الاستعباد، والاستغلال، وسلخ الهوية.. هذه بعض من الممارسات البشعة التي كشف عنها كتاب «عباد الله: المسلمون الأفارقة مستعبدون في الأمريكتين» للمؤرخة الفرنسية سيلفيان آي ضيوف. يعرض العمل فصلًا مما تعرض له الأفارقة المسلمون في الأمريكتين، والذين انتزعوا من وطنهم وأرضهم انتزاعًا ليشحنوا في السفن كأي متاع، بل أسوأ، إلى قارات العالم الجديد، من أجل تعميرها لإسعاد الرجل الأبيض المتغلب.

طال هؤلاء كافة صنوف العذاب، بداية من أسرهم في بلدانهم مرورًا برحلة النقل التي هي قطعة من العذاب الذي يدخل مرحلة أشد بشاعة عند بلوغ وجهة سارقهم وقاتلهم.. حيث يخوضون رحلة البقاء والثبات ضد عمليات الاستغلال والسلخ من الهوية خاصة الدينية التي طالت المسلمين من هؤلاء العبيد، نتيجة لمزايا وقوة تحلوا بها أخافت قاتلهم، الذي اهتز عرشه في كثير من الفترات نتيجة لتمردهم وقدرتهم التنظيمية والتعليمية التي تربوا عليها وورثوها في بلدانهم ومن دينهم.

التجويع والتخويف: هكذا تم استعباد الأفارقة

شهد القرن 16 بداية تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، سعت خلالها الدول الغربية إلى الحصول على العبيد من أفريقيا، استخدمت كافة الطرق المشروعة وغير المشروعة، أطلقت حملات للتخويف، فخطفت الرجال في الحقول والنساء في البيوت والأطفال من حول القرى، كما أقبلت على تدمير المحاصيل وحرق القرى لإجبار أهلها على القبول بالعبودية بدلًا من الموت جوعًا أو حرقًا.

ساعدها في هذا انعدام الأمن العام والصراعات السياسية والدينية التي اشتعلت في منطقة الساحل الذهبي (غانا حاليًا)، وممالك الهوسا (معظم نيجيريا الحالية)؛ والتي عملت الدول الغربية على تغذيتها وتزويد الأطراف المتصارعة بالسلاح، لتتمكن من حصاد السجناء كعبيد. بالفعل تمكنت تلك الدول من الحصول على العبيد، رغم أن كثيرًا منهم كانوا أسيادًا من المعلمين وقادة القبائل والعسكريين مالكي العبيد.

خلال رحلتهم إلى الأمريكيتين والدول الغربية، ذاقوا كافة أنواع العذاب بداية من التجويع والحشد في أماكن قذرة أسفل السفن التي تنقلهم وعدم السماح لهم بالاغتسال وصولًا إلى التهديد بالقتل والضرب بالسواط والكي لأي فرد يجرؤ على عصيان الأوامر.

بحلول عام 1503 كان العبيد الأفارقة من السنغال وغامبيا وغينيا ومالي ونيجيريا قد وصولوا بالفعل إلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي حيث الأميركتين. من بين هؤلاء العبيد، شكل المسلمون النسبة الأكبر، حيث قدرت أعدادهم بالمئات والآلاف خلال الفترة من 1500 إلى 1900م.

رغم أن السلطات الإسبانية حاولت بدافع الخوف حظر استجلاب المسلمين إلى الأمريكيتين، غير أنه بحلول القرنين 18 و19، حينما غدت مجتمعات العبيد هناك أكثر استقرارًا وأمانًا، كان بعض أصحاب المزارع يؤثرون العبيد المسلمين كونهم أكثر تميزًا وقوة، وقدرةً على التأثير بين العبيد.

في عالم معاد: الأفارقة المسلمون يتمسكون بدينهم

في تلك الأراضي الجديدة، كان من الضروري أن تصبح المسيحية الدين الأوحد، فالتبشير كان جزءًا كبيرًا من مبرر استعباد الأفارقة. خلال حملات التبشير هذه واجه مسلمو الغرب الأفريقي -كغيرهم من العبيد- عقبات كبيرة في الحفاظ على دينهم والتعبير عنه، وقد تعرضوا للاضطهاد المزدوج لكونهم عبيدًا بشكل عام ومسلمين بشكل خاص.

جرت محاولا عدة لإبعادهم عن دينهم وترسيخ سلطة أسياد المزارع عليهم، تمثلت أولى هذه المحاولات في تغير أسمائهم خاصة الأسماء الإسلامية، وكان الأسعد حظًا فيهم هم من كان اسمه الجديد على صلة بالقديم، مثل موسى الذي أصبح «موسيز»، وإبراهيم «أبراهام»، وتحول أيوب إلى «جاكوب» أو «جوب»، وسليمان إلى «سولومون».

استجاب لهذه المحاولات الأجيال الأولى من الأفارقة المجلوبين إلى أمريكا الشمالية على أمل أن يؤمن لهم ذلك التحول إلى مكانة اجتماعية رفيعة والتخلص من العبودية، أما في حالة الغرب أفريقيين الذين أُحضروا في أواخر القرن 17 وبواكير القرن 18 للعمل عبيدًا فكانوا أكثر تمسكًا بدينهم، وسعوا جاهدين للحفاظ عليه، حتى وإن كان ذلك في الخفاء.

