التبعية والاستقلال تبدوان للدارس والقارئ وكأنهما من الأدبيات السياسية والاقتصادية والثقافية الحاكمة للعالم والتي ارتبطت بمفهوم المرحلة الاستعمارية والهيمنة الغربية، إلا أن هذا المقال يحاول تسليط الضوء على التاريخ الاقتصادي الأوروبي من الاستعمار إلى السقوط في عباءة الهيمنة الأمريكية، من أجل فهم مسألة الحركة السياسية والاقتصادية والدورة التاريخية غير المغلقة التي عاصرتها القارة الأوروبية وخاصًة بعد انقلاب الموازيين بعد الحربيين العالميتين الأولى والثانية والانتقال من الدب الأوروبي المستعمر إلى الامبراطورية الأمريكية المهيمنة.


الحقبة الاقتصادية الأولى: وهمية التقدم الاقتصادي الأوروبي قبل الحرب العالمية الأولى

على الرغم من الثورة الفكرية التي عاشتها أوروبا والحضارة الغربية خلال القرون الثلاثة التي سبقت القرن العشرين، إلا أن هذا التطور والثورة الفكرية كانا مرتبطان بأكثر المراحل الأوروبية عنصرية واحتقارًا للآخر، والتي تمثلت في الاستعمار العنصري ونهب ثروات الشعوب الأخرى واستعبادها، هذه الحالة الفكرية والعملية دفعت أوروبا إلى تطور اقتصادي وتقني هائل وكبير نتيجة لنهب ثروات الشعوب والعالم الآخر، حيث وصفت هذه الحالة من التقدم بالفقاعة الوهمية، حيث نتج عنها أطماع وصراعات أوروبية داخلية سواء على مستوى العالم تمثل في السباق على المستعمرات أو على المستوى الأوروبي تمثل في الحرب العالمية الأولى والثانية، هاتان الحربان اللتان أجهزتا على القوة الأوروبية بشكل كبير وفتحتا الباب أمام القوة الأمريكية الماردة والهائلة للسيطرة على مقاليد الأمور في العالم وإخضاع الدب الأوروبي لمصالحها.

لم يكن التدخل الأوروبي في أفريقيا تدخلًا من أجل الهيمنة على العقول، بل كان تدخلًا عسكريًا استعماريًا باهظ الثمن، وهنا يجب الفصل بين تعريف الهيمنة والاستعمار، فقد عرف «كوامي نكروما» الاستعمار بأنه ضم بلاد أو دولة لدولة أخرى، واستخدام تلك الدولة لقوتها الصناعية الفائقة في إخضاع شعب آخر واستغلاله اقتصاديًا، فالاستعمار هو السياسة التي بها توثق أو تقيد الدولة الأم ذات القوة الاستعمارية مستعمراتها، وتربطها بذاتها بروابط سياسية من أجل تحقيق غرض جوهري وهو ترضية مصالحها الاقتصادية، هذا وقد عرف «الدكتور محمد عوض» الاستعمار بأنه مجموعة الأعمال التي من شأنها السيطرة أو بسط النفوذ بواسطة دولة أو جماعة منظمة من الناس على مساحة من الأرض لم تكن تابعة، وبالتالي فإن الاستعمار هو سياسة السيطرة على الأرض والسكان في آن واحد، وهو عكس الهيمنة التي تسعى إلى اغتيال العقول وتطويع سياسات بعينها ذات نتائج محددة في الهيكل الإداري لدولة ما مهيمن عليها.

وتعد السياسة الاستعمارية الأوروبية هي المنشئ الطبيعي للصراع الداخلي في القارة الأوروبية، ولم ينحصر الصراع في ذلك الوقت على النزاعات الكلامية أو التهديدات الكلامية بل امتد الصراع إلى سباق في التسلح ثم سباق على المستعمرات ثم حربيين متتاليتين أعقبهما خسارة سياسية واقتصادية كبيرة لأوروبا، وهو ما يجعل من تقدمها التقني والاقتصادي كالفقاعة تزداد كمًا بازدياد الكفاءة العسكرية في فرض السيطرة على مستعمرات ودول أخرى وشعوب أخرى، ومع انفلات الصراع الأوروبي الداخلي، أصبحت السياسة الأوروبية الاستعمارية سياسة متهالكة، وبذلك وصفت الحقبة الأوروبية السيادية على العالم بالفقاعة الوهمية، حيث أن التقدم الاقتصادي الأوروبي خلال تلك الحقبة كان مرتبطًا بثروات المستعمرات وهنا فقد اقتصادها ذاتيته.

