تشارلز تايلور فيلسوف كندي ولد في مونتريال بكندا في الخامس من نوفمبر 1931 من أب أنجلوفوني وأم فرنكوفونية. هو أستاذ سابق في الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة ماكغيل الكندية بين عامي 1961 و1997. درس في نفس الجامعة وحاز إجازة في التاريخ عام 1952، وفي عام 1955 توجّه إلى أكسفورد فنال منها إجازة في العلوم السياسية والفلسفة والاقتصاد، والدكتوراه في الفلسفة عام 1961.

تأثر فكره بمذاهب فلسفية شتى، منها الفلسفة التحليلية والظاهراتية وعلم التأويل والفلسفة الأخلاقية والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والسياسة والتاريخ. وعينته حكومة إقليم كيبيك مع عالم الاجتماع جيرار بوشار عام 2007 رئيسين للجنة الاستشارية الخاصة بممارسات التكيف المتصلة بالاختلافات الثقافية.

من أهم أعمال تايلور «مصادر الأنا: تكوّن الهوية الحديثة» عام 1989، و«الحرية الحديثة» عام 1999، والكتاب الذي بين أيدينا «أخلاقيات الأصالة» عام 2005، و«عصر علماني» عام 2007.

نُشر كتاب «أخلاقيات الحداثة» للمرة الأولى في كندا عام 1991 تحت عنوان «علل الحداثة» والذي كان عبارة عن توسعة لمجموعة محاضرات ألقاها في جامعة ماسّاي، وكان يقوم فيه بتطوير بعض أطروحاته في «مصادر الأنا»، ولم يُترجم الكتاب إلى العربية حتى الآن.

يقدّم تايلور في الكتاب رؤية قصيرة وحادة وثاقبة ضد كلا المعارضين والمؤيدين للحضارة الغربية الحديثة، ويقدّم -في 120 صفحة من القطع الصغير، وعشرة فصول قصيرة لا يتجاوز الفصل الواحد العشرين صفحة- العديد من التأملات ووجهات النظر المفيدة عن الواقع المعاصر.


علل ثلاثة

يتحدث تايلور في الفصل الأول عن علل ثلاثة تتسم بها الحداثة؛ وهي انتقادات منتشرة لكنها – بحسبه – غير مفهومة بشكل جيد: «الفردانية المتطرفة»، و«سيادة العقل الأداتي»، و«الاستبداد الناعم».

كانتالفردانية الحديثة أحد أكبر منجزات العصر الحديث، إذ أعطت للإنسان حق تقرير مصيره وشكل حياته. إلا أن هذه الحرية الحديثة قد نشأت من خلال كسر العديد من الأنظمة الأخلاقية القديمة التي كانت تسمح للإنسان بأن ينظر لنفسه باعتباره جزءًا من سلسلة وجود طويلة من الملائكة والمخلوقات الغيبية والأرضية. أدى تدمير هذه الأنظمة إلى «فك سحر العالم»، وأصبح الإنسان يعاني من حالة من فقدان الشغف. يتمثل الجانب المظلم للفردانية في تمركز الإنسان حول ذاته مما يؤدي إلى تسطيح الحياة وتضييقها، وجعلها أفقر من ناحية المعنى، وأقل اهتمامًا بالآخرين والمجتمع.

العلة الثانية للحداثة بحسب تايلور هي «سيادة العقل الأداتي» الذي يتم فيه حساب كل شيء من ناحية المنفعة الاقتصادية، ويتمثل مقياس النجاح فيها في تحقيق الكفاءة القصوى والناتج ذي التكلفة الأفضل. ونتيجة تدمير الأنظمة القديمة أصبح المجتمع وترتيباته خاضعًا للتعديل لأجل سعادة الإنسان ورخائه، بما في ذلك المخلوقات الموجودة حولنا، بعد أن فقدت موقعها في سلسلة الوجود.

تتمظهر هذه العلة في صور شتى، من بينها عدم حساسية الإنسان تجاه البيئة، وفي الهالة المعطاة للتقنية الحديثة واعتبارها مصدر حل جميع المشكلات والحط من قيمة كل شيء غير تقني كما في مجال الرعاية الطبية، إذ يتم النظر إلى المرض باعتباره خللًا فنيًا، ولا يتم التعامل مع المريض باعتباره قصةً كاملة، ومن ثم يرتفع شأن الأخصائيين ذوي المعرفة التقنية العالية وتهون مساهمات الممرضات ممن لا يملكن معرفة تقنية، لكنهن يتعاملن مع المريض باعتباره إنسانًا.

