إن التحول في سوق العمل لشباب المهنيين في مصر يعد أحد أهم العوامل المفسرة لظواهر اجتماعية عديدة منها: انفكاك الشباب عن الانضمام للتنظيمات الهيراركية أو المؤسسات الحزبية أو غيرهما من الأشكال المؤسسية للعمل العام، والانضمام إلى شبكات اجتماعية صغيرة ومبادرات فردية أكثر مرونة في حراكها الاجتماعي، وأقل مدة في دورة حياة الأفراد بها، وليس لها سلطة هرمية طاغية على أعضائها.

ونفترض أن هذا التحول في سوق العمل لشباب المهنين ساهم – بجانب متغيرات أخرى عديدة- في ظهور هذا النمط الشبكي من الحراك الاجتماعي في المجال العام. ونجد هذا التحول جليًا في حالة الحراك الاجتماعي لشباب المهندسين منذ السبعنيات حتى الآن خاصة في دوائر الإسلام السياسي. فيمكننا المقارنة بين الحراك المجتمعي لجيل السبعينيات من المهندسين الإسلاميين خاصة داخل جماعة الإخوان المسلمين والحراك المجتمعي لشباب المهندسين المنخرطين في ريادة الأعمال للجيل الحالي.


تحول صورة المهندس في المجال المهني

ثمة تحول من صورة المهندس البيروقراطي القابع في مؤسسات الدولة في عهد عبد الناصر إلى مهندس بارز في مجال العقارات منذ الـــ70 إلى مهندس يعمل كرائد أعمال في مشروعات صغيرة، ويتوازى ذلك التحول في صور عمل المهندسين مع نمط حراكهم في العمل العام سواء من خلال الانخراط في كيانات المجتمع المدني كالنقابات المهنية والأحزاب السياسية لجيل الــ70 في مقابل انخراط الشباب الحالي في مبادرات فردية أكثر مرونة تنظيميًا.

فمع بداية الـــ70ـ تزامن صعود التعليم الهندسي مع صعود رأسمالية المقاولات التي كانت أكثر القطاعات استعدادًا للاستجابة إلى محاولات السلطة لتحفيز نمو الرأسمالية الخاصة بعد التراكم الذي حققته في نهاية الــــ60. واعتمد تنفيذ سياسة الانفتاح عليها. فشهدت فترة الـــــ70 صعود دور نقابة المهندسين، وبدا وكأن المهندسين وجمعية التخطيط المصرية قد مارسوا وأعطوا لأنفسهم حقًا رقابيًا على الدولة وسلطتها بحكم أنهم المنفذون لمشروعاتها الاستثمارية والتنموية.

وقد جعل القانون نقابة المهندسين بمثابة هيئة استشارية للدولة في مشروعاتها العملاقة. وأنشئت أقسام الهندسة في الجامعة الأمريكية لحرص الطبقة الوسطى على تعليم أبنائها غير المتفوقين بها، حيث تزايد عدد الملتحقين بالجامعة الأمريكية، وافُتتحت تخصصات علمية مختلفة عام 1979 لدعم التنمية المستدامة في المناطق الصحراوية المستصلحة في مصر.

وتزايد احتياج السوق للمهندسين مع توسع سوق العقارات في مصر، وتنامي مشروعات الدولة وامتدادها في المدن الجديدة، واعتماد شرائح الرأسمالية الصناعية الخاصة على المهندسين والمهنيين الذين جاءوا من الخليج في الـــ70 مما أوجد الطلب على وجود تعليم خاص، وبالفعل بدأت المعاهد الخاصة للتعليم الهندسي تظهر في مصر، وأنشئ المعهد التكنولوجي بمدينة العاشر من رمضان (إحدى هذه المدن الجديدة).

ومن الملاحظ تراجع الدولة في التعليم الهندسي مقارنة بالسوق في مؤشر بسيط هو: عدد الكليات الحكومية المقيدة في نقابة الهندسة في مقابل عدد الكليات والمعاهد الخاصة، فقد بلغ عدد الجامعات الحكومية المقيدة بها 35 كلية، أما الجامعات والمعاهد الخاصة المقيدة بها بلغ 48 كلية ومعهدًا.


الحراك الاجتماعي والسياسي لجيل السبعينيات

لقد كانت النقابات المهنية والعمل الطلابي في الجامعات والمنابر والمساجد والمجالس النيابية من أبرز مساحات المواجهة بين الدولة وجماعة الإخوان المسلمين قبل ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، ولكن على الرغم من أن الدولة حاولت التضييق على الجماعة في هذه المساحات، ظلت النقابات هي المساحة الوحيدة التي لم تنجح كل المحاولات في تغيير هويتها، فقد ظلت النقابات المهنية محسوبة على المعارضة، ومعقلًا هامًا من معاقل التيار الإسلامي.[1]

