تُعدُّ إيران بيئة خصبة للفلسفة منذ القدم، ولم يتعلق الدرس الفلسفي في «بلاد فارس» بدينٍ أو مذهب، بل كانت الفلسفة رائجة حتى قبل استيلاء الصفويين على البلاد 1505م، وإعلانهم المذهب الشيعي مذهبًا رسميًّا للدولة.

وفي هذا المقال نتناول بعض تطورات الدرس الفلسفي المعاصر في إيران، المتعلقة بنشاطه، وموقعه، ورموزه، ولعلنا في مقالات أخرى نتناول قصة الفلسفة في إيران في كلِّ عصرٍ من عصورها، وكلِّ حقبة حكم مرَّت بها على حدة. وكي نكون محددين فإنما نقصد من الدرس المعاصر هنا الفترة التي تبدأ قبيل الثورة الإيرانية 1979م حتى اليوم.


البداية من العلامة الطباطبائي

يُعتبر العلامة الطباطبائي هو أول من اعتنى بالدرس الفلسفي وأعاد إحياءه في إيران المعاصرة. وعندما أراد الطباطبائي أن يشرح أسفار الملا صدرا في دروسه الحوزوية لاقى عنتًا واضحًا ورفضًا شديدًا من المرجع الديني آية الله البروجردي، المرجع الشيعي الأعلى وقتئذ؛ حيث كانت الحوزة الرسمية تقليدية ومحافظة، ومن ثَم كانت تنبذ الدرس الفلسفي وتشتبك معه، وتناصبه العداء، كحال التقليديين في كل عصر، وكلِّ مذهب [1].

وهذا الموقف السلبي لا يزال هو السائد في حوزة النجف، وأجنحة كبيرة في حوزة قم، حيث نجد في قم جماعة الشيرازية والحُجَّتية والتيار التفكيكي وكل روافد التيار الأخباري، يمجُّون الدرس الفلسفي ويناصبونه العداء، على اختلاف ما بينهم في بعض التفاصيل.

على كل حال، لم تكن البيئة الحوزوية ملائمة وقتئذ لولوج الدرس الفلسفي داخل الحوزة، وإيجاد موضع قدمٍ له، فضلًا عن بسط هيمنته على المشهد العلمي داخل المدارس العلمية، وذلك لعدَّة أسباب متعلِّقة بمركزية الفقه كعلمٍ مؤهِّل للاجتهاد ومن ثَم الأعلمية والتصدر، وبالتالي إيجاد موقع مهم في الأوساط العلمية والتقليدية، وما يترتب على ذلك من تحصيل الأخماس وترسيخ المكانة الاجتماعية وسط عموم المقلدين، ونحو ذلك.

تلك المركزية الفقهية أثَّرت ليس فقط على نمو الدرس الفلسفي وازدهاره، بل أثرت على نمو عدد آخر من العلوم كعلم التفسير وعلوم القرآن * وعلوم الآلة الأخرى كالنحو والصرف والاشتقاق والبلاغة ونحو ذلك. فنجد أكبر موسوعة في علوم القرآن صنَّفها أحد المعاصرين، وهو العلامة محمد هادي معرفة، في حين أنَّ علوم القرآن مثلًا عند أهل السنة قديمة قدم التأسيسات الأولى لمنظومة العلوم.

لذا وجدنا آية الله الخوئي لم يُكمل تفسيره الذي لو أكمله لكان له شأن آخر، والسبب الرئيسي لعدم إكماله التفسير أنَّه فضَّل تأليف الرسالة العملية وكُتب الفقه على كتابة التفسير، لأنَّ الفقيه وحده هو صاحب المركزية في العالم الشيعي اليوم، سواء في إيران التي تتبنى «الإسلام الفقاهي» بعبارة حجة الإسلام رفسنجاني عندما سأله الشبستري – قبل تحوله إصلاحيًّا – عن الفارق بينهم وبين المخالفين، أو حتى في النجف التي هي قلعة التقليد الشيعي قديمًا وحديثًا.

