يسعنا القول إن عصر التنوير هو أكثر الحقب التاريخية حضورًا في الثقافة المعاصرة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. كما أنه أوسعها تأثيرًا إذ تعدى الغرب عامة وبلغ الشرق، أدناه وأقصاه، عبر عدة قنوات منها الصدام الإمبريالي مبكرًا ثم التفاعل الثقافي والعولمة لاحقًا. ورغم موسوعية التناول الأكاديمي لدقائق هذه الحقبة، لفت زياد المرصفي – أستاذ الأدب المقارن بـ«الكلية الملكية بلندن» – الانتباه إلى مساحة بحثية لعلها لم تطرق قط.

في الجزء الأول من كتاب «قرآن التنوير: سياسة الترجمة وبناء الإسلام» (صادر عن منشورات وانوورلد، بالإنجليزية، عام 2009)، تناول المرصفي تاريخ ترجمة القرآن إلى اللغات الأوروبية، وأثر الخلفية الفكرية والتحيزات على هذه العملية، وقد تناولناه في تقرير سابق. في الجزء الثاني، الذي نتناوله هنا، يحاول المؤلف بيان أثر ترجمات القرآن هذه، على أربعة من أبرز أعلام القرنين السابع والثامن عشر: فولتير، وروسو، ونابليون، وجوته، كل في فصل مستقل.


فولتير: محمد وموسى، معارضة وتماهٍ

في أول الفصول الأربعة وأطولها، يعتمد المرصفي على رسائل وكتابات فولتير – فيلسوف التنوير الفرنسي الأهم، المتوفَّى عام 1778 – خاصة «مقاله عن أخلاق الأمم وروحها»، ونسخته من ترجمة جورج سيل للقرآن، للتدليل على تطور نظرته لرسول الإسلام إلى إعجاب أشبه بالتماهي، وهو نقيض ما توحي به مسرحية «محمد» التي ألّفها فولتير مبكرًا قبل أعوام قليلة من قراءة ترجمة سيل. فضلًا عن أن القصد من هذه المسرحية، وهي الاشتباك الأشهر بين الفيلسوف الفرنسي ورسول الإسلام، لم يكن مهاجمة الرسول لذاته، بل كانت نقدًا غير مباشر للتعصب الديني ومؤسسة الكنيسة، حتى أن جمهور باريس أدرك ذلك فقابلها بصيحات الاستهجان والاستنكار إلى أن أوقف عرضها.

تمثال فولتير، في معهد ومتحف فولتير،بسويسرا.
تمثال فولتير، في معهد ومتحف فولتير، بسويسرا.

لعبت ترجمة القرآن البديعة دورًا كبيرًا في تغيير موقف فولتير. لقد سعى بصدق إلى عرض صورة إيجابية للإسلام ورسوله، بلغت أحيانًا درجة الانحياز، إذ حذف من بعض الآيات القرآنية التي نقلها ما قد يساء فهمه. في الأغلب، كان هذا رد فعل على التصور الأوروبي المشوّه والمجحف لـ«رسول الترك» ودينه، لذا نجد أشد المقاطع المنقولة عن فولتير حدة هي التي تهاجم هذه الصورة. في إحدى مقالاته، يقول فولتير: «أكررها لكم، أيها الجهلة الحمقى، الذين أقنعهم جهلة آخرون بأن الدين المحمدي دين شهواني، هذ ليس صحيحًا. لقد خدعتم في هذه المسألة، تمامًا مثلما خدعتم في كثير غيرها».

ركّز المرصفي على المقابلة بين نظرة فولتير إلى المسلمين ونظرته إلى اليهود. كانت المقابلة – مثلما نقلها المرصفي – صادمة وحادة، إلى درجة استنكار فولتير لوضع اليهود مركزًا للسرديات التأريخية الأوروبية. وفي حين تتشابه نقطة البداية عند الفريقين إلى درجة كبيرة، لا يمكن مقارنة ما حقّقه اليهود – لفرط ضآلته – بما حققة المسلمون.