ونجد في الحراك الاجتماعي والسياسي للمهندس أبو العلا ماضي نموذجًا للحراك الاجتماعي لجيله من المهنيين من جماعة الإخوان المسلمين عامة وللمهندسين على وجه الخصوص. فقد انخرط أبو العلا ماضي في العمل العام من خلال الاتحادات الطلابية؛ فقد اختير نائبًا أول لرئيس اتحاد طلاب مصر خلال 1978 و1979، وأصبح الأمين العام المساعد في المجلس الأعلى لنقابة المهندسين خلال الفترة من 1987 حتى 1995، ومقررًا للجنة التنسيق بين النقابات المهنية المصرية 1989-1996. وحينما انفصل ماضي عن جماعة الإخوان المسلمين استمر في مواصلة العمل العام في المجتمع المدني بطابعه السياسي المؤسسي من خلال تأسيسه لحزب الوسط.


الحراك الاجتماعي لشباب المهندسين

أما في الفترة الحالية فنلحظ أن كثيرًا من المبادرات المنخرطة في العمل الاجتماعي العام في مصر تضم من بين المتطوعين بها والمنتسبين لهيكلها الإداري عددًا كبيرًا من طلاب وخريجي كليات الهندسة، ويعمل بعضهم في مجال ريادة الأعمال.

ويمكننا الربط بين قيم الفردانية في خطاب الأنشطة الطلابية، وفي خطاب عمرو خالد التنمية بالإيمان «صناع الحياة»، ونماذج المحاكاة وشعاراتها، مثل شعار مويك (نموذج محاكاة منظمة المؤتمر الإسلامي بجامعة القاهرة ) لعام 2017 «لا تؤتى الأمة من ثغر تركته ورحلت»، أو نموذج «STP» بكلية هندسة جامعة القاهرة «واحد بألف، هتعلى بيك، إنت كتير»، وكذلك مدرسة شيخ العمود في خطابها الفرداني «متعلم على سبيل النجاة»، وطبيعة سوق العمل المتاح للشباب، وتفضيل انخراط شباب الأنشطة في مجال ريادة الأعمال مقارنة بالعمل في الشركات الخاصة الكبرى أو العمل الحكومي كما كان في السابق.


لماذا ظهرت ريادة الأعمال؟

لقد ظهرت ريادة الأعمال في مصر لتعثّر المؤسسات العامة والخاصة في استيعاب المزيد من العاملين وخاصة الشباب مع تزايد البطالة. ويعرّف الاقتصادي جوزيف شومبيتر رائد الأعمال بأنه الشخص الذي لديه القدرة والإدارة لتحويل فكرة جديدة أو اختراع جديد إلى ابتكار آخر ناجح، فيتمتع رائد الأعمال بالثقة والاستقلالية، والقدرة على التحكم الذاتي.[2]

ورغم أن ريادة الأعمال كمجال أقرب لتخصص التجارة والبيزنس، ولكن سوق العمل في مصر شهد ارتفاعًا ملحوظًا لقيمة وظيفة المحاسبة مع تزايد الشركات، ولقدرة مهندسي الكمبيوتر خاصة في العمل بالبرمجة والترويج لمنتجات «software»، بالإضافة للخبرة الإدارية والتسويق المكتسبة من خلال تفاعلهم في الأنشطة الطلابية، الأمر الذي يساعدهم في عمل مشروع صغير، فقد صار التطلع الوظيفي للشباب هو أن يكونوا أصحاب «شركة صغيرة – start up».

يؤكد أحد الشباب (تخرج في كلية الهندسة جامعة عين شمس عام 2014 وكان فاعلًا في الأنشطة الطلابية، ومتطوع سابق في شيخ العمود) أنه خلال السنوات الأولى من الكلية أخذ يتدرب مع أصدقائه الذين يمتلكون «start up» للتعرف على السوق وقواعد العمل فيه. ويرى أنه رغم أن هذه المشروعات تواجه مشكلة عدم الاستقرار، ولكنه ثمة حالات ينجح أفرادها في الاستمرار وتتحول لمصنع صغير. وتعتمد هذه المشروعات الصغيرة في تمويلها على رأس مال صغير، وتتكون من أفراد معدودين، قد يكون شخصًا بمفرده، وقد تحصل على دعم مالي من خلال مسابقات دولية.

فقد أصبحت الدول المشجعة لمشروعات ريادة الأعمال من أهم الدول الجاذبة لهجرة الشباب في مصر، فنلاحظ ظهور العديد من الإعلانات التي تروج للهجرة لبعض البلدان الأجنبية، مستعرضة أن من بين مزايا فرصة الهجرة إلى هذه الدولة هو مدى تشجيعها لريادة الأعمال سواء بإجراءاتها القانونية أو تسهيلاتها الاستثمارية.


الدولة والترويج لنموذج رائد الأعمال

هذا التحول في سوق العمل في مصر نحو الترويج والاحتفاء بنموذج رائد الأعمال لا يمكن أن يُرى منفكًا عن دعم الدولة له، رغم أن الدولة ليست وسيطًا مباشرًا بين مهارة الفرد وتقلبات السوق العالمي، ولكن تبرز الدولة من خلال إصدارها قوانين تنظم العمل وتشجع المشروعات متناهية الصغر. فقد أصدرت وزارة المالية قانونًا لتشجيع المشروعات متناهية الصغر عام 1998.