ولذا، فإنَّ الطباطبائي نفسه لا يمكن أن نصفه بأنه مرجعية عليا شيعية، أي أنه مات دون أن يصل لمرتبة آية الله العظمى رغم أنَّه أفهم من كثير من المتصدرين فقاهيًّا، بسبب عدم تصدره الفقهي وإيثاره الفلسفة والتفسير!

وهذه المعضلة حاول كثير من المعنيين بالشأن الحوزوي والمصلحين لفت الأنظار إليها، وحاولوا إضافة شروط إلى من يوصف بــــ «الأعلمية» كفهم الواقع، والعلم بالتفسير والفلسفة وهكذا، أي محاولة للرجوع إلى ما يُشبه مجموعة شروط الاجتهاد السنية التي هي أقرب إلى التعجيز، في حين أنهم يظنونها اليوم إصلاحًا وتجديدًا.

وقد أدت مركزية الدرس الفلسفي في المشهد العلمي الإيراني، وليس مجرد حضوره، إلى بزوغ نجم الإصلاحيين باختلاف أجنحتهم يسارًا ويمينًا. لأنَّ الليبراليين من أبناء الحوزة الذين أصقلتهم الحوزة دراسةً وتدريسًا عندما تشبعوا بالتقليد ثم اتجهوا إلى الدرس الفلسفي الغربي المعاصر، تخلصوا من كل التمظهرات التقليدية التي وضعها الفقيه التقليدي، وحافظت عليها السلطة لأسبابٍ كثيرة. ولم يحملوا همَّ التصدر المرجعي، ومن ثَم لم يبالوا بالعلاقة الوطيدة والراسخة بين رجل الدين/ المرجع، والفقه كمنظومة علمية سياسية اجتماعية. ولذا فقد كانت الفضاءات التي ناوروا فيها أكثر اتساعًا واتساقًا ورحابةً.

على أي حال، فإن الطباطبائي (ت: 1981م) أعاد الدرس الفلسفي إلى قم لتصير معقلًا للمدرسة الفلسفية العرفانية من بعده، حيث أسَّس حلقة فلسفية على غرار «حلقة فيينا» التي أنتجت فلسفة «الوضعية المنطقية»، أو على غرار «مدرسة فرانكفورت».

وتكونت تلك الحلقة من خيرة تلامذة الطباطبائي أمثال الشهيد مرتضى مطهري، وحسين منتظري، وبهشتي، وموسى الصدر، وإبراهيم أميني، وجعفر سبحاني، ومهدي حائري وجواد آملي، وغيرهم من المبرزين في الدرس الفلسفي والحوزوي اليوم في إيران. والتأمت تلك الحلقة منذ العام 1950م بعقد ندوة فلسفية مرتين في الأسبوع. وبعد الثورة الإيرانية 1979م، افتتح الطباطبائي ندوة للحوار الفلسفي في طهران في منزل مرتضى الجزائري، وشارك فيها هنري كوربان، أستاذ الفلسفة في السوربون.

ولم يشتهر عن الطباطبائي أي نظرية سياسية، سوى أنه طالب بأن يكون حكم الحاكم في عصر الغيبة «قائمًا على الشورى»[2]. أي أنه يسير في نفس خطِّ فقهاء الدستورية، وعلى رأسهم الميرزا النائيني، رائد الفقه السياسي الشيعي.

لكن تلامذة الطباطبائي صاروا فيما بعد من أعمدة الخطِّ الولائي اليوم في إيران مثل جوادي آملي والمصباح اليزدي وغيرهما، ممن يرسخون لولاية الفقيه المطلقة التي طبقها الخميني منذ العام 1988 [3].

ويُمكن القول إن الطباطبائي ومدرسته لم يأتوا بجديدٍ فلسفيًّا بقدر ما عملوا على إحياء مدرسة «الحكمة المتعالية»، لكن حدثت بعض الإضافات والاشتباكات الفلسفية فيما بعد على أيدي تلامذته، سيما بعد صعود جماعات فلسفية وتيارات سياسية تعتمد على أُسس مغايرة لمدرسة الحكمة المتعالية، كالتيار التفكيكي القوي اليوم في إيران.