وفي هذا السياق قال الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون بعد الحرب العالمية الأولى في صيف عام 1916م واصفًا الصراع الأوروبي الداخلي «أن بريطانيا تمتلك العالم وألمانيا تريده»، وكان ذلك إشارًة منه لضرورة البحث عن مكانة الولايات المتحدة الأمريكية وسط الأطراف الأوروبية المتهالكة إثر الحرب. وكان تحليله ذلك تحولاً تاريخياً في الحياة الاقتصادية الأمريكية ومسارها الفعلي نحو الهيمنة على مقاليد الأمور في العالم بعد أن كانت إمكانياتها الاقتصادية العظيمة مكبوتةً قبل حرب عام 1914م بفعل نظامها السياسي غير الفعال ونظامها المالي المختل وصراعاتها العمالية والعرقية العنيفة، وأضاف أن أمريكا كانت مثالًا للفساد المدني وسوء الإدارة والسياسات المدفوعة بالجشع، بالإضافة إلى النمو والإنتاج والربح، وكان ويلسون يبحث عن السيادة الأمريكية في ظل التهاوي الأوروبي بعد الحربين العالميتين، فهل كانت أوروبا نافذة الولايات المتحدة الأمريكية للهيمنة على العالم؟!

الإجابة على مثل هذا التساؤل تحتاج إلى سرد قصة الهيمنة الأمريكية بطريقة غير تقليدية؛ وبالتالي لا بد من تناول نمط الاقتصاد العالمي أثناء الحرب العالمية الأولى وعواقبها. وهي الحقبة التي شكّلت تاريخًا جديدًا للقرن العشرين؛ هو قرن السيطرة الأمريكية، الذي لم يبدأ بعد الحرب العالمية الثانية، وإنما منذ عام 1916م، والذي تخطى فيه إنتاج الولايات المتحدة إنتاج الإمبراطورية البريطانية بأكملها.


الحقبة الاقتصادية الثانية: صعود الاقتصاد الأمريكي على حساب أوروبا

تعتبر الولايات المتحدة منذ أواخر القرن التاسع عشر القوة الصناعية الأولى في العالم، حيث سجلت في عام 1913م إجمالي ناتج داخلي للفرد يفوق بنحو 30 % ناتج الفرد في بريطانيا التي كانت تعد أغنى البلدان الأوروبية، وبعد انتهاء الحرب العالمية انقضت الولايات المتحدة الأمريكية على الاقتصاد العالمي وارتفاع الدولار الأمريكي، مع انهيار أوروبا التي دمرها النزاع لتنتهي فجأة عقود من السيطرة الأوروبية على العالم، لكن النزعة الانعزالية الأمريكية أسهمت في بقاء أوروبا المصرفي الرئيسي في العالم مع ما يترافق ذلك من قوة سياسية.

أثناء الحرب العالمية الأولى بدأ ميزان القوى الاقتصادية في الميل بوضوح من ناحية أوروبا إلى ناحية أمريكا، فلم تستطِع الدول المشاركة في الحرب تحمل تكاليفها أكثر من ذلك، ولجأت ألمانيا بعد عزلها عن التجارة العالمية إلى الحصار الدفاعي مركِّزةً هجماتها على الأعداء الضعفاء مثل رومانيا. أما الحلفاء، وبخاصة بريطانيا، فقد انشغلوا تمامًا في تجهيز قواتهم العسكرية بطلباتٍ حربية حتى تعدى طلبها على المعدات العسكرية مثيله عند الولايات المتحدة الأمريكية؛ ففي عام 1916م اشترت بريطانيا أكثر من رُبع محركات أسطولها الجوي الجديد، وأكثر من نصف ذخيرتها من الرصاص وأكثر من ثُلثي استهلاكها من الحبوب وكل استهلاكها من البترول تقريبًا من موردين أجانب، على رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية. كما دفعت بريطانيا وفرنسا مقابل هذه المشتريات بإصدار المزيد من السندات للولايات المتحدة الأمريكية بالدولار وليس بالجنيه الاسترليني أو الفرانك، وبنهاية عام 1916م كان المستثمرون الأمريكيون قد راهنوا بملياري دولارًا على فوز التحالف الدولي، وفي سلسلة من الخطوات الثابتة كانت الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى شراء ما تبقى من أوروبا بعد الحرب.

