمة مبيعاتها نحو 10 مليارات دولار في الأسواق الناشئة حوالي 38 شركة، و270 شركة قد تخطت مبيعاتها حاجز المليار دولار أمريكي بحلول عام 2005. فيما احتلت عدد كبير من الشركات متعددة الجنسيات في الأسواق الناشئة مكانة رائدة في صناعتها، كشركتي سامسونج وهيونداي الكوريتين، وشركة «سي في آر دي» البرازيلية لإنتاج الحديد، كما شهدت الهند والصين صعودًا مذهلاً بعد النمو اللافت الذي حققته النمور الآسيوية (تايوان، وكوريا، وتايلاند، وسنغافورة).


بزوغ الأسواق الناشئة

أثار «ميريل لينش» و«كابجيميني» عبر كتابهما «كيف ينمي أغنياء العالم ثرواتهم ويحافظون عليها ويديرونها»، الحديث عن حال الأسواق الناشئة على مدار عقد من الزمان، منذ التسعينيات وحتى وقوع الأزمة المالية العالمية عام 2008، والتي مثلت خيارًا مغريًا لدى فاحشي الثراء آنذاك كي يستثمروا أموالهم فيها، كحل بدا لهم سحريًا من أجل مضاعفة ثرواتهم واستثمارها على النحو الأمثل. كان أبرز ملامح تلك الفترة كما قدمها الكتاب[1]:-

1. الجذب الصيني للاستثمارات الأجنبية

ركزت الصين منذ التسعينيات على التجارة الخارجية وتنمية حجم صادراتها باعتبارهما الوسيلة المثلى من أجل تحقيق نمو اقتصادي قوي. ومن ثَمَّ قامت بفتح أسواقها أمام الاستثمارات الأجنبية من خلال إنشائها مناطق اقتصادية خاصة طبقت فيها قوانين الاستثمار بشكل أقل حدة من أجل اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية. الأمر الذي نتج عنه زيادة تعادل ستة أمثال ما كان عليه الناتج المحلي الإجمالي لها منذ عام 1978، ومن هنا بدأت الصين في التحول من مجتمع زراعي منغلق إلى مجتمع مؤمن بحماس بالتكنولوجيا وكل ما يبشر بها.

2. القوة الاقتصادية المتنامية للهند

كجارة عملاقة للصين، وقوة أخرى متنامية في القارة الآسيوية، لعب تحرير أسواق الهند دوراً ضخماً في التسريع نحو عولمة المنطقة بأكملها. إذ بلغ الناتج المحلي الإجمالي لها عام 2005، نحو 719.8 مليار دولار ، الأمر الذي جعلها حينئذٍ تحتل المركز الثاني عشر في قائمة أكبر اقتصاديات العالم، والمركز الثاني بين أسرع الاقتصادات نموًا في العالم. فبات الاقتصاد الهندي متسمًا بالتنوع ليضم الزراعة والمنسوجات والتصنيع وعددًا ضخمًا من الخدمات الأخرى كالاهتمام بالتكنولوجيا. ليس ذلك فحسب، بل أصبحت الهند مُصدِرًا للعمالة الماهرة في مجال البرمجيات والخدمات المالية والهندسة. حتى أن تحويلات الهنود من الخارج إلى داخل البلاد وصلت إلى ما يزيد عن الـ 20 مليار دولار سنويًا.

3. التكامل الاقتصادي للاتحاد الأوروبي

بعد سقوط حائط برلين بفترة وجيزة، حوّلت معاهدة ماستريخت عام 1992 القارة الأوروبية إلى سوق موحدة، باتت هي الأكبر على مستوى العالم. إذ تكّون الاتحاد الأوروبي من اتحاد جمركي وعملة موحدة يتولى إدارتها البنك المركزي الأوروبي. ليبلغ الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد في 2005، قيمة 13.5 تريليون دولار مقارنة بـ 12.5 تريليون دولار في الولايات المتحدة في ذلك الوقت. فساهم التحسن في مستوى التجارة وارتفاع معدلات النمو بالاتحاد الأوروبي إلى دعم وتنشيط النمو به.