وإذا كان الطباطبائي يقول بأن الملا صدرا أحيا الفلسفة بعد اندثار، فإن نفس القول يصدق على الطباطبائي الذي أحيا مدرسة الملا بعد اندثار. فعندما أراد الطباطبائي أن يُدرِّس «الأسفار الأربعة» للصدر الشيرازي في قم اعترض آية الله البروجردي، ونصحه بالتراجع عن هذا القرار، أو تدريسها سرًّا إن أصرَّ، «أمَّا الدرس العلني للأسفار في الحوزة الرسمية فإنه غير صالح بأي شكل من الأشكال، ولا بد أن يُترك»[4].

والخلاصة أن الدرس الفلسفي الحوزوي اليوم في إيران هو امتداد للدرس الفلسفي عند الملا صدرا، وترسيخ لمدرسة الحكمة المتعالية. لكن عمومًا من المآخذ التي أُخذت على هذه المدرسة، ضعف تشبعها بالفلسفة الغربية المعاصرة، وتهافت طروحاتها النقدية والتفكيكية للفلسفة الغربية.


المدرسة الخمينية

لا يُمكن القول إن الخميني شكَّل تيارًا فلسفيًّا مغايرًا لتيار الطباطبائي، فهو نفس التيار لا شك، فكلاهما ينتمي لمدرسة «الحكمة المتعالية»، تلك المدرسة العرفانية التي أعادت فهم التشيع، وأعادت تشكيله المعرفي، بطريقة عصية على الفهم. نعم؛ إنها عصية على الفهم، ففي حين أن المدرسة أصولية في الجانب الفقهي، وتعتمد القواعد التقليدية في الدرس الحوزوي، فإنها في نفس الوقت مدرسة عرفانية بالدرجة الأولى!

كيف تم تجاوز الاحتراب التاريخي والتراثي بين الفقهاء والصوفية؟! بل كيف حُوِّل الفقهاء إلى عرفانيين؟! هذا سؤال يدعو للتأمل الشديد. ففي السياقات التاريخية، لم تخلُ العلاقة بين الفقهاء والصوفية من تعكر أجواء تارة، واشتباك علمي تارة أخرى [5].

على أي حال فإن الخميني سار على نفس درب الطباطبائي في إحياء مدرسة الحكمة المتعالية، وكان الخميني مؤمنًا بابن عربي. ولذا وجدنا تلك التوليفة العرفانية الفلسفية الفقهية، التي ضمنت المرونة الكبيرة في تجاوز بعض مناطات التقليد الفقهي، ولكن عبر حصرها في الولي الفقيه، فالفقيه العادي ليس له أن يعقلن الإسلام أو يتوسع في المصالح المرسلة – والمتوهمة – بل هذه داخلة في دوائر عمل الولي الفقيه حصرًا، ولذا أيضًا وجدنا أن أدلة الولاية المطلقة بقراءتها الخمينية، فلسفية وعقلانية، لا نصوصية أو تراثية خالصة.

انتقل الخميني ومدرسته من بعده من عرفان حافظ الشيرازي المهادن والمتعايش، إلى نموذجه الخاص في العرفان، أو ما يُمكن أن نسميه بـ «العرفان القزلباشي»، الذي يذكرنا بالنموذج القزلباشي في عهد الصفويين. ذلك العرفان الثوري يصفه أحد الباحثين بقوله: «العرفانية الطاغية التي تمتع بها الخميني كانت هي المحركة للثورة وليست النظرية النصية التي حملها».