أدت كمية المشتريات المذهلة هذه إلى ما يشبه الحشد للحرب ليست العسكرية في الأصل بل الحرب الصناعية داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فحوّلت المصانع الأمريكية خطوط إنتاجها من الصناعات المدنية إلى الصناعات العسكرية، وتم حشد المزارعون الأمريكيون لزيادة إنتاجهم الزراعي لتوفير الطعام والأنسجة لإطعام مقاتلي أوروبا وتوفير كسائهم، في ظل صمت سياسي من قبل الحكومة الأمريكية ولم تبادر بالوقوف في صف أحد الأطراف ووضعت المشهد في دائرة صامتة تعبر عن حربٍ أوروبية فحسب، وأراد الرئيس ويلسون البقاء بعيدًا عن الحرب تمامًا، وكان يفضل تحقيق الانتصار الاقتصادي دون الانتصار العسكري، ويخشى أن الارتباط الشديد ببريطانيا وفرنسا قد يحجّم الخيارات أمام الولايات المتحدة الأمريكية وتصبح سياسته الخارجية جريح.

وخسرت القوى الأوروبية في النزاع معظم احتياطاتها من الذهب لمصلحة الأمريكيين بالنسبة للحلفاء أو البلدان المحايدة بالنسبة للإمبراطوريات الوسطى، وبين 1913م و1919م ضاعفت الولايات المتحدة مخزوناتها من المعدن الثمين، وكانت تملك 40 % من الذهب العالمي بعد الخروج من الحرب، ليرتفع ذلك إلى 50 % في العام 1923م، ومن الجدير بالذكر قد عانت فرنسا اقتصاديًا أكثر من بقية أطراف الحرب العالمية الأولى باستثناء بلجيكا؛ فقد دمّرت الحرب والاحتلال الألماني المنطقة الصناعية بالجزء الشمالي الشرقي بها في عام 1914م، ومات ملايين الشباب أو أصيب الملايين منهم بالعجز. وكانت الدولة فوق كل ذلك غارقةً في الديون، تدين للولايات المتحدة بمليارات الدولارات ولبريطانيا بمليارات الجنيهات. وما لبثت إلا أن زاد وضعها الاقتصادي بعد أن تنصلت روسيا من ديونها الخارجية بعد ثورة 1917م حيث كانت حصيلة الديون الفرنسية هدية من فرنسا لروسيا دعماً لها أثناء الحرب.

يقول المؤرخ والخبير الاقتصادي الفرنسي أوليفيه فيرتاغ: «ما من شك قطعًا أن الحرب العالمية الأولى بتغييرها النهائي لتوزيع الاحتياطات المعدنية كانت السبب في التفوق العالمي للعملة الأمريكية الذي طبع كل القرن العشرين مشيرًا إلى أن أوروبا انتقلت بين 1914م و1919م من موقع الدائن لبقية العالم إلى موقع المدين».