ولا يعني ذلك في رأي تايلور أن البشر يفعلون هذه الأشياء بشكل لا إرادي نتيجة العصر الحديث، بل قد يكونون على وعي كامل بمخاطر العقل الأداتي على الإنسانية، إلا أن المؤسسة القوية للحياة تجبرهم على اختيارات يكرهونها. ويرى تايلور أن الحل لا يكمن كما افترض المنظرون الأوائل كماركس وفيبر في القضاء على السوق أو الدولة، بل إنه لا زال هناك هامش حرية للبشر يمكنهم العمل من خلاله.

العلة الثالثة التي يتحدث عنها تايلور هي «الاستبداد الناعم» الناشئ عن العلتين السابقتين؛ إذ إن مؤسسات وبنى المجتمع الصناعي التقني تقيّد اختياراتنا، وتدفعنا لاختيارات مدمرة، وينسحب الضغط كذلك على نمط الحياة الشخصية، كأن تمنع بعض المدن نتيجة تخطيطها الحديث من الحياة دون امتلاك سيارة خاصة. وبذلك، ينسحق الإنسان داخل ذاته، ويرفض تجمل مشاق الحكم العام والمشاركة في تسيير الشئون العامة، مقابل التمتع بإشباع الرغبات الخاصة، وتُدار الحياة من قبل «سلطة وصاية كبرى».

فـ «الفرادنية» فقدان للمعنى، و«سيادة العقل الأداتي» فقدان للغايات، و«الاستبداد الناعم» فقدان للحرية.


الجدال العاجز ومصادر الأصالة

ويدّعي تايلور في الفصل الثاني أن الحالة التي ينتقدها المحافظون في الثقافة المعاصرة من النسبية أو الذاتية المتطرفة (التي ترى أن كل ما يختاره شخص ما لنفسه من قيم وأهداف وأسلوب حياة هو صحيح في حالته، ولا يحق لأحد الاعتراض عليه أو تقييمه، وأن فعل ذلك هو تعدٍ على حريته) هي في الأساس إفساد لأخلاقيات (أو مثال) الأصالة. والمثال لدى تايلور هو تصور لنمط أعلى وأفضل للعيش، بالمعنى المعياري الحقيقي. تم هذا الإفساد نتيجة حط نقاد الثقافة المعاصرة من شأنه نتيجة تمظهراته المنحرفة، وكذلك نتيجة عجز المؤيدين لإيمانهم بالذاتية والليبرالية الحيادية.

يرفض تايلور كلا الموقفين، ويرى أن هناك حاجة لإحياء مثال الأصالة، ويؤكد على أن (1) الأصالة مثالٌ صالح، و(2) أنه يمكن مناقشة المثل والأخلاق بالعقل وكذلك مدى مطابقة الأفعال لها (مما يصطدم مع ثقافة الذاتية والنسبية المتطرفة) و(3) أن هذه النقاشات قد تؤدي إلى نتائج ملموسة (مما يصطدم مع التأويلات التي تعتبر أن الإنسان المعاصر مقيدٌ في قفص «النظام» سواء كان الرأسمالية أو القومية أو النظام العالمي أو أي شيء آخر).


مصادر الأصالة

يحاول تايلور في الفصل الثالث تتبع مثال الأصالة ونشأته في الفكر الفلسفي، فيشير إلى أنه من مفاهيم القرن الثامن عشر ونشأ في الفترة الرومانسية معتمدًا على ذاتية ديكارت وفردانية لوك السياسية. وفي النظرية الأخلاقية، نشأ المفهوم من نظرية الحس الأخلاقي الداخلي، التي تعتبر أن بداخل البشر صوتًا يدلهم على الخير والشر. نشأ مثال الأصالة من خلال «إزاحة التشديد الأخلاقي» في هذه النظرية؛ فبدلًا من التركيز على فكرة معرفة الخير والشر، يصبح التشديد الأخلاقي على ضرورة اكتساب هذا الصوت الداخلي كي نصبح بشرًا.

يعتبر تايلور أن جان جاك روسو هو المعبر الأبرز عن حالة الإزاحة هذه، إذ يتحدث مرارًا عن ضرورة الاستماع لصوت الطبيعة داخلنا، وأن خلاص الروح الحقيقي يكمن في استعادة التواصل الأخلاقي الأصيل مع أنفسنا. وبعد روسو، كان هردر هو التطور الأبرز للتعبير عن مفهوم الأصالة، إذ أشار إلى أن لكل فرد طريقته الخاصة في الحياة، ولكل شخص معيارًا خاصًا به؛ وهي الفكرة التي تجذرت في الوعي الحديث. فلا يمكن لأي فرد أن يجد نمط حياته خارج ذاته من خلال تقليد حياة أحدٍ آخر، بل يجده فقط داخله. وهذه الأفكار هي التي خلقت مثال الأصالة الحديث، وأهداف تحقيق الذات وخلافه.