هذه التوليفة العصية على الفهم التفت إليها فرهاد دفتري في الحالة الصفوية، بقوله: «كيف دُمج فكر ابن عربي التصوفي المناقض جزئيًّا للأفكار الفلسفية واللاهوتية، مع مقولات الأرسطوطاليين مثل ابن سينا، أو التنويريين مثل شهاب الدين السهروردي. لقد حاول داماد وملا صدرا التوليف بين هذه التناقضات، في محاولة لتطويرها، وعلى الرغم من أنَّ محاولتهما كانت ناجحة فإنها واجهت عديدًا من الخلافات مع الفقهاء». فمن هنا نعرف كيف ورث الخميني تلك التوليفة، فهي سمت لمدرسة الحكمة المتعالية التي ورثها الخميني، وعمل على إحيائها مع الطباطبائي.

وحسب حميد بارسيا فإن الخميني: «الرائد الأول على طريق إحياء العلوم العقلية أو ما يُسمى بمدرسة الحكمة المتعالية، وهي مزيج بين الفلسفة والعرفان، فعندما شعر بحاجة الحوزة العلمية الماسة إلى هذه العلوم، وعلى الرغم من إحجام وإدبار المجتمع عنها وإهماله لها على مدى عقود من الزمن، تبنى الخميني تدريس العلوم الفلسفية والعرفانية في حوزة قم، ومن ثَم تبعه الطباطبائي الفيلسوف الذي حافظ على ديمومة الحركة التي شرع بها الخميني هناك».

ولن ندخل في جدل مع بارسيا حول مكانة الخميني والطباطبائي في ذلك الوقت، وأيهما أسبق، وأيهما أرسخ مكانة، وأمتن فلسفة؛ لأن من شأن هذه النوعية من الأسئلة أن تواجَه بحجاج المؤدلجين، والمقدِّسين للرموز. لكن المؤكد أن كل الجهود الفلسفية في إيران المعاصرة، المتعلقة بالمؤلفات والتلاميذ والحلقات كانت بإشراف الطباطبائي لا الخميني، وحتى عندما رجع الخميني بعد الثورة إلى قم، فإنه لم يتفرغ للتصنيف الفلسفي مقارنة بمخرجات الطباطبائي، لكن جل تلاميذ الطباطبائي اتبعوا الخميني بعد موت الطباطبائي ورجوع الخميني بعد نجاح الثورة. ناهيك عن موقع كلٍّ منهما في الحوزة في ذلك الوقت، ومكانته في عالم الفقه والتقليد.

ونرجع فنقول إن الخميني أيضًا واجه عنتًا واضحًا من التقليديين بسبب الدرس الفلسفي، ويحكي عن معاناته – قبل النفي – في إدخال الدرس الفلسفي في مناهج الحوزة، فيقول: «في مدرسة الفيضية تناول ابني الصغير المرحوم مصطفى وعاء وشرب منه الماء؛ فقام أحدهم وطهر الوعاء لأنني كنت أدرِّس الفلسفة. دراسة الفلسفية والعرفان كانت تُعدُّ ذنبًا وشركًا».

وفي عهد المرشد الحالي علي خامنئي يُمكن وصف الدرس الفلسفي الحوزوي بأنه وصل لمرحلة النضوج والثبات، فبانت ملامحه، وظهرت أولوياته، واستقرت الخطط الخاصة بالمناهج وأهدافها في الحوزة والجامعات، وأشرفت الدولة على عمليات استتباب الدرس الفلسفي في الجامعات، وفي قطاع كبير في الحوزة العلمية. يقول خامنئي في أحد بياناته: «ينبغي ترويج الفلسفة في حوزة قم العلمية، وكذلك حوزة طهران العلمية، التي كانت مركز الفلسفة قديمًا. من المهم للغاية دعوة الشباب إلى العلوم العقلية وتوجه الحوزات العلمية إلى العلوم العقلية بخاصة الفلسفة».

ويمكن القول إن الفلسفة صارت لصيقة بالدولة الإيرانية اليوم، التي تتبنى مدرسة الحكمة المتعالية، تلك الفلسفة ضمنت رسم هوية الدولة واستتبابها، أو على الأقل كما ترى النخبة الدينية الحاكمة.


