الإنجاز الجديد ليس فلتة من خارج السياق، إنما قمة جديدة لتراكم طويل من تطور مجال البيولوجيا الجزيئية، وأحد أهم اختصاصاته سبر أغوار مادتنا الوراثية، ووحدتها البنائية الوظيفية وهي الجينات، والتي يتحكم بها ماضي أسلافنا، في حاضرنا ومستقبلنا.

ومن أهم تطبيقات علوم الجينات، ما يمس صحة الإنسان في الصميم. فليس بمستغرب أن أصبح العلاج بالجينات الآن، تطبيقًا مُلحًّا في معظم الفروع الطبية. سنراه هنا يفتح أفقًا جديدًا لطب التجميل، ويشطب أسماءً جديدة من قائمة الحالات المستعصية التي كنا ندمغها بالختم المرعب … ختم (ميئوس منه) …


وما أدراك ما الجلد!

الجلد، الجلدية، طب، صحة، زرع الجلد، الحروق
مقطع توضيحي مرسوم لطبقات جلد الإنسان

الفتى حسن، لاجئ سوري في عمر الزهور. ابتُلي بنوعٍ خطير من مرض وراثي، سببه اختلال جيني نادر. اسم المرض باللاتينية Epidermolysis Bullosa، ومعناه الانسلاخ التلقائي لطبقة الجلد السطحية مكونًا فقاقيع، لا تلبث أن تنفصل، مخلِّفةً قرحًا والتهابات.

ولأن الجلد أكبر عضو في جسم الإنسان، فلا مفر من استعارة بعض الأسطر من علم وظائف الأعضاء تأكيدًا على تفرده، وإظهارًا لقيمة الإنجاز الطبي في حالة الطفل حسن.

الجلد عضو حيوي للغاية، تستحيل الحياة بدونه. يغطي الجلد كل مليميتر مربع من سطح أجسامنا، وتثبته في مكانه أنسجة ضامة قوية.

يمثل الجلد خط الدفاع الأول الذي يتلقى عن لباب الإنسان مليارات الضربات اليومية من الشمس، والإشعاعات الكونية، والبكتيريا، والفيروسات، والأتربة، والغبار، والأسطح الحادة، ….إلخ.

كذلك يحفظ الجلد أجسامنا من تسرب الماء والحرارة، في حين يرطبها بالعرق عند ارتفاعها. يمنحنا الجلد ألواننا عبر خلايا الملانين، وهويتَنا عبر بصمات الأصابع، ويستخدمه جهاز مناعتنا كساحة متقدمة لحصار وتدمير الميكروبات الغازية. كما يختزن تحته الاحتياطي الإستراتيجي من طاقتنا الفائضة على هيئة دهون depot fat.

وكل ما سبق هو غيضٌ من فيض.

حتى وقت قريب، كان يكفي أن يتعرض المرء لحرق متقدم يتلف ربع جلده، حتى تصبح حياته على المحك، ويصبح فريسة سائغة للموت بالجفاف، أو بتلوث بكتيري شديد بالدم، أو كليهما وهو الأرجح.


في البدء كانت الجينات

نعود إلى الطفل حسن ومرضه الوراثي النادر، الذي يجعل مساحات من سطح جلده تتفكك من قواعدها لأقل ضغط. مجرد الاحتكاك بالحائط أثناء مشيه، أو اصطدام يد أمه الحنون بجسمه وهي تُلبسُه ملابسه قد يكفي لتكوُّن الفقاقيع، وكأن جلده سجادة تتثنَّى على بلاط أملس.

على المستوى متناهي الصغر، تشبه الجيناتُ المخططاتِ الكروكية التي يرسمها المهندسون، ليشرعوا في البناء على أساسها. فإذا لم يكن المخطط متقنًا، سيكون البناء سيئًا. تتخلق بروتينات الجسم على أساس الجينات. وبنية خلايا أجسامنا ووظائفها قائمة على البروتينات؛ أنسجة عضلاتنا، النواقل العصبية بالمخ، الهرمونات، الإنزيمات، ….إلخ، كل شيء مكون كليًا أو جزئيًا من البروتينات.