وسياسة ويلسون التي تدعو للسلام أثناء الحرب العالمية الأولى تعرضت للهجوم الشديد آنذاك وكان على رأسهم ثيودور روزفلت؛ المعارض الجمهوري الذي كان يشكو من تقاعس إدارة ويلسون وتفوهها بالتفاهات والتربح من التجارة الأوروبية بينما تسيل دماء الأوروبيين دفاعًا عن المُثُل التي يؤمنون بها والدفاع عن كيانهم ومكانتهم العالمية. أما ويلسون فكانت رؤيته مختلفة؛ فبدلاً من انضمام الولايات المتحدة لصراع القوى الإمبريالية المتنافسة، يمكنها استغلال قوتها الناشئة لإخضاع تلك القوى لسيطرتها، فكان أول رجل دولة أمريكي يدرك أن الولايات المتحدة قد أصبحت قوةً تختلف عمّا سواها وتمارس سلطةً على المسائل المالية والأمنية للدول الكبرى الأخرى. كان ويلسون يأمل في توجيه هذه القوة الناشئة نحو فرض سلامٍ دائمٍ، إلا أن أخطاءه وأخطاء خلفائه تسببت في فشل هذا المشروع وفي بعض الأحداث الكارثية التي أدت إلى الكساد الكبير وازدهار الفاشية وحربٍ عالميةٍ ثانيةٍ أكثر سوءًا من سابقتها.

ولكن مخطط ويلسون في تجنب الصراع وكفايته بدوره كوسيط للسلام، لم يأتي بثماره، فبعد وفاة 128 أمريكي كانوا على متن سفينة الركاب (RMS Lusitania) الأمريكية في 7يونيو 1915م بعد ضربها من القوات الألمانية كان لا مفر له من الدخول في الصراع وإن كان بشكل محدود فيما يعرف بـحرب الغواصات، ولكن كان الدخول الأمريكي محسومًا فهي المنتصر منذ اللحظة الأولى.

وفى هذا الصدد يقول الدكتور جاد محمد طه أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة عين شمس:«الولايات المتحدة اشتركت في الحرب متأخرة في عام 1917 ودخلت بكل قوتها بعد ان تخلخلت القوي المشاركة في الحرب بمعني أنها اشتركت لتجني ثمار النصر». وأوضح أستاذ التاريخ:«أن الولايات المتحدة خرجت من الحرب قوة عظمي لا توازيها قوى أخرى، خاصة بعد مؤتمر الصلح الذي لم يكن للصلح وإنما كان للمنتصرين لتقسيم الغنائم لافتًا النظر إلى أن الولايات المتحدة بعد مؤتمر الصلح أصبحت قوي كبري بسبب الخلل الاقتصادي والسياسي الذي أصاب باقي القوى الأوروبية».

أمريكا كانت تتمتع بعدة مزايا قبل دخولها في الحرب العالمية الأولى والتي تمثلت في القوى الطبيعية والبشرية والاقتصادية مما جعلها أحد الأقطاب العالمية في العالم بعد استغلال هذه القوى الاستغلال الأمثل كل هذا كان حصيلة التفوق الأمريكي المطلق بعد الحرب العالمية الأولي فهذا التفوق لم يأتي من فراغ. ولكن ذلك لم يفلتها من العقاب الاقتصادي، وسيادة الكساد العظيم، وهنا يكمن السؤال في كيف استفادت الإدارة الأمريكية من الكساد العظيم وتوجيه سهامه للدول الأوروبية لبسط هيمنتها؟!


الحقبة الاقتصادية الثالثة: الكساد العظيم وتصدير الأزمة لأوروبا

ثم بعد ذلك تعرض العالم إلى أزمة كبيرة وحادة تسمى بـالكساد الكبير أو الانهيار الكبير Great Depression وهي أزمة اقتصادية في عام 1929م ومرورا بالثلاثينيات وبداية الأربعينيات، وتعتبر أكبر وأشهر الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين ويضرب بها المثل لما قد يحدث في القرن الواحد والعشرين وما مدى سوء الأزمة التي قد تحدث وقد بدأت الأزمة بأمريكا ويقول المؤرخون أنها بدأت مع انهيار سوق الأسهم الأمريكية في 29 أكتوبر 1929م والمسمى بالثلاثاء الأسود. وكان تأثير الأزمة مدمراً على كل الدول تقريباً الفقيرة منها والغنية، وانخفضت التجارة العالمية ما بين النصف والثلثين، كما انخفض متوسط دخل الفرد وعائدات الضرائب والأسعار والأرباح. وكان أكثر المتأثرين بالأزمة هي المدن الصناعية وخاصة المعتمدة على الصناعات الثقيلة كما توقفت أعمال البناء تقريباً في معظم الدول، كما تأثر المزارعون بهبوط أسعار المحاصيل بحوالي 60% من قيمتها، وكانت هذه الأزمة بمثابة الصاعقة للإدارة الاقتصادية في الداخل الأمريكي.