آفاق لا مفر منها واعتراف مطلوب

يحاول تايلور بعد ذلك نقد الأشكال النرجسية من ثقافة الأصالة (أي الذاتية والنسبية المتطرفة) من داخلها. فيحاول أن يجد حدودًا خارجية يتم فيها تحديد الأخلاقية من عدمها بعوامل غير مجرد الاختيار الإنساني. فيتساءل عن الظروف الضرورية لتحقيق مثال الأصالة.

يشير تايلور إلى أن تحقق مثال الأصالة يتم من خلال الطبيعة الحوارية للحياة؛ فهوياتنا تتشكل من خلال اهتمامنا بآخرين «مهمين» لدينا ومن خلال تفاعلنا معهم. ويؤكد على أن وضع الإنسان لهدف تحقيق ذاته دون النظر إلى احتياجات ومتطلبات علاقاته بالآخرين، وكذلك متطلبات أشياء أخرى تتجاوز مجرد الرغبات والطموحات الفردية، هو أمرٌ يبوء بالفشل في النهاية، بل ويؤدي إلى نتائج عكسية.

تتطلب الأصالة من كل شخص أن يحدد سماتٍ خاصة به، إلا أن هذه السمات يجب أن تكون ذات أهمية. ويؤكد تايلور أن هذه الأهمية لا يمكن أن تُمنح للشيء بشكل تحكمي تبعًا فقط لرغبة الإنسان، بل يجب أن تُمنح بناءً على خلفية ما؛ ثقافية أو دينية أو أي شيء آخر. هذه الخلفية هي ما يسميها تايلور بـ «الأفق».

وينطلق تايلور بعد ذلك مشيرًا إلى أن الهوية تتشكل في جزء منها – في خضم هذه الطبيعة الحوارية – من خلال الاعتراف بها أو تغييبها. وفي حالة تغييبها، يعاني الفرد الشعور بالاضطهاد والقمع. فالاعتراف حاجة أساسية لتقدير الإنسان لذاته ورفاهيته وقدرته على التصرف بحرية في المجتمع.

ويشير تايلور إلى أن المجتمعات الافتراضية المعاصرة تقضي على مفاهيم الولاء والتضامن، وبالتالي على الاعتراف. كان الاعتراف في المجتمعات التقليدية مرتبطًا بموقع الفرد في التراتب الاجتماعي، أما في العالم الحديث فالاعتراف لا يُمنح إلا لمن يحقق الأصالة. وفي ضوء مثال الأصالة هذا، لا تكون العلاقات الأداتية التي فرضتها المجتمعات الافتراضية مفيدة، بل وتكون مدمرة أيضًا، وتصبح أهداف تحقيق الذات الناشئة عنها مجرد أوهام.


انزلاق نحو الذاتية، لكن فليستمر النضال

يحاول تايلور في الفصول الأخيرة الحديث عن الصور المنحرفة من الأصالة التي تؤدي إلى انتشار الذرية الاجتماعية، وتحوّل العلاقات الاجتماعية إلى علاقات أداتية محضة.

يعترف تايلور أن مثال الأصالة في ذاته يحمل أسبابًا كامنةً فيه تسهّل الانزلاق إلى هذه الصور المنحرفة. فالنزعة الرومانسية التي انبثق عنها ترى في الالتزام الأخلاقي صورةً من الإجبار الاجتماعي، وأن الأصالة هي صراع دائم ضد القواعد.

ويتحدث تايلور أن الحل يكمن في موازنة تطرف هذه العناصر التي تؤدي إلى الانزلاق (كالإبداع، والبحث عن الأصالة الذاتية، ومعارضة الأعراف بما فيها الأخلاقيات) من خلال الانفتاح على آفاق الأهمية التي تحدّث عنها قبل ذلك، ومن خلال تعريف المرء لذاته عبر الحوار مع الآخرين.

لكن على الرغم من كون هذا التناقض واحتمالية الانزلاق كامنًا في مثال الأصالة، إلا أن ذلك لا يعني ضرورة التخلي عنه، إذ إنه لا يزال صالحًا، ويجب أن نستمر في النضال من أجله. فالحضارة الغربية الآن في خضم الصراع بين حرية زائدة وأخرى مقيدة، لكن ما زال هناك أملٌ في بقية العالم الغربي.