حالة من الجدل تلك التي تثيرها الأقليات المسلمة في الغرب، فمع كل حادث إرهابي أو تفجير انتحاري، يتجدد النقاش، وتُثار التكهنات بشأن علاقتهم به، ومع ذلك تبقى مجموعة من التساؤلات قائمة: ما الذي يدفع شباب هذه الأقليات إلى التطرف؟ هل يتعلق الأمر بظروفهم الحياتية أم بنظرة المجتمعات لهم؟ ماذا عن الإسلاموفوبيا: هل لعبت دورًا في دفعهم نحو التطرف؟ ولماذا لا تجدي الآليات الأوروبية نفعًا في مواجهة هذه الظاهرة؟

في محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات، خرج الكاتب روبرت ليكن Robert Leiken، وهو عالم سياسي، متخصص في الشئون الدولية، ومدير برنامج الهجرة والأمن القومي بمركز نيكسون في واشنطن،بكتابه «مسلمو أوروبا الغاضبون: ثورة الجيل الثاني».

اعتمد الكاتب في محاولته هذه نهجًا عمليًا عبر مقابلة العديد من المتطرفين السابقين وأفراد الأمن، وفحص سجلات المحاكم في قضايا الإرهاب، فضلًا عن خطب الأئمة المتطرفين. كما ركز في هذا السياق على مصادر التطرف بين الشباب المسلم من الجيل الثاني (أولئك الذين ولدوا في أوروبا أو جاءوا إلى أوروبا مع آبائهم كأطفال صغار).

اختار ليكن كلًا من بريطانيا وفرنسا وألمانيا كدراسات حالة باعتبارهم أمثلة للدول الأوروبية ذات الكثافة الإسلامية الملحوظة. وبالرغم من وجود دول أخرى ذات كثافة إسلامية كإسبانيا، إلا أن الكاتب لم يشملها بالدراسة، إذ إن مرتكبي تفجيرات قطارات مدريد في مارس/آذار 2003 كانوا من الجيل الأول للمهاجرين.


للتطرف دوافع عدة.. لكن ماذا عن الهوية والاندماج؟

انطلقت الفكرة الرئيسية للكتاب من الهجرة باعتبارها الباب الرئيسي لتفسير المشكلة الإسلامية المتنامية في أوروبا. فتنامي ظاهرة هجرة المسلمين دون حدوث اختراق ملموس على صعيد اندماجهم داخل المجتمعات الأوروبية، جعل الجيل الثاني من المهاجرين المسلمين أكثر عُرضة للفكر المتطرف.

فهذا الجيل الثاني لا يُعترف به لا في وطنهم ولا في بلد الأصل، الأمر الذي يدفعهم إلى العزلة الاجتماعية والتي تقودهم تدريجيًا إلى العنف، خاصة في ظل ارتباط صورتهم في المجتمعات الأوروبية بالإرهاب.

وفي سياق أزمة الهوية التي يعانى منها هذا الجيل، يشير الكاتب إلى وجود ما يُسمى بـ«الرجل الهامشي»، ذلك الذى يجد نفسه عالقًا بين ثقافتين، لا يجد لنفسه مكان في أي منهما، وبالتالي يشعر بحالة من الاغتراب عن العالم الذي يعيش فيه، فيلجأ نهايًة إلى العنف.

يضرب الكاتب مثالًا لذلك الرجل بكل من المهاجر الجزائري «خالد كلكال» مرتكب تفجيرات قطار باريس 1995، والباكستاني «محمد صديق خان» منفذ تفجيرات لندن 2005. فكل منهما كان نتيجة لأزمة الهوية والسياسات الاستيعابية في المجتمعات الأوروبية والتي قامت بشكل كبير على التمييز ضد المسلمين.