4. خفوت بريق الاقتصاد الأمريكي

في عام 2004، تقلص اهتمام المستثمرين بالسوق الأمريكية نظرًا للمكاسب التي حققتها أسواق أخرى، كما أن ثقة فاحشي الثراء في الدولار الأمريكي قد تزعزعت، وبدأت السوق الأمريكية في تحمل التكاليف المتصاعدة للحرب في العراق وأفغانستان، الأمر الذي انتهى بها إلى التضخم الضخم. تلك الخسائر التي تكبدها الدولار عام 2006، دفعت الأثرياء إلى استكشاف أسواق جديدة وبحث كافة السبل الآمنة للاستثمار لوقايتهم من مخاطر تذبذب قيمة الدولار. كانت تلك بمثابة الفرصة الذهبية لمنطقة آسيا التي تفوقت باعتبارها الوجهة الثانية الأكثر شعبية لاستثمارات الأثرياء، والذين يُطلق عليهم لينش و كابجيميني مصطلح «الأفراد ذوي القيمة الصافية المرتفعة».

5. تنامي الاقتصاد الإقليمي لأمريكا اللاتينية

بالرغم من أن أسواق أمريكا اللاتينية لم تحظَ بنفس القدر من النمو السريع الذي شهدته الأسواق الآسيوية خلال عقد من الزمان من 1996-2006، إلا أن اقتصادها الإقليمي تمتع بمعدل نمو قدره 5.3% في 2006 للسنة الثالثة على التوالي. وبالرغم من اتجاه فنزويلا وبوليفيا نحو السياسات الاشتراكية، إلا أن كثيراً من بلدان أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية اتجهت بقوة نحو العولمة كـالبرازيل، التي قفزت بورصة الأوراق المالية لديها في ساو باولو بنسبة 32.9% عام 2006، بفضل السياسات المالية الذكية التي تسببت في إحداث تحسن ملحوظ في حساب البرازيل الجاري واحتياطات العملات الأجنبية والميزان التجاري. إذ نجحت البرازيل في جذب الاستثمارات الأجنبية وتنمية الاقتصاد حتى أصبحت تاسع اقتصاد في العالم من حيث القوة الشرائية في تلك الآونة. وقد تمكنت بفضل ذلك من تسديد القروض المدينة بها لصندوق النقد الدولي.


حال الأسواق الناشئة خلال العقد الأخير

شهد العقد الأخير تطورات وتغيرات متلاحقة غيرت من ملامح الأسواق الناشئة عما كنت عليه من قبل، من أبرز تلك الملامح:

1. تضاعف حجم الدين الخارجي لدول الأسواق الناشئة

يبلغ إجمالي الدين الخارجي لدول الأسواق الناشئة حاليًا نحو 7 تريليونات دولار أمريكي، وهو ضعف ما كان عليه حجم الدين الإجمالي أثناء الأزمة المالية العالمية في 2008، تتحمل الصين نحو 25% من هذه الديون أي حوالي 1.8 تريليون دولار. وتقدر الديون مستحقة السداد على المدى القصير نحو تريليوني دولار، نصفها من الصين تقريبًا.

ووفقًا لبيانات صادرة عن صندوق النقد الدولي ووكالة بلومبرج، فإن الديون السيادية للحكومات مثّلت 30% من إجمالي الديون الخارجية، بينما مثّلت باقي النسبة حجم الاقتراض الخارجي للمؤسسات المالية والقطاعات. الأمر الذي يمثل تهديدًا حقيقيًا لتلك المؤسسات والشركات إن لم تتمكن من الإيفاء بالتزاماتها الخارجية، خصوصًا مع انحفاض أسعار المواد الخام والسلع التي تتولى معظم الأسواق الناشئة مهمة تصديرها، يزداد الأمر خطورة بالنسبة للشركات المقترضة من الخارج، والتي ليس لديها أنشطة تصديرية أو عائدات بالدولار الأمريكي.

2. تصاعد الدور الصيني في قيادة دول الأسواق الناشئة

على مدار عشرين عامًا، حققت الصين أداءً واسعًا تماشىًا مع مؤشر «MSCI» للأسواق الناشئة، كانت البداية حين تم دمج أكبر الشركات المدرجة في هونج كونج إليه، علاوة على إضافة بعض الشركات الصينية المدرجة في الولايات المتحدة إلى مؤشر الأسواق الناشئة عام 2014.

