«لا نشعر بانتماء إلى ذلك المجتمع، نشعر بأن المجتمع يلفظنا ولا نستطيع بأن نتفاعل معه أو أن نقبله». كل تلك المقولات وغيرها التي من الممكن أن تكون قد سمعتها من أحد أصدقائك أو تلك التي ترددت كثيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي بين الشباب خاصة بعد ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، قد يفسرها البعض على أنها جزء من حالة الإحباط التي تسيطر على الشباب بعد الثورة وما وصل إليه الأمر في مصر حاليًا، ولكن هل يكون الإحباط عرضًا لمشكلة أكبر؟.


الهوية والاغتراب

ما بين الهوية الإسلامية للدولة وهويتها المدنية العلمانية وتلك الفترة من الاختلافات والصراعات على شكل الدولة بعد ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، غابت «هوية الأفراد» عن تحليلات الكثير من السياسيين والأكاديميين. فكيف يعرف كل فرد نفسه وكيف يرى هويته وانتماءاته؟، وكيف تتغير تلك الهوية مع مرور الوقت؟.

كل تلك الأسئلة التي تشير إلى مفهوم الهوية الفردية، أو الهوية الشخصية وغيرها من الأسئلة، من المهم أن تتم الإجابة عنها باعتبارها لا تقل أهمية عن هويات الأمم والدول.

وتعرف الهوية الشخصية على أنها المفهوم الذي يطوره كل فرد عن ذاته خلال المراحل العمرية التي يمر بها، وقد يتدخل في تحديدها عوامل ليس للفرد دخل بها مثل الجنسية التي يحملها ولون بشرته، ولكن يظل هناك جانب كبير من الهوية الشخصية يشكلها الفرد من خلال اختياراته مثل تغيير الشخص لديانته التي ولد بها، أو تحديد هويته الجنسية وغيرها.

وتأتي حالة عدم الفهم تلك لشعور الفرد بأنه ليس جزءًا من المجتمع أو أن هويته الشخصية لا تندمج مع هوية المجتمع.

وتشكل الهوية الشخصية جزءًا مهمًا من شعور الفرد بالانتماء إلى مجتمعه أو لا، ومن هنا يظهر مفهوم جديد وهو مفهوم الاغتراب؛ حيث يعتبر بشكل عام نتيجة لترك أحد الأفراد لبلده وسفره إلى بلد أخرى للعيش بها، وبشكل خاص يعني انعدام العلاقات الحميمية مع الناس، أو عدم فهم الإنسان لما يجري بداخله وحوله في المجتمع ومن ثم عدم التخطيط لحياته المستقبلية وعزوفه عن المشاركة في قضايا مجتمعه.

وهناك عدة مستويات للاغتراب وضعها الفليسوف الألماني كارل ماركس –وفقًا لوجهة نظره- والتي اعتمدت على تفسير اقتصادي قائم على فكرة صراع الطبقات. فيرى ماركس أن الإنسان يغترب عن عمله في المجتمع الرأسمالي لأنه يبيعه، ويغترب الإنسان عن طبيعة عمله نفسها، حيث أنه في المجتمع البرجوازي يصبح شكلاً من أشكال السُخرة. ويغترب الإنسان عن الآخرين لأن جوهر العلاقات الاجتماعية في النظام الرأسمالي هو التنافس. بينما يرى إريك فروم أن الاغتراب إحدى التجارب التي يعيش فيها الشخص كغريب، عندما لا يبقى مركزًا لعالمه وخالقًا لأفعاله، وتصبح أفعاله هي التي تسيره ويطيعها.


الشباب والثورة والاغتراب

صعب أنك تبقى بتفكر بشكل منهجي عندك رؤية لكل حاجة معتنق أفكار تقدمية فيما يتعلق بالنساء والمعتقد والفكر في ظل مجتمع تكون فيه العشوائية سيدة الموقف.
أحمد سليمان، باحث وأحد الشباب المشاركين بثورة 25 يناير 2011

عزف العديد من الشباب المصري عن المشاركة في أي شيء يخص مستقبل الوطن خاصة فيما يخص سياساته، إلى جانب حالات من الانفراد والعزلة التي يفرضها هؤلاء الشباب على نفسهم، حيث اقتناعهم بأن المجتمع لا يمثلهم ولا يستطيعون التفاعل معه.

تقول ريهام حسين: «ساعات بحس فعلا إني مش جزء من أي شيء، مش بس المجتمع يعني. أنا مش عارفة أتقبل قواعد المجتمع ولا النمط اللي بيفرضه علينا، وفي نفس الوقت معنديش الشجاعة الكافية للأسف اللي تخليني أقاوم على طول الخط. وده شيء مبيظهرش طول ما إنت في دايرة من الأشخاص والمعارف إلى حد ما شبهك وفي بينكم حاجات مشتركة؛ لأنك بتكون مش محتاج تبرر معاهم أو تحارب وسطهم، ده بيظهر وبحدة مع أول محاولة مع العالم بره الدايرة دي».

بينما يُعبر أحمد سليمان عن حالته: «ليس لدي القدرة على الاندماج في المجتمع لوجود فوارق ثقافية واجتماعية وأخلاقية عن السائد في المجتمع، وبتغلَّب على هذا من خلال الاندماج مع مجموعة من الأشخاص تتشابه وتتماثل اهتماماتنا. وفي حالة عدم توافر الفرص للقاء بلجأ إلى الانزواء بغرفتي مع كتبي وأفلامي».

