في مطلع شباب المخرج البولندي «جيرزي سكوليموفيسكي – Jerzy Skolimowski»، شاهد فيلم «au hasard Balthazar» للمخرج الفرنسي روبير بريسون. كان فيلم عشوائية بالتزار مقتبس من رواية (الأبله) لدوستويفسكي، به شخصية (الحمار) محورية في كثير من مسار الأحداث؛ إذ ينتقل الأخير من ملكية شخص/مكان إلى آخر، ويُعامل خلال معظمها بقسوة شديدة.

رغم التقشُّف التعبيري عند بريسون، تأثر جيرزي برؤية الفيلم الفريدة، فوجئ ودموعه تسبقه في آخر الفيلم، اقتحمته فكرة الكيفية التي يتلاعب بها المخرج مع مشاهديه، حينما يضعهم في مزاج مُحدد. رغم مرور السنوات، كانت ذكرى فيلم بريسون هي المُحرك الأساسي لفيلم eo، الذي عُرض حديثاً ضمن أفلام النسخة 44 من مهرجان القاهرة السينمائي، قسم العروض الخاصة.

أثناء مراحل الكتابة الأولية، لم يكن سكوليموفسكي قد حدد بعد كيف ستنظر الكاميرا إلى المُشاهدين بعين حيوان، كان يريد أن يصنع فيلماً من الجهة الأخرى، يختبر خلاله تجربة مغايرة على أرض اعتاد البشر احتكارها، أو بتعبير أكثر دقة، وقع البشر في فخ الشعور بالمركزية والأفضلية النوعية.

جاءت فكرة بطولة الحمار مؤخراً، بعد التقدم في الكتابة الذهنية قليلاً، حينما استعاد جيرزي، صدمة المُشاهدة الأولى لفيلم بريسون.

العالم بعين مختلفة

تمتلك (كاسندرا) حِماراً جميلاً في إحدى القُرى ببولندا، يتبين منذ مطلع الفيلم خصوصية العلاقة بينهما. كون الحِمار كحيوان أقل درجة من الصنف البشري هي نقطة مُجهَّلة، لأن إظهار العلاقة بين كاسندرا وeo حضر متجاوزًا التراتبية النوعية، تم تجريد كل طرف منهما من تلك الحيثيات النوعية، وبدت خصوصية التواصل المُتدفق بينهما مسألة كونية.

مثل حلم متداخل وطويل، مُتعدد الرؤى، تفقد كاسندرا حِمارها نتيجة احتجاجات على التعامل غير الآدمي مع مُختلف الحيوانات في السيرك، يخوض إيو رحلة طويلة مُفعمة بشجن التجارب الثرية، والتي تُشبهنا، من حيث أوليَّة الأدوات، ونجد معها مساحة حيوية من الاشتباك والتفهُّم والقدرة على النفاذ إلى ما وراء ظاهريات القصة.

وقتما يفترق إيو عن كاسندرا، تتراجع هي من أسبقيَّتها البشرية كطرف درامي مُعتاد أساسيَّته، وتصبح مسيرة إيو مفعمة بالتساؤل المُجرَّد، بعيداً عن السياق الجماعي، إذ تبدو رحلته وتفاعله الثري رغم قلَّته يمثلان نظرة ذاتية ومتأملة، على المستوى الشعوري تحديداً، لهذه الرحلة.

من فيلم EO

يحوم حول استقلالية إيو سؤال بديهي، وهو كيفية إيجاد مشترك تعبيري بين مُشاهد الفيلم وبين الحِمار، دون أن يخرج الطرفان عن الخصوصية في التبادل. اعتمد جيرزي على شريط الصوت كمادة أساسية، يمكنها أن تمتد وتعكس دواخل الحِمار. لا يعمل شريط الصوت هنا كمادة جانبية لتعزيز التعبير، لكنه ينفرد بحضور أساسي، يُشكِّل الحكاية، ويُشكِّل تطوراتها داخل إيو، وربما يمتد ذلك العنصر المركزي و يدفعنا إلى النظر إلى العالم بعين إيو، والبدء في التقاط توليفة عاطفية من خلاله هو.