التيار الإصلاحي

ولا يعني هذا أن الدرس الفلسفي الإيراني اليوم منحصرٌ في مدرسة الحكمة المتعالية المتبناة من الخطِّ الولائيِّ، بل هناك مدرسة أخرى مهمة، متمثلة في مجموعة الإصلاحيين والليبراليين ممن اقتربوا من الدرس الفلسفي الغربي المعاصر، أمثال عبد الكريم سروش وسعيد حجاريان ومصطفى ملكيان ومحمد مجتهد الشبستري، وبعضهم لا يزال يدرس داخل الجامعات الإيرانية. ولديهم صلات وثيقة بالتيار الإصلاحي على المستوى السياسي، إلا أن معظمهم فضلوا الابتعاد عن السياسة والتركيز على الدرس الفلسفي، ومحاولة البناء والإصلاح من خلال المناهج الفلسفية.

ومن أسبابِ قوة هذا التيار الحداثي أنه خرج من رحم التقليد، وتشبع به، بل كان معظم رموزه من روَّاد التقليد الحركي وشاركوا في الثورة منذ بداياتها، ورافقوا الخميني من البداية، ولهم باع طويل في معرفة التراث والتمرس عليه، بخلاف الحداثيين العرب مثلًا الذين يهاجمون التراث من الخارج، ومن الأطراف، لا من المركز واللب، مما يجعل طروحاتهم هشة بغض النظر عن صوابية المخرجات أو لا.

هذه الميزة في التيار الحداثي الإيراني سببت قلقًا للنخبة الدينية الحاكمة؛ لأنها تدرك هذه النقطة جيدًا. ومن ثَم مارست بعض الوصاية على هذا التيار، وحاولت التضييق عليه، مما أوجد ردَّ فعل من هذا التيار حيث يطلب من السلطة السياسية عدم التدخل في شئون الثقافة وتشكل المعرفة، وبعبارة سروش فإنَّ هذه النظرية (الولاية على الشئون الثقافية) من قبل الحكومة: «تنتهي بالتنظير لأعمال العنف، وتجويز استعمال آلات القهر، فلا ينبغي للحكومة أن تتولى صناعة الثقافة الاجتماعية، لأن وضع الثقافة بعهدة الحكومة يعني التضحية بالديمقراطية على مسلخ القدرة، فجعل مسئولية تثقيف الناس بيد الحكومة يعني شنق الثقافة والقضاء عليها»[6].

وكلام سروش عن التنظير للعنف، وقع فعلًا، أو هو واقع بالفعل، ولم يفعل سروش سوى أن حذَّر مما هو قائم في نفس الأمرِ، من باب التعريض بالخطاب. فآية الله مصباح يزدي – أحد أكبر فلاسفة ومنظري النظام الحاكم – يرى وجوب استعمال القوة للحفاظ على الحكومة الإسلامية حتى ولو كانت منبوذة من أكثر من نصف الشعب فيقول:

الكم ليس معيارًا في الحفاظ على الحكومة، بل المعيار أن يقدَّم عددٌ من أتباع الإمام عليه السلام، أو ولاية الفقيه المشروعة دعمهم للمحافظة على الحكومة، أحيانًا تكون نسبة هؤلاء 90%، أو 50%، أو 40%. إنه الولي الفقيه
مأمورٌ بالمحافظة على الحكومة الإسلامية، فما دام هناك من يمكن بواسطتهم المحافظة على الحكومة الإسلامية فإنه ملزمٌ بالمحافظة عليها، لذا، فلا اعتبار بالكمية.[7]

إذن فيجب بقاء الحكومة حتى ولو لم يكن لها داعمون سوى 10% من الشعب، بأيِّ صورة ووسيلة كانت [8]. فالأهداف الإسلامية إذا لم يتيسر تحقيقها إلا عن طريق العنف، عندئذ يُصبح هذا العنف ضرورة [9]. وليس ذلك فحسب، بل يجب القتل خارج نطاق القانون، ودون الرجوع إلى القضاء [10]، ذلك لحماية القيم الإسلامية للدولة [11].