يرى فولتير لذلك ثلاثة أسباب رئيسية: أولًا، الاتكال اليهودي على المقدس في مقابل فعالية ونشاط المسلمين، وهو ما يتناص مع قول المقداد بن الأسود للرسول – صلى الله عليه وسلم – في سياق معركة بدر: «إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون»، بل نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون». ثانيًا، رفض اليهود التام لانتقال فرد جديد إلى جماعتهم إلا في حالات شديدة الندرة، في مقابل حرص المسلمين الصادق على جذب الأمم المهزومة إلى دينهم. أخيرًا، رهاب الاستعباد الذي يسيطر على علاقة اليهود بالأمم الأخرى، في مقابل إيمان المسلمين بأن الإله قدّر لهم الغلبة والنصر.

كذلك تناول المرصفي التباين بين نظرة فولتير السلبية للنبي موسى، وإعجابه وتقديره لرسول الإسلام. ويذهب المرصفي من بعض ما سبق وغيرها من النقاط التي أوردها، إلى أن إعجاب فولتير قد بلغ في بعض نواحيه درجة التماهي. إذ رأى فولتير في رسول الإسلام، عبر ترجمة سيل للقرآن والحواشي، مشرِّعًا ومصلحًا ورجل دولة وقائدًا فريدًا من نوعه، أتى لقومه بأفضل التشريعات الممكنة في عصره، وجمعهم في كيان صلب لأول مرة في تاريخهم، ونجح في توجيه حماستهم واستثمارها.


روسو ولغة المشرع

في بداية صادمة للفصل التالي، يخبرنا المرصفي بغياب أي دليل صريح على اطلاع جان جاك روسو – الأديب وفيلسوف السياسة الفرنسي، المتوفَّى عام 1878 – على أي من ترجمات القرآن. لكن الكاتب يعتمد على نصوص معاصريه للكشف عن تبدُّل صورة الإسلام ورسوله في المخيلة الأوروبية؛ الأمر الذي يعزوه إلى ترجمة كلود إتيان سافاري – المستشرق وعالم المصريات الفرنسي المتوفى 1788 – للقرآن إلى الفرنسية، وأثر ذلك على تصور المثقفين للمشرع ومكانة اللغة.

جان جاك روسو، بلاس دو بانثيون، باريس
تمثال جان جاك روسو، في ميدان بلاس دو بانثيون، بباريس.

لا تختلف صورة المشرع عند روسو كثيرًا عن النبي، بل كان الأنبياء في نظره هم نماذج تستحق الاحترام. كتب روسو في إحدى رسائله يقول: «فليبجّل كل منكم مؤسسي ديانته. فليمنحهم الجميع ما يستحقون، دون ازدراء للبقية. لقد كانوا عباقرة وفضلاء إلى حد بعيد». في الواقع، كانت هناك نظرة عامة تضفي على المشرع نوعًا من القداسة استنادًا إلى أن الإله ذاته كان هو المشرع الأعظم في أدبيات هذا القرن. علاوة على ذلك، أليس المشرع – عند روسو – مضطرًا إلى الاستناد إلى المقدس؟ فالمشرع الحقيقي لا يرضى اقتياد العامة بالقوة ولا يليق به مجادلتهم، فلا يبقى سوى اللوذ بسلطة أعلى. ولا يحاكم المشرع على نواياه، بل على نتائج سعيه، وتماسك وإحكام المنظومة التي أسسها.

أعجب روسو كثيرًا بالدولة التي أسّسها الرسول، لكنه انتقد اللين والجبن الذي أصاب المسلمين بعده، والانفصال الجزئي بين الدين والدولة. إلى جانب ذلك، كان التشابه بين روسو الفيلسوف ومحمد المشرع واضحًا، لاحظه معاصروه. حتى شبه أحدهم إحدى رحلاته بالهجرة المحمدية. في الواقع، لقد «فعل لهم روسو ما فعله موسى لليهود ومحمد للمسلمين، فكان هو النبي/ المشرع الذي صاغ لهم الهوية».

أخيرًا، تكمن قوة المشرع عند روسو ومعاصريه في اللغة البليغة، فهي أداته الأساسية، التي تدل موسيقاها وسحرها على مصدرها المقدس. يظهر ذلك واضحًا في قرآن المسلمين، الأكثر شبهًا بالموسيقى، مصدر جميع اللغات. حتى يقول روسو إن لسان المشرع الأمثل، البليغ، لا يكون إلا عربيًا أو فارسيًا. لا شك أنه قالها متمثلًا في ذهنه رسول الإسلام، إذ صار بين رجال القانون وفلاسفته آنذاك من يلقبونه بـ«مشرع العرب». ولا شك أن ترجمات القرآن الأخيرة إلى الفرنسية، خاصة ترجمة سافاري، لها الفضل الأول في ذلك.