التجربة الخلَّاقة

حينما يتحارب البشرُ مع بعضهم، فإن الطبيعة تُحارب ذاتها.
تيرانس مالك

بينما تسير مع تجربة إيو، وأمام الشاشة التي لا تُخرجه ظاهرياً عن مفرداته الشخصية، تجد نفسك متورطاً فجأة، في كثير من المشاعر والتنقلات والأحداث التي تشاهدها. تتسم مسيرة إيو بالتقاطع مع المسار الإنساني المُعاصر، ورغم التنقل المتبادل بين الحب والكراهية، الأنس والاغتراب، ثم الانتهاء إلى مجهول يتمثل في طريق طويل وسط مجموعة أبقار، مع  نذير صوتي ودلالي للموت، تقف فجأة أمام هذه الحكاية، وتُدرك أن الحمار لا يسير وحده ناحية الهاوية، بل هي مآلات عالم كامل.

يحضر ظل البشر في الفيلم كتماثلات لأفكار ما، وهي حركة عكسية تُبدِّل الدور المعتاد بين الحيوان والإنسان في السينما، لأننا اعتدنا وجود (الحيوان الداعم) لصاحبه دائماً، الذي يجد تعريفاته من خلال التراتبية والملكية لطرف آخر. في الفيلم، تُنزع الملكية منذ البدء، وتتدفق الأفكار متمثلة في جميع الأطراف دون سيادة.

في سياق ممُاثل، تخرج أفعال القسوة التي يتعرض لها إيو عن محدودية السياق العاطفي، هناك انفتاح على القسوة والعنف كمفاهيم كونية تُهدد العالم ولا يُمكنها أن تسقط بالتقادم. القسوة تجاه إيو تذكرنا بأنفسنا، بالعنف المفرط، جماعياً وفردياً، الذي يتشبَّع به العالم كل يوم على مُختلف الأصعدة.

جاءت هذه التماثلات، بالتوازي مع الجمالية النافذة لشريط الصوت، مُفعمة بالثراء في الصورة. يحتاجُ عالم إيو أن ننظر إليه بشكل مُختلف، بعينه هو، وذلك ما حاول الفيلم تقديمه تحديداً. ينتقل إيو في معظم المشاهد خلال عدَّة قُرى في بولندا، ويأتي بلوغه المدينة مُتعلقاً دائماً بالتيه، بالانتقال من حدث إلى آخر مُغاير تماماً، إضافةً إلى ارتباط المدينة دائماً بخطر يحوم حول إيو.

مثلما تبتلعه المدينة، وتُنذر بالخطر القريب، يلفظه الريف أيضاً. في أحد مشاهد الفيلم الطويلة حينما يصل إيو إلى الغابة، نرى مُختلف كائنات الغابة، خلال دلالات ثرية لأولية عين الحيوان من الأساس، أي نرى هذه الكائنات ببؤر واسعة، بعيونهم هم، جواراً إلى عين إيو.

من فيلم EO

تعملُ الكاميرا على مستوى الربط والتوليف في خلق أبعاد أكثر – أساسية وليست إضافية فقط – لمُختلف مشاهد الفيلم. نرى أحياناً العالم المُحيط  بنظرة إيو البدائية، مشاهد واسعة ورؤية مُحيطة تُحاكى المعايير العلمية لنظر الحِمار، وفي مشاهد أخرى تتحول الكاميرا ناظرة إلى الحمار نفسه، ليس بعينه وإنما بعين بشرية، قريبة، تحاول فهم ذلك الكائن المقولب في أطر مُحددة منذ زمن.

أن نرى العالم بعين حِمار، وأن نراه هو بعيوننا نحن، كانت فكرة مركزية خلال مرحلة كتابة الفيلم الأولية، اعتمد السيناريو بشكل مبدئي على دراسات عن آليات عمل رأس الحمار، حدود تفكيره، كيف يتفاعل مع الأشياء، وما هي مدلولات نظراته، وانعكاسات انفعالاته العاطفية تجاه الأشياء.