وُلد كلكال في أسرة غير متطرفة، ولكنه واجه شبح البطالة وانضم إلى صفوف نظرائه العاطلين عن العمل. مثله مثل الكثير، لجأ كلكال إلى السرقة، فصدر الحكم ضده بالسجن، إلا أنه خلال قضائه فترة العقوبة ازداد شعوره بالرفض من جانب المجتمع، وتعرض للكثير من الممارسات العنصرية مما جعله يعتقد أن العرب يُعاقبون بشكل أشد على جرائم أقل من تلك الجرائم التي يرتكبها الفرنسيون من غير المسلمين.

وخلال هذه الفترة التقى كلكال أيضًا أحد المسلمين المتطرفين، ووجد التفسير الذي كان يبحث عنه (الطريقة التي يعامل بها الفرنسيون المسلمون ليست سوى عنصر من الاضطهاد العالمي للمسلمين من قبل الغرب). ومن هنا بدأ يستعيد كبرياءه وهويته الخاصة (لا عربي ولا فرنسي، بل مسلم) فانطلق إلى الجزائر حيث تدرب وأصبح جهاديًا.

وعلى الطريق ذاته، سار محمد صديق خان، الباكستاني الذي نشأ في مجتمع يزداد به العنصرية والتمييز على أساس لون البشرة، مما دفعه بالنهاية إلى التطرف وارتكاب العمليات الإرهابية.

بالطبع لا يتوقف الأمر عند حدود أزمة الهوية والتمييز التي يعانيها المسلمون، فهناك مجموعة من العوامل الأخرى عددها الكاتب دفعت ذلك الجيل الثاني من المهاجرين المسلمين إلى العنف. يأتي في مقدمة هذه العوامل: صراع الأجيال داخل المجتمعات الإسلامية بالدول الأوروبية، والمواقع الإلكترونية التي تدعو للتطرف، فضلًا عن وجود ما يُطلق عليهم مُيسرو التطرف، الذين يوفرون لهؤلاء الأفراد الساخطين على أوضاعهم فرص الانتقال إلى مناطق الصراع في أفغانستان وباكستان وسوريا والعراق، حيث الانضمام للتنظيمات الإرهابية كالقاعدة وداعش.


فرنسا: حينما يفاقم التعامل الأمني المعضلة

بعد توضيحه دوافع التطرف لدى الجيل الثاني من المهاجرين، انتقل الكاتب إلى واقعهم في كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا، موضحًا آليات تعامل هذه الدول معهم. فقد استضافت فرنسا أول المسلمين الفارين من الأنظمة في مصر وسوريا وتونس في الستينيات، حيث تم تأسيس اتحاد المنظمات الإسلامية الفرنسية في 1983.

وبعد حوالي 22 سنة من تأسيسه وبالتحديد في 2005، ضربت فرنسا انتفاضة عنيفة في أماكن المهاجرين، وخرجت التقارير المنحازة التي أعطت انطباعاً زائفاً بأن حركة إسلامية متطرفة في طريقها إلى النمو داخل فرنسا وخارجها.

لم يكن الأمر كما تم تصويره، فقد كان ذلك تعبيرًا عن الإحباط الذي يشعر به العاطلون عن العمل الذين يعيشون في تلك المناطق دون أي أمل في مستقبل أفضل. فأولئك الذين شاركوا في أعمال الشغب لم يستخدموا أي رموز إسلامية، ولم يخرجوا بشعارات دينية وتجاهلوا الأئمة الذين حاولوا التكلم معهم في الأمر.

وبالرغم من انتقاد اتحاد المنظمات الإسلامية الفرنسية لسلوك هؤلاء المشاغبين وتنديد الإسلاميين البارزين في أوروبا بجهل هؤلاء المراهقين من مثيري الشغب الذين يحرقون المركبات التي تحمل أقاربهم، إلا أن التعامل الفرنسي مع الأمر لم يلتفت لذلك.