ووفقًا لتعريف البنك المركزي المصري الصادر في الثالث من ديسمبر/ كانون الأول 2015 فإن المنشأة الصغيرة هي كل شركة أو منشأة فردية أو جمعية أهلية أو تعاونية تمارس نشاطًا اقتصاديًا أو إنتاجيًا أو خدميًا أو إداريًا أو تجاريًا يتراوح رأسمالها بـــ 50 ألف جنيه ولا يزيد دخلها عن مليون جنيه. وتروج الكليات الحكومية لهذا النمط من المهن من خلال تنظيم محاضرات عامة لنماذج لرواد الأعمال، كما في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وهذا لم يكن أمرًا مألوفًا في السابق.

يتبين لنا مما سبق كيف لعبت الدولة والرأسمالية من خلال السوق دورًا رئيسًا في توجيه أفراد الطبقة الوسطى وتكوين عقليتهم من خلال أنماط التعليم المختلفة، وطبيعة العمل المهني، الذي كان له الأثر الأكبر في تشكيل الحراك المجتمعي الإسلامي خاصة للإخوان المسلمين في النقابات لجيل الــــ70، وفي المبادرات الأكثر انفكاكًا عن إطار التنظيمات الهرمية للجيل الحالي.

بل إننا نرى أن محاولات بعض الشباب من الإسلاميين في الفترة الراهنة لطرح مبادرات عدة للتعليم المنزلي كبديل للتعليم الحكومي والخاص، وما اتجه إليه جيل الــــ 70 في جماعة الإخوان المسلمين من إنشاء مدارس خاصة إسلامية يبدو متوازيًا مع مسار العمل المهني المتاح لكل من الجيلين؛ فجيل الـ70 كان أكثر سعيًا نحو العمل في القطاع الخاص في ظل تدهور القطاع الحكومي، أما جيل الشباب الحالي فيسعى في مسارات أكثر فردية لضيق سوق العمل العام والخاص عن الوفاء بمتطلباته، مما يؤكد أن محاولة فهم التحولات في الحراك المجتمعي لجيل شباب المهنيين الحالي لا يتم بمعزل عن طبيعة المهن التي يمارسها أفراده في سوق العمل التي تنعكس على نمط حراكهم المجتمعي.


إشكالية مفهوم إسلام السوق

إن افتراضنا بأن الحراك الاجتماعي يتغير بتغير طبيعة العمل المهني للأفراد وإن اتفق جزئيًا مع مصطلح باترك هايني «إسلام السوق» الذي عرفه بأنه «مصطلح تحليلي يستند إلى فكرة الربط بين أنماط معينة من التدين الإسلامي والأسس الفلسفية للسوق مثل النزعة الفردانية والانفتاح وأولوية الشأن الخاص على العام، ونزع القداسة عن الالتزام التنظيمي والشبكة والعولمة والاستهلاك والتخلي عن السرديات الكبرى»[3]، إلا أن طرح هايني يعيبه عدم التطرق مباشرة لطبيعة الوظيفة المتاحة في السوق لهؤلاء الأفراد المنخرطين في ظاهرة إسلام السوق.

كما أن طرح هايني يقارن مظاهر عدة لإسلام السوق في دول مختلفة بتصور إستاتيكي للتدين يتمثل في التصور السلفي الوهابي باعتباره الأصل الفقهي الثابت، دون الولوج إلى جوهر البعد القيمي للشعائر الدينية في ذاتها، أو اختلاف أنماط التدين من سياق لآخر، ويختزل ظاهرة إسلام السوق في نمط تدين الطبقات البرجوازية، في حين أنه يتقاطع مع طبقات وسطى دنيا في بعض الحالات ولكن لمبررات اجتماعية أخرى. ويظهر ذلك في مقارنة هايني لأنماط الحجاب في الجامعة الأمريكية بتصور الزي النمطي الأسود للسلفية التقليدية، بتجاهل للشرائح المتنوعة التي تندرج بينهما.

المراجع
  1. سميح المعايطة، الدولة والإخوان: قراءة تحليلية (1999- 2008)، سلسلة أوراق سياسية، مركز القدس للدراسات السياسية، ص38-39.
  2. بسمة فتحي عوض، «دور حاضنات الأعمال والتكنولوجيا في حل مشكلة البطالة لريادي الأعمال: دراسة حالة مشاريع حاضنة الأعمال بالجامعة الإسلامية بغزة»، دراسة مقدمة لنيل درجة الماجستير، الجامعة الإسلامية،غزة، 2015، ص52.
  3. باتريك هايني، إسلام السوق، ترجمة عومرية سلطاني (القاهرة، مدارات للأبحاث والنشر، 2015) ص 25-26.