وكانت أهم ملامح الكساد العظيم الاقتصادية، تعرّض الولايات المتحدة لركودٍ اقتصادي ضخم بعد حالة الانتعاش الاقتصادي، فالاقتصاد الأمريكي في عام 1929م بدأ في التراجع مرًة أخرى، فتراجع حجم الطلب الاستهلاكي وبدأ الانخفاض الإنتاجي في قطاع السلع الاستهلاكية وانخفضت الاستثمارات في قطاع السلع الاستهلاكية وتبعتها القطاعات الإنتاجية وقد سجل تراجع حجم الاستهلاك من 100% عام 1928م إلى 75% عام 1932م وتراجع حجم الإنتاج من السلع الاستثمارية من 100% عام 1928م إلى 41% عام 1933م، ولكنها استغلت هذا الركود لصالحها فقد وضعت أمام كل الدول التي ترغب في العودة لمقياس الذهب معضلةً؛ إما العودة إلى مقياس الذهب بقيم عام 1913م والاضطرار لمماثلة الركود الأمريكي خارجيًا بالإضافة إلى ركودٍ داخلي أكبر وتقبل البطالة الآخذة في الازدياد، أو إعادة ربط العملة بالذهب بسعرٍ مخفض، والاضطرار إلى الاعتراف بأن العملة قد فقدت قيمتها للأبد وبأن الشعب الذي وثق في حكومته فيما يتعلق بالقروض بالعملة المحلية، سيحصل على عوائد سندات أقل مما سيحصل عليه الدائنون الأمريكيون الذين أقرضوا الحكومة بالدولار. اختارت بريطانيا الطريق الأول، بينما سار الجميع تقريبًا في الطريق الثاني، وبذلك نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في وضع الدول الأوروبية أمام خيارين كلاهما يقود إلى النفق المظلم.


الحقبة الاقتصادية الرابعة: الاستقرار الاقتصادي الأمريكي وهيمنة الدولار الأمريكي

وفي غضون ما تمر به الولايات المتحدة الأمريكية من أزمة عاصفة باقتصادها الناشئ وفي نفس الوقت الذي تبحث فيه عن كونها الدولة العظمى والمهيمنة على الاقتصاد العالمي كان لابد من اتباع سياسة اقتصادية تخدم على أهدافها التي على رأسها الخروج من الأزمة مع الاحتفاظ بمكانتها الاقتصادية، وكانت الإجابة على هذه المعضلة تكمن في السياسات الاقتصادية التي اتبعها الرئيس الأمريكي الجديد روزفلت حيث أعلن في عام 1933م، عن برنامجه الاقتصادي المعروف باسم The New Deal، وهو ما أثار دهشة المحللين والمراقبين في السرعة التي نفذت بها خطة الـ New Deal، والتي عادة تستغرق أجيالًا لتطبيقها. وعندما استلم السلطة كان النظام المصرفي والائتماني في حالة شلل تام، وكانت البنوك مغلقة، فأمر روزفلت بفتح المصارف التي لم تتعرض للإفلاس بشكل تدريجي، واعتمدت الحكومة سياسة معتدلة تجاه تضخم العملة، وتوفير الإغاثة لبعض المدينين، في حين وفرت الحكومة تسهيلات ائتمانية سخية إلى الصناع والمزارعين، وسنت أنظمة مشددة على بيع الاوراق المالية في البورصات.

اقتضى البدء بمعالجة الأزمة توافر السيولة المالية لتحريك السوق ولتأمين السيولة لذلك وجب سحب الودائع الأمريكية من المصارف العالمية وخصوصًا الأوروبية. هذا الإجراء أسهم في انفراج الأوضاع الاقتصادية الأمريكية إلى حد ما ولكنه أسهم في تدويل الأزمة فانتقلت إلى سائر الدول الرأسمالية في العالم وخصوصًا بريطانيا وفرنسا وألمانيا وتبنى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت سياسة اقتصادية جديدة تقوم على الدخول في مشاريع كبرى بهدف تشغيل أكبر عدد ممكن من العمال لحل مشكلة البطالة وتم لأجل ذلك إنشاء مكاتب التوظيف والتوسع في المشاريع الإنمائية والاجتماعية.