والخلاصةُ أن الفلسفة في إيران المعاصرة لم تنفك عن الوضع السياسي العام خاصة منذ الثورة الإسلامية وحتى اليوم، بيد أن هذا الوضع السياسي أيضًا كان عاملًا من عوامل ثراء الدرس الفلسفي في إيران المعاصرة. فهذا الاستفزاز المتبادل بين التقليد والإصلاح، بين الحوزويين والحداثيين أثَّر إيجابًا على الدرس الفلسفي عطاءً ونموًّا، وتفتق عنه موضوعات وطروحات.

إننا لا نزعم الإحاطة في هذه المقالة الصغيرة بحال الدرس الفلسفي في إيران المعاصرة، فإن ذلك يحتاج إلى عملٍ موسع، نعمل عليه إن شاء الله. لكننا نظن أن هذه التطوافة قد فككت الخارطة الفلسفية في إيران إلى حد ما، وبيَّنت مواضع كل فريق، وثقله، وهمومه المعرفية، وسؤاله القلق الذي يسعى إليه ويعمل عليه، لأن المقصد لم يكن الكلام في الفلسفة، وإنما الكلام عن الفلسفة، وتفكيك مشهدها العام، ولو جزئيًّا.


* انتقد الشهيد مرتضى مطهري ابتعاد الحوزويين عن القرآن الكريم لصالح الفقه، في أكثر من موضع له. وقال مقولته الشهيرة: «إن القرآن مهجورٌ في أوساطنا، ومن المتوقع أن يتمسك به الجيل الجديد. وسأثبت لكم الآن كيف أن القرآن مهجورٌ في أوساطنا. إذا كان أحدنا عالمًا بالقرآن، بمعنى أنه أطال فيه النظر والتدبر، وكان على علم كامل بتفسيره، كم سيحظى منا بالاحترام؟ لا شيء».[راجع: مجموعة آثار استاد شهيد مطهري (رهبرى نسل جوان (ده گفتار))، ج‏24، ص: 533 ـ 534. وأيضًا: نقد الفكر الديني عند مطهري، تقديم محمد عمارة، ط/ المعهد العالمي للفكر الإسلامي].
المراجع
  1. توفيق الطويل، قصة النزاع بين الدين والفلسفة، ط/ الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2011.
  2. يحيى محمد، فهم الدين: الشيعة بين ولاية الفقيه والشورى
  3. د. محمد السلمي، ومحمد الصياد: الفقيه والدين والسلطة.. جدلية الفكر السياسي الشيعي بين المرجعيتين العربية والإيرانية، ط/ مركز الخليج العربي للدراسات الإيرانية، 2017م.
  4. محمد الصياد: العرفانية والانقلاب على مسار الحوزة في قمّ.. سقوط النظرية وصعود الأيدولوجيا، مجلة الدراسات الإيرانية، السنة الثانية، العدد الخامس، ديسمبر2017م.
  5. جلال الدين السيوطي: قمع المعارض في نصرة ابن الفارض، مجموعة مقامات السيوطي، تحقيق الدروبي، ط/ الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2007م، 2/ 901- 928.
  6. محمد مجتهد الشبستري، نقد القرءاة الرسمية للدين، ص46.
  7. محمد تقيّ مصباح اليزدي: «آنجه روشنفكران مذهبى ادعا ميكنند، انكار دين است»، رضا صنعتي، كفتمان مصباح، ص658.
  8. صادق حقيقت، توزيع السلطة في الفكر السياسي الشيعي، ترجمة حسين صافي، ط1/ مركز الحضارة بيروت 2014م، ص294.
  9. محمد تقي مصباح اليزدي: صحيفة خرداد، 3/ 9/ 1999م، صحيفة آفتاب يزد 26/ 5/ 2001م، صحيفة نشاط 7/ 6/ 1999.
  10. د. صادق حقيقت: توزيع السلطة في الفكر السياسي الشيعي، ص295.
  11. توفيق السيف: حدود الديمقراطية الدينية، ص137.