جذر مشكلة حسن هو اختلال غير محدد السبب في جين LAMB3، المسئول عن إنتاج بروتين اللامينين – 332 الذي يثبت الطبقة السطحية من الجلد، بالطبقة العميقة، فيتحمل الصدمات دون انسلاخ.

كان طرف الخيط ظهورُ فقاعة جلدية غريبة بظهر حسن في أسبوعه الأول. في بعض الحالات لا تظهر أعراض المرض إلا في الطفولة المتقدمة أو بعد البلوغ. للأسف، لم يكن حسن من هؤلاء. ولذا عندما فرَّ أهله من سوريا منتصف عام 2015، وهو بالسابعة، كانت الحالة قد تفاقمت بشدة، وأصبحت مساحات مؤثرة (حوالي 60%) من سطح جسمه منسلخة، تتقاسمها قرح نازفة، وخراريج مكتظة بالميكروبات.

في يونيو 2015، حُجز حسن بقسم الحروق المتقدمة بمشفىً ألماني. فحالته الآن شبيهة بمن ابتلعته النيران في قلبها. حاول الأطباء مقاومة التلوث البكتيري الذي يغزو جروح حسن، والاهتمام بحالته الصحية العامة والنفسية والغذائية.

للأسف، استمرت حالته في التدهور، واستمر فقد مساحات جديدة من جلده، حتى انسلخ ما يقارب ٨٠٪ من مساحة سطح جسمه الغض، خاصة البطن والظهر والفخذيْن وحتى الوجه. وأصبحت آلام الفتى فوق احتمال أكثر البشر جلَدًا.

حاول الأطباء الألمان زرع مساحات من الجلد بجسم حسن تبرَّع بها والده. للأسف فشلت المحاولة، لرفض جهاز المناعة لها باعتبارها أجسامًا غريبة. أوشك الأطباء أن يتوقفوا عن القيام بالمزيد من التدخلات العلاجية، وبدء التعامل مع حسن كحالةٍ ميئوس منها، ليس بالإمكان سوى منحها احتضارًا هادئًا، بتسكين الآلام، وبوجود الأهل والأحباب حوله دائمًا؛ من أجل الوداع الأخير الذي قد يحل في أية لحظة.

كيف إذن تناقلت وسائل الإعلام العالمية في الأيام الماضية، صورة حسن وهو يلعب الكرة، ويبدو كأيّ طفلٍ في التاسعة؟!

الصورة التي تداولتها وسائل الإعلام لحسن وهو يلعب كطفلٍ طبيعي


لا يفل الجينات إلا الجينات

حسن، الطفل السوري، زراعة الجلد، الصحة، الطب، الجلدية، الجلد، العلاج الجيني
حسن، الطفل السوري، زراعة الجلد، الصحة، الطب، الجلدية، الجلد، العلاج الجيني

زرع الجلد لتغطية ما فُقد منه هو جزء أساسي من جراحات التجميل منذ سنواتٍ. تقليديًا، يتم الحصول على الرقعات من نفس الشخص، من أماكن كالفخذين مثلًا لأنها غير ظاهرة، ولوجود فائض من الجلد، لقابليتها للشد والارتخاء مع زيادة الوزن أو نقصه. سيتقبل الجسم الرقعة لأنها من نفس الشخص، وما يلبث الجزء مكان الرقعة الأصلي أن يلتئم بالغيار الجيد عليه منعًا للتلوث.

لكن يصلح هذا مع مساحات محدودة، أنىَّ لنا برقعات لتغطية خمس أو ربع أو نصف أو ٨٠٪ من السطح ؟!

الإجابة: سنستزرعها جينيًا، ثم نزرعها!

منذ سنوات، لا يتوقف الحديث عن الخلايا الجذعية stem cells؛ وهي الخلايا الأم التي تتكون منها كل أنواع خلايانا بتمايزاتها المختلفة. عندما يلقح الحيوان المنوي البويضة، ويتكون الجنين من خلية تنقسم لاثنين لأربعة لثمانية لـ ١٦ … إلخ، هذه الخلايا الأولية قادرة مع استمرار الانقسام والتشكل أن تنتج في النهاية خلية كبدية، أو خلية منتجة أو هادمة للعظام، أو كريّة دموية بواسطة خلايا جذعية وسيطة أكثر تخصصًا، يُنتج بعضها كريَّات الدم، وبعضها جدران الأمعاء، وأخرى خلايا الجلد .. إلخ.

