منذ أن وَجد الإنسان نفسه مُلقًى في هذا الوجود وهو لم يكن بمفرده وحيدًا وإنما جاورته الطبيعة، تلك التي أدهشته بجمالها تارةً فاستقى منها أعذب فنونه، وتارةً أخرى بعظمتها فاتخدها معبودةً من دون الله وإليها كان يتقرب رغبةً في عطائها واتقاء شرها، سواء تم ذلك بشكل مباشر كالآلهة الطبيعيين أو بشكل وسيطي كآلهة الطبيعة.

الصراع مع الطبيعة هو الحال الذي ألِفته المخلوقات منذ بدء الخليقة، ذلك الصراع الذي لا يبقِي ولا يذر إلا من هو كفؤ للبقاء؛ ومن هذه النزعة المرعبة للبقاء بدأ الجنس البشري رحلته للسيطرة على الطبيعة.

فما لهذه الطبيعة الهوجاء إذًا لا تخضع لرغباتنا؟ وكيف لنا أن نُروّض تلك القوة الغاشمة لصالحنا؟

تبدأ فصول روايتنا منذ القدم حيث ظهور الإنسان، فمنذ ما يقارب المليوني سنة عرف الإنسان صناعة الأدوات البسيطة والتحكم في النار مما أسهم في فرض نفسه على بيئته؛ وأدى ذلك إلى نوع من التوسع السكاني والانتشار الجغرافي مما نحى بالإنسان لخوض تحديات جديدة مع الطبيعة.

أثمرت تلك التحديات العديد من الثورات المجتمعية والتكنولوجية كاكتشاف الزراعة وبدء استخدام المعادن وغيره.

الحاجة المجتمعية تمثل الحافز الأساسي وراء أي ابتكار هندسي، وما نعنيه بالحاجة هنا هي نوع من الوعي الجمعي لما يمكن أن يسهم فيه الابتكار من حلول

وهنا يحق لنا السؤال عن قضيتنا الأولى: ما طبيعة العلاقة بين المجتمع والتكنولوجيا؟

سؤال يحير الألباب حيث تضيع فيه العلة في غياهب المعلول وتتشابك فيه العوامل الاجتماعية والاقتصادية مما يحيلنا لعلم الاجتماع وهو ما يخرج بنا من نطاق دراستنا، لكننا آثرنا الإشارة إليه لما له من الأهمية بمكان في فهم بعض الافتراضات القادمة، ولأجل ذلك سنبسط عقولنا على بعض من النقاط الرئيسية للجانب الاجتماعي للتكنولوجيا.

من المتفق عليه أن الحاجة المجتمعية تمثل الحافز الأساسي وراء أي ابتكار هندسي، وما نعنيه بالحاجة هنا هي نوع من الوعي الجمعي لما يمكن أن يسهم فيه الابتكار من حلول لمشاكل معينة؛ بالتالي يكون نجاح أي ابتكار هندسي مرتبطا بشكل ما بالتقبل المجتمعي له.

ولهذا يكون تطور العلوم الهندسية نابعًا من عوامل خارجية، على العكس من العلوم الطبيعية مثلًا والتي تنمو من الداخل، أي بسبب ظهور مشكلات ما في بنية النموذج الذي تُسلّم به.

بالإضافة إلى ذلك نجد أنه لضمان خروج أي ابتكار لحيز الوجود فلابد له من الإنطواء تحت سلطة ما تملك المقومات الاقتصادية اللازمة لعملية الإنتاج.

ونذكر هنا واحدًا من أكثر العقول الإبداعية التي عرفتها أوروبا ونعني به ليوناردو دافنشي، حيث يبدو لنا واضحًا من أوراقه أنه تصور أفكارًا عن آلات تطير في الهواء وغواصات، ولكن ظروف إيطاليا الاقتصادية حينها لم تكن ميسورة له؛ فلم تجد أفكاره سبيلًا للتحقق.

ولا نُغْفِل أيضًا العامل الفردي، إذ من المؤكد أن كل ابتكار هندسي يكون نتيجة لإلهام ما، أو لنوع من العبقرية الخلَّاقة، لكن العامل الفردي هنا لا يضاهي في أهميته ما ذُكر من عوامل اجتماعية.