فقد حافظوا على صلواتهم، وصاموا رمضان، وحرصوا على إخراج الزكاة رغم أن ما يتلقونه من أموال كان ضئيلًا، وامتنعوا كذلك عن أكل وشرب المحرمات رغم عمليات التجويع وقلة الطعام التي عانوها، كما أنشؤوا المدارس الإسلامية السرية، وعمدوا إلى محو أمية أطفالهم وتعليمهم قواعد دينهم.

لم يكن نجاح المسلمين في التمسك بدينهم وهويتهم دليلاً على أن العبودية في الأمريكتين كانت متساهلة إلى حد ما ويمكن استيعابها، وإنما راجع إلى قوة عقيدتهم ومهاراتهم التنظيمية وقدرتهم على الاستفادة من التناقضات والتصدعات في نظام العبيد لمصلحتهم، الأمر الذي مكنهم بالنهاية من إنشاء تشكيل مجتمعات قوية تساعدهم في الحفاظ على دينهم وهويتهم.

يرجع ذلك أيضًا إلى خلفيتهم الثقافية والاجتماعية والتعليم الذي تلقوه في أفريقيا، فالكثير منهم كانوا من المتعلمين تعليمًا عاليًا، حتى إن معدل معرفة القراءة والكتابة بين هؤلاء العبيد كان أعلى منه بين أسيادهم، مما ساعدهم على القيادة والتأثير بين العبيد، فضلًا عن الصعود إلى أعلى التسلسل الهرمي بين العبيد.

في الثورة والنضال ضد العبودية

أسهمت تلك المهارات القيادية والقدرة على التأثير، في قيادة المسلمين لتمرد العبيد وثوراتهم ضد العبودية في مختلف أنحاء الأمريكيتين. ظهر ذلك جليًا عام 1522، حينما نظم المسلمون من السنغال أول انتفاضة للأفارقة المستعبدين في العالم الجديد.

في ذلك العام ثار نحو 20 من العبيد العاملين بمزارع السكر للأدميرال دون دييغو كولون (ابن كريستوفر كولومبوس)، أعلنوا التمرد، وأخذوا في ذبح الإسبان. وعلى إثر ذلك التمرد أصدرت إسبانيا في العقود الخمسة التالية خمسة مراسم تحظر استجلاب العبيد المسلمين.

وبدءًا من هذا العام، كان المسلمون في طليعة النضال من أجل حرية العبيد في جميع أنحاء الأمريكتين. أشعلوا العديد من الثورات في المكسيك عام 1523 وكوبا عام 1529 وغواتيمالا عام 1627 وتشيلي في 1647 وفلوريدا 1830-1840 وباهيا في البرازيل عام 1835 والتي كانت أكبر ثورة للعبيد في الأمريكيتين وأكثرها تنظيمًا.

كانت قيادة ثورة باهيا بأيدي شيوخ الهاوسا، لكن السلطات علمت بالمحاولة قبل ساعات معدودة، فتحركت على الفور وقامت بإجراءات أمنية مشددة، من مداهمة البيوت واعتقال الأفارقة المسلمين الرقيق منهم والأحرار، مع قطع الطرقات على الثوار المسلمين القادمين من القرى المجاورة للمساهمة في الثورة، فانتشر الرعب الشديد في نفوس السكان المحليين والأوروبيين نتيجة لمستوى تنظيمها وبعدها الديني، وبعد إخماد الثورة وتشتيتها والقضاء عليها، صدرت الأحكام في حق 286 رجلًا و24 امرأة ما بين الإعدام والأعمال الشاقة والسجن والجلد.

خلال هذه الثورة وغيرها لم يقد الأفارقة المسلمون فقط، بل كانوا قادة النضال من أجل الحرية لجميع العبيد، واستخدموا في هذا اللغة العربية كلغة تواصل سرية. ورغم فشل معظم هذه الثورات وسحق قيادتها بأبشع الطرق كالحرق والإلقاء في الزيت المغلي، لم يوقفهم ذلك عن الاستمرار في مسارهم، وبالفعل شاركوا في ثورة 1791 في سانت دومينغو والتي أدت إلى استقلال هايتي عام 1804.

ختامًا، بالرغم من مسيرتهم في النضال ضد العبودية ومحاولتهم التمسك بدينهم، فالإسلام الذي جلبه هؤلاء الأفارقة لم يبق كما هو. ففي الأمريكيتين ومنطقة البحر الكاريبي اليوم، لا يوجد مجتمع واحد يمارس الإسلام كما مرت عليه الأجيال الأفريقية السابقة.

وقد جاء هذا الانقطاع في المقام الأول من عدم قدرة العبيد المسلمين على ترسيخ دينهم في الأجيال الجديدة نتيجة زيادة الضغط عليهم للتحول إلى المسيحية، والقمع الذي تعرضوا له، فضلًا عن صعوبة الاتصال بالعالم الإسلامي، وعدم وجود دعم قوي أو مدارس مناسبة لتعليم هذا الدين، حتى وصل الأمر بالنهاية إلى جهل بعض أحفاد المسلمين المستعبدين بأن أجدادهم كانوا مسلمين!

المراجع
  1. Diouf, Sylviane A. Servants of Allah: African Muslims Enslaved in the Americas. NYU Press, 1998.