يعتمد العلاج بالخلايا الجذعية على الحصول عليها من المريض، أو من يتوافق معه من الأقارب، وتنميتها معمليًا لتنتج المزيد من الخلايا المستهدفة.

للأسف، تحمل خلايا جلد حسن جميعها العيب الجيني الخطير، ولذا فاستخدامها بحالتها في التكاثر المعملي لإنتاج رقعات من جلده سيكون حرثًا في البحر.

هنا قال العلاج الجيني كلمته، وجاء طوق نجاة حسن من جامعة مودينا بإيطاليا.


كيف فعلها دي لوكا؟

توّج الباحث الإيطالي ستيفن دي لوكا – المسئول عن مركز متخصص في استخدامات العلاج الجيني في طب التجميل بجامعة مودينا الإيطالية – جهده في حالة حسن، وسنواتٍ عديدة قبلها، بالورقة العلمية التي نشرها في 8 نوفمبر الحالي بمجلة Nature المرموقة، ليسجل في تاريخ البحث العلمي لأول مرة نجاح استزراع جلد سليم يغطي 80% من جسم مريض.

رغم بعض العقبات البيروقراطية والتمويلية، نجح الرجل بالتعاون من عديد من الباحثين والمراكز، على مدار سنوات، في القيام باستزراعات وزراعات ناجحة لمساحات من الجلد في عدد من المرضى مستخدمًا التقنيات الجينية، ومنهم مصابون بحالة حسن، لكن حالته كانت الاختبار الأكبر.

استنجد أطباء حسن الألمان بالبروفسور دي لوكا بعد أن أعيتْهم السُّبُل. طلب الرجل عينات من بقايا الجلد غير المنسلخ من حسن.

قام دي لوكا وفريقه باستخدام فيروس لغزو خلايا جلد حسن الجذعية في العينات، حمَّلوا مادته الوراثية قبلها بنسخ سليمة من الجين LAMB3 التالف بخلايا حسن. كما هو معروف، يدمج الفيروس مادته الوراثية في مادة الخلية المستهدفة، وهكذا أصبح لدينا خلايا من جلد حسن، تحتوي مادتها الوراثية نسخة مصحَّحة من جين LAMB3.

تم استزراع رقع عديدة من الخلايا المعدلة. وتم إجراء عمليتيْن أواخر 2015 لزرعها في أماكن مختلفة من جسم حسن. بعد النجاح الأولي، زُرع المزيد في باقي المناطق التالفة أوائل 2016.

تحسَّنت حالة حسن بشكل مبهر، وخرج من مشفاه الألماني في فبراير 2016. وعلى مدار عام كامل، تم متابعة نمو الرقعات المزروعة، والحالة العامة لحسن. وبعد سنةٍ كاملة، تم عرض حالة حسن أمام الباحثين بمركز د.دي لوكا، وقد نمتْ الرقعات بشكل تام حتى كادت تماثل الجلد الطبيعي.

آثار باهتة متناثرة بقيت من أثر الجروح القديمة. سوى ذلك، أصبح حسن باطنًا وظاهرًا، كأي طفلٍ طبيعي. وزاد وزنه أضعافًا، بعد أن وصل في قمة تدهوره إلى 17 كجم فقط (وزن طفل في الثالثة من عمره). و يعتقد دي لوكا أن حالة جلد حسن ستحافظ على عافيتها مستقبلًا، كمريضه الذي عالجه بطريقة مشابهة منذ 12 عامًا.

لا يخلو الأمر من عوائق. فالتكلفة هائلة (تتجاوز 100 ألف دولار للمريض الواحد)، كما يزيد العلاج الجيني نسبيًا احتمالات حدوث السرطانات. لكن لا يقلل هذا من قيمة الفتوحات المستمرة للعلاج الجيني، والتي قد تغير وجه حياتنا البشرية تمامًا خلال عقودٍ قليلة.