لنشرع إذًا بدراستنا المنهجية: تنتمي العلوم الهندسية لفئة العلوم المعيارية، والعلوم المعيارية هي المقابل للعلوم الوصفية، ونعني بالعلوم الوصفية ما يكون هدفها هو وصف موضوعاتها كما هي كالفيزياء أو علم النفس مثلًا، بينما نجد أن العلوم المعيارية تتجاوز هذا الوصف إلى ما ينبغي أن تكون عليه تلك المواضيع، فعلى سبيل المثال تهتم العلوم الأخلاقية بما يجب أن يكون عليه السلوك وكذلك أيضًا بالنسبة لعلم الجمال بما يخص القيمة الجمالية.

تتميز العلوم المعيارية بوجود نمطين لموضوعاتها، حيث يُمثل النمط الأول، الموضوعات مجردة من أي معايير كالفكر مثلًا بالنسبة لعلم المنطق، ويمثل النمط الثاني، ما ينبغي أن تسلكه تلك الموضوعات، ويكون في مثالنا هذا: الفكر القويم.

بذلك تكون العلوم الهندسية علوما معيارية تتخذ من الأمان والاقتصادية والخدمية معايير لها، وتمثل الظواهر الطبيعية نمطها الأول، بينما يمثل السلوك المرغوب للطبيعة نمطها الثاني، لكن هنا تتجلى مشكلة، إذ كيف لنا أن نُسقط معاييرنا على الطبيعة ونحن لا نملك إلا وصفًا لها -أي العلوم الطبيعية- أو كيف لنا أن نُملي رغباتنا على الطبيعة ونحن لا نعرف عنها إلا طريقة عملها؟

هذا التحدي الذي يمثل المهندس والطبيعة طرفاه هو ما سيمكننا من فهم طبيعة ما يسمى بالتصميم الهندسي.

ما يقوم به المهندس هنا هو نوع من التحايل على الطبيعة، إذ يقف المهندس بمجابهة الطبيعة وهي غير مبالية برغباته أو بآماله، حيث لا تتبع إلا قوانين حتمية ومطردة – وهذا افتراض ضمني أساسي لأي مهندس. أقول إنه يقف أمام هذه الطبيعة وهو غير متسلح إلا بقوانين وصفية لا تمكنه من إخضاع الطبيعة بل من تفسيرها فقط.

ولفهم ما نقصده بالتحايل هنا سنفترض حالة ما للطبيعة وهي حالة اعتيادية، وما يهدف إليه المهندس هو الانتقال من تلك الحالة إلى الحالة المرغوب فيها، مع الأخذ بالاعتبار أن المهندس هنا لا يتعامل مع الظواهر الطبيعية بشكل معزول إنما يتعامل معها في حضرة المكون الخلَّاق الذي أوجده، سواء كان آلة أو منشأ أو غيره.

وللتخلص من تلك المشكلة، يقوم المهندس هنا عادةً بنوع من الافتراض الحدسي المبدئي والذي يُمكّنه من المضي قدمًا، وهذا الافتراض لا يقوم على أسس منهجية صارمة، وانطلاقًا من هذا الافتراض يقوم المهندس باستخدام الطرق الهندسية – والتي تقوم بدورها على أسس علمية – للوصول إلى النتيجة المطلوبة، لكنه لا يغفل أن نتيجته تقوم على افتراض غير موثوق ولذلك يقوم بالتأكد من مدى مطابقة نتيجته للمعايير الهندسية.

الفن يقف على طرفي نقيض من العلوم والهندسة، فالخلق الفني يختلف في طبيعته ومصادره وغاياته عن الخلق الهندسي كل الاختلاف

وما نقصده بالافتراض المبدئي هنا ليس نوعًا من الافتراض الخاص بالظروف المحيطة بغية التسهيل كما في العلوم الطبيعية، إنما هو افتراض يتعلق بطبيعة المكون الهندسي نفسه، وهو جزء أساسي من المنهج الهندسي.

هذه الطبيعة الافتراضية للتصميم الهندسي تمثل أفضل ما يمكن عمله للتغلب على مشكلة كيفية الحصول على نتيجة معيارية باستخدام وسائل وصفية، إذ إن الأدوات التي يتسلح بها المهندس – أي العلوم الطبيعية – لا تمكنه من الحصول على مبتغاه بشكل مباشر.