فقد لجأت فرنسا إلى اتخاذ إجراءات أمنية مشددة ومتابعة استخباراتية مستمرة لهؤلاء المهاجرين، وساعدها في ذلك البيئة القانونية بها والتي تسمح بمتابعة المشتبه فيهم، غير أن ذلك لم يساعد في حل معضلة اندماج المسلمين بها، الأمر الذي تدل عليه الاضطرابات التي تندلع بين الفترة والأخرى في ضواحي المدن الكبرى في أوساط الجيل الثاني وحتى الثالث من المسلمين نتيجة التهميش والتمييز في العمل.


بريطانيا: النجاح السياسي والإخفاق الثقافي

منذ عام 1948 إلى 1962 منحت بريطانيا الجنسية إلى مئات الملايين من رعاياها من المستعمرات، ولكن هذه الموجة من المهاجرين لم تحول المملكة المتحدة إلى مجتمع متعدد الثقافات.

فقد تم دمج المسلمين البريطانيين سياسيًا، لكنهم ظلوا منفصلين اجتماعيًا، وبقي ولاؤهم لمجتمعهم وليس لبريطانيا. وهكذا فشلت السياسة الرسمية في مجال التعددية الثقافية، مما أفضى إلى وجود مجموعات عرقية منفصلة عن بعضها البعض يعيش أفرادها حرية التعبير والتنقل، وحرية تبني أنماط عيش مختلفة، لكنها معزولة عن بعضها البعض.

نتيجة لذلك، عانى المهاجرون المسلمون من شعور عميق بالاغتراب بوطنهم الأصلي والبلد المضيف. هذا الشعور عبر عنه مهاجر بنغلاديشي مقيم في بريطانيا، حينما أشار إلى أن بنغلاديش ليست بيته، فهي مجرد مكان أتى منه والداه، وكلما زاره شعر بحالة من الاغتراب، ومع ذلك فهو يرى أنه غير مرحب به ببريطانيا على الرغم من أنه بلده الذي عاش به.

كذلك أشار الكاتب إلى عدد من الأخطاء الأخرى التي ارتكبتها الدول الأوروبية، وخاصة المملكة المتحدة، ساهمت بدورها في زيادة التطرف، جاء على رأسها سماح بريطانيا للجهاديين المتطرفين بالاستقرار بها والوعظ بحرية في المساجد الرسمية وتجنيد الشباب المحلي لقضيتهم.


ألمانيا: وجهة مستقبلية للتهديدات الإرهابية

فتحت ألمانيا أبوابها للمهاجرين الأتراك الذين تم قبولهم كعاملين أجانب، نتيجة نقص العمالة بها. أصبح هؤلاء الأتراك، ومعظمهم من الأناضول، أكبر مجموعة من العمال الضيوف بها. ومنذ عام 1962 إلى 1974، نمت أعدادهم من 13 ألفًا إلى 80 ألف عامل، واستمرت في الزيادة حتى فاقت الـ4 ملايين مسلم اليوم.

تقف ألمانيا في الوسط بين النموذجين الفرنسي والبريطاني، فهي وإن لم تشهد حوادث كبرى، فإنها تبقى مُهددة، نظرًا لمعاناة هذه الجالية التركية من التهميش والإقصاء.

وفي هذا الإطار يشير ليكن إلى أنه إذا كانت فرنسا هي الماضي من الجهاد الأوروبي، وبريطانيا حاضره، يمكن لألمانيا أن تكون مستقبله. ويرجع ذلك إلى كونها الحليف الأضعف لحلف شمال الأطلنطي، إلى جانب أن الجيل الثاني من المسلمين المغتربين هم الأكثر عُرضة لتأثير التنظيمات الإرهابية كالقاعدة، خاصة في ظل الانقسام الألماني حول ملف الهجرة والإرهاب.

ختامًا، يشدد الكاتب على أهمية التمييز بين عامة المسلمين والمتطرفين، ويؤكد أن هذا التمييز هو جوهر الأساسي لأي سياسة ناجحة في مواجهة الإرهاب، كما يحذر من وجود دول أوروبية أخرى مثل بلجيكا والدنمارك وهولندا مهددة أيضًا بخطر هذا الجيل الثاني من المهاجرين الأكثر عُرضة للتطرف.