وكانت أول خطوات الإصلاح الاقتصادي موجهة نحو العاطلين عن العمل من خلال تشريع سَنَهٌ الكونجرس تضمن إيصال المساعدات للشباب العاطلين عن العمل الذين تقع أعمارهم بين 18 و25 سنة، سمى هذا المشروع بـ Works Progress Administration أو الـ WPA ويهدف المشروع إلى توجيه تلك القوى العاطلة تجاه العمل في المشروعات الحكومية الخاصة بالبنية التحتية وتشييد المباني والطرق، وقد اشترك حوالي 2 مليون شاب بهذا البرنامج الذي تم العمل به في نوفمبر 1933م وتم إيقافه في 1934م.

ثم عزمت الولايات المتحدة الأمريكية على استعادة قيمة الدولار لتصبح مثل الذهب، ففرضت قيود اقتصادية على ما تبقى من أوروبا بعد الحرب، فقد كانت أوروبا بأكملها مدينة للولايات المتحدة الأمريكية ومع التهديد بإغراق الأسواق الأمريكية ببضائع أوروبية مستوردة منخفضة التكلفة عوضًا عن الديون الأوروبية وهو ضرب التجارة الداخلية في أوروبا بتصدير الديون من ديون خارجية لأمريكا إلى ديون داخلية مع التجار الأوروبيين. كما كان قاطني الولايات المتحدة الأمريكية يتمتعون برحلاتٍ رخيصةٍ إلى أوروبا بالدولارات الأمريكية القوية فإن تم حظر السياحة على أوروبا فقدت العملة القوية وهي الدولارات الأمريكية، وفي المقابل كان صناع الحديد وترسانات السفن الألمان يبيعون بأسعارٍ أقل من منافسيهم الأمريكيين بالمارك الألماني الضعيف وهو ما سيضعف تجارة ترسانات السفن لديهم والتي اعتمدوا عليها في بناء هوالك الحرب، وهنا فرضت الولايات المتحدة الأمريكية طوقًا تجاريًا على أوروبا هي المتحكم الوحيد فيه، ولتفادي هذه الخسائر الاقتصادية لأوروبا ألقي على عاتق الدول المنكسرة البحث عن طريقة أخرى للحصول على المال غير بيع البضائع للولايات المتحدة، كانت هذه الطريقة هي المزيد من الديون. حيث كانت التعاملات المالية العالمية آنذاك تتلخص في سلسلة من الديون.

اقترضت ألمانيا من أمريكا، واستخدمت الإيرادات لدفع تعويضاتٍ لبلجيكا وفرنسا، وسدّت فرنسا وبلجيكا بدورهما ديون الحرب لبريطانيا وأمريكا، ثم استخدمت بريطانيا دفعات الديون الإيطالية والفرنسية لسداد الديون للولايات المتحدة؛ التي كانت تعيد هذه الدورة المجنونة بأكملها ثانيةً. كانت الولايات المتحدة هي الوحيدة القادرة على إصلاح هذا النظام المجنون، ولكنها لم تفعل. ومن هنا أتمت الولايات المتحدة الأمريكية خطتها في إنقاذ اقتصادها الصاعد ومن ثم خطتها في إحكام هيمنتها على الغرب بعد أن أصبحت مقاليد التجارة الأوروبية في قبضة الولايات المتحدة الأمريكية، وانحصر المشهد في بروز الدولار الأمريكي القوي أمام العملات الأوروبية الهزيلة والجريحة إثر الحرب.

ويرى المؤرخ الفرنسي جان جاك بيكر أن الحرب العالمية الأولى:«سجلت وصول الولايات المتحدة إلى الحياة الدولية التي لم تخرج منها بعد ذلك حتى إنها احتلت فيها تدريجيا المكانة الأولى على حساب أوروبا».