يبدو أنها ليست حالة إحباط أو تأثر بالواقع الذي وصلت إليه الثورة، وإنما هو الإحساس بالاغتراب وسط المجتمع.

ويبدو أنها ليست حالة إحباط أو تأثر بالواقع الذي وصلت إليه الثورة، وإنما هو الإحساس بالاغتراب وسط المجتمع، فيشعر كثير من الشباب بأن أفكارهم ورغباتهم لم تعد تتماشى مع أفكار ورغبات المجتمع، وهنا تحدث حالة الاغتراب نتيجة اختلاف هويات هؤلاء الشباب عن هوية المجتمع. وإلى حد كبير فقد انتشرت تلك الظاهرة بعد الثورة عندما أتيح للعديد من الشباب التفكير خارج إطار المجتمع والاطلاع على معارف جديدة، واعتناق أفكار أكثر تقدمية وتحررية عن تلك التي يعتنقها المجتمع.

ويمكن أن يتم تحليل ذلك من خلال ما قدمه عالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون في نظريته عن الاغتراب والتكيف بأن هناك عدة أوجه لتكيف الشخص مع اغترابه سواء كانت سلبية أو إيجابية، فهناك:

– الانعزال: وهي عملية للهروب الجزئي من الأشياء التي لا يستطيع الفرد أن يتعامل معها ويتقبلها.

– الانسحاب: عملية الهروب الكلي من المجتمع وعدم الانتماء إليه أو التفاعل معه.

– الثورة: عملية الاعتراض على الواقع وتغيره.

ووفقًا لأوجه التكيف التي عرضها مريتون، فيبدو أن الشباب المصري بعد الثورة يقع في مرحلتي الانعزال والانسحاب ولم يفكر في عملية الثورة على الواقع وتغيره، وقد يرجع ذلك إلى الإحباط الذي واجهه بعد عدم قدرته على تغيير الواقع السياسي، فيضيف أحمد سليمان «بدأت أشعر بالاغتراب مع الثورة التي غيرت هويتي وجعلتني أكثر راديكالية على المستوى الأيديولوجي والمعرفي، ثم واجهت انهزامي وانكساري الشخصي مع انكسار الثورة والتي كنت أحد قياداتها بالمنصورة، وعدم قدرتي علي صياغة بديل للثورة».


المجتمعات الموازية في مصر

ظهر مفهوم «المجتمعات الموازية» ليفسر حالة مجتمعات المهاجرين. وقد تمت صياغة المصطلح عام 2003 من قبل العالم الألماني توماس ماير، حيث وضع خمسة عناصر يجب أن تتوفر في المجتمع حتى يصبح مجتمعًا موازيًا وهي: التجانس العرقي والديني، الفصل الاجتماعي والاقتصادي، وعدم التفاعل مع مؤسسات الدولة الرسمية.

وقد أرجع الباحثون حالة المجتمعات الموازية إلى عدم قدرة المهاجرين على الاندماج في المجتمعات الجديدة ورغبتهم في الحفاظ على موروثهم من العادات والتقاليد الخاصة بهم.

يمكن إسقاط تلك الحالة على مجتمعات الشباب بعد الثورة خاصة، فقد ظهرت العديد من المجتمعات الموازية التي يلجأ إليها الشباب من أجل الحفاظ على أفكارهم وطريقة حياتهم.

إلا أنه يمكن إسقاط تلك الحالة على مجتمعات الشباب بعد الثورة خاصة، فقد ظهرت العديد من المجتمعات الموازية التي يلجأ إليها الشباب من أجل الحفاظ على أفكارهم وطريقة حياتهم بعيدًا عن قمع الدولة والمجتمع. ومن أشهر تلك المجتمعات ما يُعرف بـ «مجتمع وسط البلد»، ذلك المجتمع الذي تدخل إليه فتشعر بحالة من الانفصال عن المجتمع الخارجي المحيط به، يلجأ إليه الشباب ليتحرروا من قيود المجتمع وليجدوا متنفسًا لهم للتعبير عن أفكارهم ومعتقداتهم وهوياتهم المختلفة سواء كانت جنسية أو دينية أو سياسية، فتصبح وسيلة وحالة من الانفصال والانعزال عن واقع المجتمع، إلا أنه ما زال كثيرون من أعضاء ذلك المجتمع مهتمين بالشأن السياسي محاولين أن يحدثوا به ولو جزءًا بسيطًا من التغيير، وممكن أن يرجع ذلك إلى وجود الكثير من المراكز الحقوقية والبحثية في تلك المنطقة.

هي ليست حالة إحباط فحسب، بل هي حالة من العزلة التي تتأرجح ما بين الكلية والجزئية. حالة عزلة تعود إلى عدم الإحساس بأن هوياتهم أصبحت تتماشى مع الهوية الكبرى في المجتمع وأنهم جزء منه.

يجب أن ندرك أننا لن ننجز أي شيء في سيبل الوطن إذا لم نهتم بهويات الأفراد الشخصية، ونحاول أن ندمجهم مع المجتمع.

المراجع
  1. Nadezda Gorchakova. University of Helsinki The concept of Parallel Societies and its use in the immigration andmulticulturalism discourse