لا يوجد لدينا منهج واضح إذًا يمكّن المهندس من الحصول على كافة أبعاد مكونه بشكل ممنهج سليم، فيلجأ حينها لنوع من التحايل العبقري كما وصفنا.

المهندس هنا هو أشبه بمن يتوجب عليه إيجاد حل لمعادلة ذات مجهولين، وكل ما بحوزته هو نوع من الاشتراطات التي تصف طبيعة النتائج (المعايير الهندسية)، فيقوم بافتراض المجهول الأول بنوع من الحدس، وعن طريق بعض العلاقات المنطقية (الطرق الهندسية) يقوم بالتوصل لقيمة المجهول الثاني، ليس هذا فحسب، بل يتأكد في النهاية من مدى اتفاق نتائجه والاشتراطات السابقة.

هذا بخصوص التصميم الهندسي، لكن ربما يتبادر إلى ذهن القارئ أن التصميم الهندسي بدعة حديثة من مخلفات العلم الحديث والذي لا يتجاوز عمره الأربعة قرون، بينما نجد أن التطبيقات الهندسية قديمة قدم الإنسان كما أشرنا، وهذا يقودنا إلى نتيجة معروفة جيدًا وهي أن كثيرًا من الابتكارات قد سبقت في وجودها النظريات المفسرة لها، ويمكن إرجاء ذلك لكون الوعي بالحاجة لدى الإنسان سابقا على وعيه بالجهل، أو لكون الظروف التي تُهيّئ مناخًا خصبًا للتأمل النظري تُعد شذوذًا عن الظروف الطبيعية للمجتمعات الأولى.

مما يثير التأمل أيضًا هو الطبيعة الاصطلاحية للمعايير الهندسية، ففي رحاب هذا الاصطلاح المتماسك يضيع أي معنى للصواب والخطأ، ولهذه النتيجة انعكاس مهم وهو الطبيعة التعددية للفكر الهندسي، حيث يندر أن تتفق النتائج الهندسية بصورة متطابقة، إلا أنها تعد مقبولة بالرغم من ذلك، وهو ما قد يخلق حالة من الصدمة لدى دارسي العلوم الهندسية ممن تشرَّبوا الدقة خلال دراستهم للعلوم الطبيعية في الصفوف الأولى.

يمكننا استقاء تبرير مقنع من هذه النتيجة أيضًا لتفضيل المهندسين لميكانيكا نيوتن على غيرها بالرغم من ثبوت قيامها على افتراضات خاطئة.

بالعودة قليلًا للوراء حين أشرنا إلى أهمية العامل الفردي للابتكار والذي يتجلى في نوع من العبقرية الخلَّاقة، نجد أن هذا الجانب الخلَّاق قد نحى بالبعض للقول بالتشابه بين الفن والهندسة وهو ادعاء أردنا بيان فساده في نهاية حديثنا.

إن ما يميز الفن هو كونه بلا معنى وغير ذات غاية، إنه نوع من الشعور والخيال وليس نوعًا من المعرفة، لأن المعرفة تختص بتقرير الواقع بينما يذهب الخيال أو الرؤيا للخلط بين الواقع واللاواقع.

إن الفنان يرتوي من نبع عاطفته، وهذه العاطفة ليست كالرغبات، أي لا تطمح إلى لذة أو لألم، إنما هي نسيم دافئ أو شعور عابر لا يمكن إدراكه، فلا يمكن للفن إذًا أن يكون ذا نفع ما أو حتى ذا هيئة مادية، ويشبّه ب. كروتشه من يدَّعون أن الفن ذو هيئة مادية بالأطفال الذين يريدون إمساك قوس قزح الظاهر في فقاعات الصابون.

إن الفن إذن يقف على طرفي نقيض من العلوم والهندسة، فالخلق الفني يختلف في طبيعته ومصادره وغاياته عن الخلق الهندسي كل الاختلاف. فليت شعري كيف يتجرأ أحدهم للربط بينهما؟!

المراجع
  1. آر. إيه. بوكانان، الآلة قوة وسلطة
  2. ب. كروتشه، فلسفة الفن