تخيل معنا، هل سبق لك أن رأيت الموسيقى؟ ربما خطر في ذهنك إذا كانت دراستك طبية ذلك المرض العصبي الذي تحوّل فيه أدمغتنا الصوت إلى ألوان، ولكن ليس ذلك ما نعنيه، بل نقصد هل تشاهد الموسيقى المفضلة لك في العادة؟ هل ترى حركتها كما ترى الحركة في حياتك اليومية؟

 إذا كان السؤال غير واضح فلنمض معاً لمغامرة التخيل الأولى، دعنا نراقب أبسط حركة نمارسها بشكل يومي كالمشي، في المشي يتحرك وزننا بأكمله بين اليمين واليسار، ففي لحظة معينة تحمل قدمنا اليسرى الوزن كاملاً، ثم يتحرك الوزن بالتدريج لليمنى، وهكذا بشكل متصل متتابع، يمكن للحركة أن تكون أسرع أو أبطأ مع اختلاف سرعتك في المشي.

هذا هو الرتم وتجده في كل شيء، النوم واليقظة والحركة والسكون، أي شيء! يمكنك تجربته معي وأنت تقرأ هذه الفقرة بصوتك، ستجد أنك تقرأها بتتابع معين، حتى قراءتك لها زمن داخلي يمكنه أن يسرع ويبطؤ، هذا الزمن الداخلي ليس ما نعتمد على الساعة في قياسه بالضرورة بل على إحساسنا في الأساس؛ ولذلك فالرتم وفلسفة الزمن شيء واحد لا يمكن فصلهما.

في الحياة نحن لا نعيش سوى اللحظة الحاضرة، وهي ليست ثابتة، حاول أن تمسك تحديداً أي لحظة بالضبط هي الحاضر؟ ستجد اللحظة تنفلت وتبدأ التي تليها في تتابع أزلي، فيمكننا القول، إن الزمن لحظات حاضرة متتابعة، أما ما نطلق عليه ماضياً ومستقبلاً فلا وجود له سوى في عقلنا، الموسيقى كذلك بدورها عبارة عن لحظات حاضرة متتابعة ممتلئة بالأصوات والألحان وإدراكها الحقيقي ليس في توقع اللحن أو حفظه وترديده بل في الاستسلام تماما لزمنها الداخلي.

الزمن لحظات حاضرة متتابعة أما ما نطلق عليه ماضياً ومستقبلاً فلا وجود له سوى في عقلنا، الموسيقى كذلك بدورها عبارة عن لحظات حاضرة متتابعة ممتلئة بالأصوات والألحان وإدراكها الحقيقي ليس في توقع اللحن أو حفظه وترديده بل في الاستسلام تماماً لزمنها الداخلي.

الميوزيكالية والرتم

من هذه الرحلة التخيلية يمكننا أن ندرك اتصالنا بالرتم في كل لحظة في حياتنا حتى دون موسيقى منظمة أما ما تفعله الموسيقى فهو تحديد رتم معين بتكرار محدد تستمع له حتى الاستغراق، شاهد أقدام راقصي السالسا وهي تعد الخطوات الثماني في توافق مع الرتم على آلات الإيقاع، في الحقيقة أنت ترى رتمين وليس رتماً واحداً، رتماً من تجسيد الراقصين ورتماً من تجسيد لاعبي الإيقاع، والرابط الوحيد القادر على تحقيق هذا التوافق هو الميوزيكالية.

كما استعرضنا في المقال السابق فالميوزيكالية تنقسم لمجموعتين من المهارات، (التلقي الموسيقي) و(التعبير الموسيقي)، وهاتان المجموعتان ليستا منفصلتين عن بعضهما، فتلقي إحساس الزمن في رتم الإيقاع بشكل سليم يحركك لتعبر بشكل متصل مع الإيقاع بلا أخطاء في العدّ.

عند هذه النقطة يمكننا أن نخوض في مغامرة التخيل الثانية معاً، إذا سبق لك وأن دخلت كاتيدرائية أو مسجداً أثرياً سيكون التخيل أكثر سهولة، في مثل هذه الأماكن المقدسة تعزل البنية المعمارية المؤمنين عن العالم الخارجي، تدخل المسجد أو الكاتدرائية فلا تجد نفسك فجأة داخل الساحة بل تضطر للسير في ممر يطول أو يقصر ولكنك تمضي وقتاً من المشي فيه حتى تتهيأ لدخول الصحن حيث التجربة الروحية معزولة عن العالم الخارجي الدنيوي.