سافاري، ونابليون، ومصر: رؤى النبوءة والغزو

يدرس سادس فصول الكتاب وأقصرها، تأثير ترجمة كلود سافاري للقرآن إلى الفرنسية، وكتاباته الاستشراقية عن مصر، مع معاصريه من مستشرقي فرنسا، على نابليون الأول – القائد والإمبراطور الفرنسي المتوفى عام 1821 – وحملته الإمبريالية على مصر. بالطبع، قدم سافاري الشرق في كتاباته بالصورة الأسطورية الجذابة التي ستلازم الاستشراق عقودًا وعقودًا، من صحراء ذهبية ونساء فاتنة ورجال قساة. لكن الصورة التي رسمها لرسول الإسلام كان لها التأثير الأكبر، إذ جاء الرسول فيها جامعًا بين النقيضين، مشرعًا عظيمًا كما رآه فولتير وروسو، ومتلاعبًا ماكرًا خدع قومه ليسوسهم. وبينما تناقل الكتاب تواضع الحياة التي عاشها رسول الإسلام، أسكنه سافاري قصرًا على جبل الصفا.

رسول الإسلام في نظر سافاري أحد عظماء التاريخ، ونموذج يحتذى به، ولد بمواهب لم تمنح إلا لقلة من البشر، فأجاد رسم طريقه نحو الزعامة والخلود، وسار فيه دون هفوة واحدة، فنال كل ما يرجوه. حتى نعيم الجنة في القرآن، زاد عليه سافاري في بعض المواطن بما يخلب لب القارئ صاحب المخيلة.

تمثال نابليون بونابرت، في الدائرة السابعة، بباريس.

قرأ نابليون هذا وذاك، فلم يسعه إلا التماهي مع هذا الشخص الاستثنائي، حتى قال إنه ما كان ليفعل إلا ما فعله محمد الرسول لو كان ولد في زمانه. دار ذلك في خلده وسكن نفسه وحدث به في رسائله إلى أصدقائه، أفليس هو الآخر – وهو النرجسي المختال – جديرًا بالمجد والزعامة والخلود؟ هكذا، ذهب نابليون إلى مصر سعيًا وراء المجد، ناهيك بما أسرَّه إلى إحدى نساء البلاط، عقب الحملة على مصر، عن تخيله نفسه يبتكر دينًا جديدًا، ويقود فيلا تجاه آسيا، على رأسه عمامة، وفي يده قرآنه الذي ألّفه.

يتتبع المرصفي بذكاء اختيارات سافاري في ترجمته للقرآن، وسرده الاستشراقي لوضع مصر العثمانية. ويراقب بونابرت في معاركه الأوروبية، وحملته الفاشلة على مصر، ومحاولته استخدام نصوص المسلمين للترويج لنفسه، لا كمسلم فقط، بل كمهدي منتظرٍ مقدرٍ له النصر والغلبة. كما يذكِّرنا أن نابليون هو صاحب القصة القصيرة المعنونة «النبي المقنع». كتبها نابليون في سنوات المراهقة، مستوحيًا سيرة المقنع الخراساني، مدعي النبوة في القرن الثاني من الهجرة.

هذا فصل شيق، ينضح بسخرية القدر، فيكفي لقاء النبي الفرنسي بقرينه العربي خلال حملته على سوريا. إذ قاتل هناك مهديًا آخر، هو محتال أيضًا، له جند وأتباع، يسعى إلى المجد التليد. لكنه فصل محكم كذلك، استطاع المرصفي فيه بيان أثر التصور الاستشراقي الجديد لرسول الإسلام والقرآن على القائد العسكري الطموح. حقًا، أصاب هنري لورنس، المؤرخ الفرنسي المعاصر، حين قال إن نابليون بونابرت لم يبتكر شيئًا جديدًا، وإنما قدم أفضل ترجمة ممكنة للاستشراق في عصره.