خارج المسار

في عام 1933، صدرت النسخة الأولى من فيلم king kong، وكانت آنذاك أولى محاولات السينما الأمريكية لدخول (كائنات أُخرى) ضمن الأفلام التي تعتمد أساساً على البشر، في مراحل  الصناعة والتطوير وحتى المُشاهد الذي يتعاطى مع الفيلم. كانت فكرة الفيلم وليدة الظرف الأدبي وكتابات الفانتازيا، إذ انحسرت في استغلال المساحة البيولوجية وميزة الحضارة لدى البشر أمام بدائية الكائن الآخر (الوحش)، لذلك ارتبطت علاقة الغوريلا في الفيلم بالتخريب.

بحكم القدرة على الترويج واحتكار أسواق التوزيع، تكررت نفس نُسخة الفيلم في 1976، 2005، 2017، بنفس السياق الحكائي، اكتشاف غوريلا في مكان بعيد، ودخولها في مساحة البشر لتخريبها.

تطورت هذه الثيمة في أفلام أخرى، لكن من نواحٍ عاطفية بحتة. هناك الكلب المُخلص، البطل التراجيدي والرفيق الأخير لويل سميث في فيلم I legend، حيث عالم موبوء بكائنات بشرية مُتحولة بفعل فيروس خبيث، لم يجد روبرت نيفل في وحدته الكبيرة سوى رفقة الكلب، ووقوف الاثنين في مُحاولة إنقاذ العالم.

نقطة الصعود الأخرى يمكن التعبير عنها من حكاية فيلم (life of pi). يحاول باي النجاة وهو في عرض البحر، على زورق صغير، بصحبة نمر بنغالي، كانت تطورات العلاقة بين باي ورفيقه، أحد الأُسس التي شكَّلت تغيرات رحلة النجاة في حياة البشر، ومع أن (الكائن الآخر) يظل مادة تطعيمية ليتعلَّم الإنسان درساً جديداً في الحياة، أو يُثقل بتجربة فارقة، لكن ثراء التعاطي العاطفي بين باي ورفيقه النمر كان طليعياً في كسر قولبة الحيوان في السينما.

يمكننا كذلك استعادة أيقونة المُخرج ديفيد لينش (the elephant man) الذي يحكي عن قصة حقيقية لشخص مُصاب بتشوهات ضخمة في جسده ووجهه. حينما ولد Joseph Merrick في أواخر القرن التاسع عشر، اكتسب صفة (الرجل الفيل) لأن الناس آمنوا أن والدته نظرت إلى فيل وهي في مرحلة حملها، وهذه عادة خُرافية منوطة بمجتمعات أوائل الحضارة، مثلما يذكر كتاب (التاريخ الثقافي للقباحة).

تحرَّك فيلم الرجل الفيل خلال سياق أكثر عمقاً في هذه الناحية، إذ انشغل بجحيمية أن ينتقل البشري إلى صفة (كائن آخر)، لذلك كان الاقتباس من حكاية حقيقية مناسباً في توريط المشاهد كي يقف أمام كارثية الخروج عن رفاهية النوع البشري.

جاء فيلم إيو لينتقل بهذه التطورات إلى مساحة مُختلفة تماماً، وهي أن نتجاهل بديهية كل هذه السياقات، بعيداً عن (نحن) و (هم)، وكذلك بعيداً عن أي تفضيل أو تراتبية. هناك إيمان شديد في الفيلم بأن كل حكاية لها ثراؤها الخاص، طالما تنطلق من تتبُّع ما وراء ظاهرها، حتى لو كانت حكاية حِمار مع تقلبات الحياة.

لم ينغلق فيلم إيو على نفسه، على حكاية الحِمار فقط، والتي كانت ستظل أيضاً حكاية جميلة وغريبة وثرية. انفتح الفيلم على كل أشكال (الآخر)، فيما يتعلق بالكائنات، بالعوالم، وكيف نشترك في نفس الشعور، على اختلاف تكوُّنات ذلك، وبالتالي بدت الحكاية نموذجاً ذكياً لقراءة عامة وشاملة.