هذه التجربة تهيئنا بعد ما قضينا زمناً من المشي في الممر إلى دخول عالم الروح بلا مشاغل دنياوية أو على الأقل هكذا حاول المعماري صاحب الفكرة أن يساعدك روحياً بقدر استطاعته، أما الصحن فمتّسع يدخله الضوء من نوافذ عريضة مزينة بالصور والزخارف المعمارية ويتسع للمئات من المتدينين، هنا يمكنك أن تلحظ ضيفاً آخر مرافقاً لك، صوتك ولكن بحلة جديدة، فقط جربه في هذا المكان وغنّ ما شئت ستجد الصحن كاملاً ينشد معك كاهتزاز الصوت في صندوق الكمان الخشبي، هذا الرنين الذي يجعل الصحن بكامله صندوقاً موسيقياً هو ما سنناقشه هنا، هذا الإدراك بالضبط هو ما ننشده من مغامرتنا.

 في القرن الخامس عشر ظهر في الكنائس القوطية في أوروبا ما يسمى (غناء الأكابيلا) وهو نوع من الغناء الكورالي لا يحتاج إلى أي آلات موسيقية سوى الحنجرة البشرية، يُقسَّم الكورال إلى عدة طبقات صوتية مختلفة في حقيقة الأمر هي ثمانية تتدرج من الأصوات الرجولية الغليظة إلى الأصوات النسائية الرقيقة يغنون معاً في نفس الوقت بامتزاج جميل مع رنين الكنيسة عدة ألحان.

يُقسِّم المؤلف الألحان على طبقات الصوت، وتماماً كالزخارف المعمارية، لا تجد أن أجزاءها على حدة ذات جمال باهر، ولكنك بنظرة من على بعد تدركها كاملة بجمال لا مثيل له، وفي ذلك الوقت كان اعتماد الغناء الأساسي على تقديس الرب، وكانت الألحان تعتمد على المد في النوتات الموسيقية بمعنى أنها طويلة حتى يدخل الحضور في حالة التقديس التي يترنم بها الكورال، هناك ظاهرة صوتية فيزيائية يعتمد عليها هذا اللون من الغناء، وهي تراكب الصوت، فعندما يغني فردان من نفس الطبقة الصوتية نفس النغمة الموسيقية تتراكب النغمتان بشكل يعطي شعوراً أوضح، فليست دو مثل ري مثل صول مثل لا.

لكل نغمة شخصيتها التي تتكثف كلما تراكبت موجات الصوت فكأن رفيقك في الغناء يكثف شعور نغمتك قبل أن تغني التي تليها، وبهذا الشكل يمكننا تشبيه رفيقك في الغناء بما يريده المعماري في تصميم الرنين في الصحن لأنه أراد نفس الظاهرة أن تنشدا معاً و ينشد المكان صوتكما فيكمل التكثيف.

الميوزيكالية والصوت

عندما يقوم مايسترو الكورال بتقسيم الأدوار وتحديد أي طبقة صوتية ينتمي لها صوت المغني لا يطلب منه أكثر من الحديث بصوته العادي قبل الغناء، لأن طبقة الصوت تتضح من تردد صوتنا الفيزيائي في الحديث العادي، يمكنك أن تستخدم (tuner) لتحديد طبقة صوتك إن أردت أيضاً، فبمعزل عن الرتم فإنك في حديثك العادي تستخدم بعض النقلات بين أكثر من نوتة موسيقية بشكل لاإرادي لتعبر عن الحماس أو الحزن.

فقط لاحظ طبقة صوتك عند تعبيرك عن الشعورين ستجد ذلك الاختلاف وهنا يمكننا القول إنه عند التشرب التام بالنوتات الموسيقية التي يتحدث من خلالها يبدأ المغني الذي يبهرنا بأدائه باستخدامها وتطويعها لتجسد لحناً من ألحانه وهكذا يبدأ الغناء.

كيف يمكننا قياس قدراتنا الميوزيكالية الحالية؟

هذه المهارات السبعة تقيس الميوزيكالية ككل كتلق وتعبير وهي ليست منحاً أو موهبة بل هي مقياس عريض يمكننا التدرج فيه حتى نصل إلى مستوى يجعلنا نستمتع بالموسيقى بشكل أكبر دون الوقوع في وهم المثالية الذي يفترض وجود شخص ما في العالم يجيد هذه المهارات بنسبة 100% على كل الألحان و الأرتام والإيقاعات.

1. التصفيق على الألحان في الوقت السليم دون الخروج عن الرتم
2. القدرة على تقليد نفس النوتة الموسيقية المسموعة من أي مصدر
3.. الغناء على اللحن دون نشاز
4. دندنة أو عزف ألحان ارتجالية دون نشاز
5. قدرة العازف على عزف لحن بمجرد سماعه
6. ضبط الآلة الموسيقية باستخدام الأذن فقط
7. إدراك الاختلاف بين ألوان الموسيقى المختلفة وتحديد اللون الموسيقي للأغنية

استمر معنا في القراءة والاستماع والتخيل والتجريب، أخبرنا كم مهارة يمكنك اتقانها حتى الآن؟ وهل شعرت بالفعل بزيادة استمتاعك بالموسيقى كلما زادت مهارتك على التلقي والتعبير؟