جوته: الشعر والنبوءة، من محمد إلى الأدب العالمي

نابليون بونابرت، باريس
نابليون بونابرت، باريس

أما الفصل الأخير، فيتتبع فيه المؤلف علاقة جوته – الأديب الألماني العظيم، المتوفَّى 1832 – المعقدة بالقرآن اعتمادًا على نسخه الخاصة من ترجمات القرآن المختلفة، إلى جانب ما كان متاحًا في زمنه. من البداية، يبدو جوته مختلفًا عمن سلف ذكرهم، لا شك أنه الأكثر اطلاعًا ومعرفة بالإسلام منذ سن مبكرة. الآيات القرآنية، من الترجمات المختلفة، والإشارات إليها، منتشرة في أكثر أعماله ورسائله. ومع ذلك، ظل جوته يتمنى أن يترجم ألماني هذا القرآن، من العربية مباشرة، في صحراء الشرق، تحت خيمة، لينقله بكامل سحره وبلاغته.

جوته، الدنمارك
تمثال جوته، في متحف تورفالدسون، بالدنمارك.

يرى المرصفي أن جوته هو الآخر شعر بالتماهي مع رسول الإسلام، لكن ليس مع المشرع أو رجل الدولة، بل مع الرجل البليغ ساحر البيان. لطالما شعر جوته بالحيرة بين النبوة بكلماتها الواضحة المباشرة والشعر متعدد المعاني والتأويلات. لكن رسول الإسلام استطاع الجمع بين النقيضين، فأنشأ عقيدة جماعية حول نص أشبه بالشعر منه بأي شيء آخر. كذلك كان لجوته أفكاره اللاهوتيه الخاصة، وخلال تأليفه مسرحية عن الرسول، أدرك الدرب المناسب. سيسلك جوته طريق الشعر لا النبوة. وقف كلاهما أمام مفترق الطرق ذاته، هنا كان الشبه بينهما، لكن كل سلك دربه، جامعًا بين الضدين بشكل ما.

في الإسلام وجد جوته الألماني مخرجًا من صدمة حرب الثلاثين عامًا، وتاريخ المسيحية العنيف. ومن الإسلام، استمد جوته تصوره للأدب العالمي. وفي قصة إبراهيم القرآنية، ورحلة بحثه عن الإله، عثر جوته على فرصة للانتقال من الولع بالكون والأفلاك إلى الولع بخالقها، حسب تحليل المرصفي.

يلفت المرصفي النظر إلى تأثير المكانة التي تتمتع بها العربية في الثقافة الإسلامية على إعلاء جوته من شأن الألمانية كرمز مهم للهوية الوطنية، وزعمه جدارتها بأن تصبح مركزًا لتلاقي الثقافات. كذلك شغلت فكرة الأدب العالمي مساحة كبيرة من اهتمام جوته، وهو ما لا سبيل إليه دون مترجم. هنا يستشهد جوته بالآية القرآنية: «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه»، ليعلن أن المترجم رسول هو الآخر. فالأدب هو الإنجيل الدنيوي، ومهمة المترجم إيصاله إلى جميع اللغات والأقوام. هذه مهمة دينية لا تقل قداسة عن مهمة الرسول. كما أن الترجمة تخلد الكاتب، من خلال الإحياء والاكتشاف المستمر لكتاباته في انتقالها بين اللغات والثقافات.

هذه فكرة تليق بنهاية كتاب يستكشف أثر ترجمة كتاب مقدس على مجتمعات جديدة، طامحة إلى التغيير، في نقطة فارقة من مسار التاريخ. في خاتمة كتابه، يمر المرصفي سريعًا على ترجمات القرآن التالية لعصر التنوير فيكشف عن هيمنة الموقف الدفاعي على الترجمات المعاصرة، ويطالب بمشروع ترجمة نقدية جماعية، مع دعوة إلى تخفيف التوتر الذي يثيره الحديث عن النقد النصي للكتب المقدسة.

كان الكتاب – كما وصفه المؤلف – سلسلة من اللقطات السريعة للتفاعل الديناميكي بين أوروبا عصر التنوير والعالم الإسلامي، اتسمت بالإمتاع والسلاسة، ولا شك أنها مهدت الطريق إلى مساحة بحثية ثرية لم تطرق من قبل.