فقد مثلت الاقتصادات الناشئة بقيادة الصين أهم محرك للنمو الاقتصادي العالمي المتزايد، وذلك من حيث ديناميات اقتصاداتها، وحصتها المتنامية في التجارة العالمية، وأهميتها المتزايدة في أسواق الأسهم العالمية. كل ذلك كان بمثابة اتجاهات ذات أهمية كبرى وطويلة الأجل لمستقبل الصين الاقتصادي. واعتبارًا من عام 2017، كانت الصين والهند قد حققتا ما يزيد على 32.6 تريليون دولار من الناتج الإجمالي العالمي. ووفقًا لتوقعات صندوق النقد الدولي (IMF) الذي تم إصدارها في أكتوبر/تشرين الثاني 2017، فإن الاقتصادات الناشئة والنامية مسئولة عن 58% من إجمالي نمو الناتج المحلي على مستوى العالم على مدار السنوات الخمس المقبلة، بينما ستكون الصين وحدها مسئولة عن 27%، والولايات المتحدة مسئولة عن 17%.

3. زيادة قوة الدولار في مقابل العملات الأخرى

مع زياد قوة الدولار الأمريكي في مقابل العملات الأخرى، بات المستثمرون يجنون أرباحهم بالعملة المحلية بدلاً من الدولار فضلاً عن انخفاض قيمة العملات المحلية نفسها، الأمر الذي قلل من ربحية تلك الاستثمارات ودفعها نحو الخسارة. وفي المقابل، قام البنك الفيدرالي الأميركي برفع نسبة الفائدة للإقراض من 0.25% في عام 2014 إلى 2% عام 2018، مما جعل إعادة التمويل شبه مستحيلة للدول التي تريد الاقتراض بهدف التوسع أو سد العجز.

فقد جعلت السياسات الأخيرة التي اتبعتها الولايات المتحدة -من خفض الضرائب المفروضة على بعض الشركات ورفع معدل الفائدة- من الاستثمار في المصارف الأمريكية حل أكثر أمانًا وسهولة من الاستثمار في الأسواق الناشئة. فعادت الأموال التي هاجرت من الولايات المتحدة إلى الأسواق الناشئة أثناء الأزمة المالية منذ عقد من الزمان إليها مرة أخرى. إذ نزحت رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة إلى الولايات المتحدة بفضل تلك السياسات. ونتيجة بيع المستثمرين أسهمهم وسنداتهم في الأسواق الناشئة، انخفضت مؤشرات هذه الأسواق، وهي نتيجة مباشرة لزيادة العرض في الأسواق المالية.

4. ظهور أسواق ناشئة صغيرة جديدة

إلى جانب عمالقة الأسواق الناشئة،بزغت أسواق ناشئة صغيرة أرادت أن تخلق لها مكانًا في ذلك الميدان. فوفقًا لمؤشر «مورجان ستانلي كابيتال إنترناشونال ماركتنج»، فإن هناك 24 دولة نامية تقع ضمن الأسواق الناشئة الصغيرة. وتعد باكستان السوق الناشئة الأصغر في مؤشر الأسواق الناشئة بعد أن أعيد تصنيفها ضمن الأسواق الحدودية في عام 2017، إذ بلغ وزنها أقل من 0.1%. كما حظيت مصر وجمهورية التشيك بوزن ضئيل في المؤشر بنسبة 0.1% و0.2% لكل منهما.

جدير بالذكر أن الأسواق الحدودية عادة ما تكون أقل نضجًا وأضعف في المستوى من أداء الأسواق الناشئة نظرًا لمجموعة من المعايير، منها ما يتعلق بحجم السوق والسيولة من حيث سهولة شراء وبيع الأسهم، إلى جانب نسبة وصولها لمستثمرين أجانب ومعدل التنمية الاقتصادية لذلك السوق.

إجمالاً، واجهت الأسواق الناشئة على مدار عشرين عامًا أزمات مالية وتقلبات ضخمة في سوق المال، لكنها تمكنت من إثبات وجودها، إلا أنها في الآونة الأخيرة تشهد اضطرابات كبيرة لصالح السوق الأمريكي، فبحسبدراسة أصدرها صندوق النقد الدولي، فإن الأسواق الناشئة ستواجه الفترة المقبلة أزمة جديدة ستستنزف رؤوس أموالها، كما حدد في تقريره عددًا من الأسواق الناشئة الأكثر عُرضة لخطر الانكماشات وعلى رأسها الأرجنتين.

المراجع
  1. ميريل لينش وكابجيميني، «كيف ينمي أغنياء العالم ثرواتهم ويحافظون عليها ويديرونها»، ترجمة: علا أحمد، مجموعة النيل العربية، مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، الطبعة الأولى، 2009، ص ص77-100.