مشهد 1: عدد من التلاميذ بفصل دراسي متواضع، يقف المدرس لينادي على أسماء التلاميذ ممن خضعوا للامتحان. الأرقام هي البطل الرئيسي، كلما زادت عدد الدرجات، كان الطالب مجتهدًا وجيدًا ويرضى عنه الجميع.

مشهد 2: في الجامعة عدد من الطلبة يشاهدون نتيجتهم المعلقة، وتقديرهم في المواد كلٌ وفقًا لدرجاته.

يسبق كل ذلك الكثير من الترقب والقلق والخوف في البيوت نتيجة قرب الامتحانات، يتحول البيت إلى معسكر يُعتاد داخله «شد الأعصاب»، ومطالبة التلميذ بالاستذكار أكثر، وإكليشيهات يرددها الجميع عن ظهر قلب: يوم الامتحان يكرم المرء أو يهان!.


منظومة التقييم العالمية

نظام التعليم التقليدي القائم على تحصيل الطالب من خلال الاختبارات لقياس مدى تفوقه كإنسان في عشرات الصفحات من أجوبة الامتحانات التي لا يعرف أحدٌ مصيرها فيما بعد، هذا النوع من التقييم وفقًا للتعريفات الأكاديمية، هو الكشف عن مدى امتلاك المتعلم معارف ومهارات أو اتجاهات بعينها، وهو في نفس الوقت يساعدنا على تقدير فاعلية التدريس وأثره حتى أنه يجعلنا نشك فى قيمة المناهج التعليمية والمقررات الدراسية والوسائل التعليمية مما يدفعنا إلى تعديلها ومراجعتها.

حصول أحمد على الدرجة 5، ومحمد على الدرجة 5 في النتيجة لا يمكن اعتبارهما متطابقين على أساسه، وعلى الرغم من التطابق الرياضي للدرجتين.

«القياس والتقويم لماذا وكيف؟»[1] د.«أمانى سعيدة إبراهيم» أستاذ علم النفس التربوي بجامعة القاهرة

في كتاب عميد الأدب العربي المصري الدكتور «طه حسين» «مستقبل الثقافة في مصر» الذي نشره عام 1938، ورغم بعد السنوات إلا أنه نبّه إلى الفكرة ذاتها حين دعا إلى مدرسة حديثة تكون مكانًا لتنشئة العقول، وتحرير النفوس بعيدًا عن مدرسة تقليدية يدور تلميذها في ثنائية عقيمة طرفاها :التلقين والاستظهار.


ما الذي نقيسه؟

من المفترض أن يعي المعلم ما المطلوب قياسه بالتحديد، من أجل نجاح المجهود نفسه، وعدم إجحاف الطالب لحقه، هل يقيس الذكاء؟ أم الجاذبية، أم الفهم، هل يقيس نمو شخصيته، أم المفاهيم الإداركية للطالب وتحصيله الدراسي في العلوم المختلفة؟.

على سبيل المثال، هل فهم الطالب قانون نيوتن ومفهوم الجاذبية داخله، وما هي الأدلة؟ هل نكتفي بسرد مبادئ القانون ونصه؟

ما سبق يعني القياس التراكمي الذي أشارت إليه د. «أماني سعيدة إبراهيم» أستاذ علم النفس التربوي بجامعة القاهرة في كتابها «القياس والتقويم. لماذا وكيف؟» لكنها تطرقت أيضًا إلى قياس آخر وهو القياس غير المباشر.

مثال: قياس الإتجاهات نحو القراءة عن طريق مظاهر السلوك التي تدل عليه، وقياس التحصيل الحركي من الأداء، وهو مايحدد الفروق الفردية بين الطلبة، والفروق في الفرد ذاته وما يمتلكه من سمات، وهو المطلوب في العملية التعليمية، وهو أقرب لمفهوم الاختبارات التحصيلية التي وضعها رايس 1898.

نحن نعد الأطفال لتعلم كيفية التعلم، وليس كيفية إجراء اختبار.

قالها«باسى سالبيرج – Bassi Salberg» المدرس السابق في الرياضيات والفيزياء في وزارة التربية والثقافة بفنلندا، في مقال سابق بعنوان: «لماذا مدارس فنلندا ناجحة؟» في مجلة «Smithsonian»، والمعروف أن فنلندا قدمت تجربة بديعة في التعليم، جعلت مؤشر دافوس يضعها فى تصنيفه الدولة الثالثة بعد سويسرا، وسنغافورة في جودة التعليم.

النظام الفنلندي لا يأخذ الامتحانات إلا فى سن المراهقة، ولا يتم قياس الأطفال في السنوات الست الأولى من تعليمهم، وهناك اختبار موحد إلزامي في فنلندا يتم أخذه عندما يكون الطالب في عمر 16 سنة.

يضع «باسي سالبيرج» مفاتيح تجربتهم من خلال مقال آخر عام 2016 ترجَمَهُ مركزُ البيان للتخطيط في بغداد قال، إن أسباب عدم استخدام فنلندا الاختبارات الموحدة هي:

1. إن ممارسة التقييم على الأرض موجود على نحو جيد داخل المناهج الدراسية نفسها، وسياسة التعليم لديهم تعطي الأولوية للتعليم والإبداع الفردي، وهو جزء مهم تعمل به المدارس الفنلندية. بالتالي فالحكم على تقدم الطالب هنا يكون حسب التقدم والتطور الفردي والقدرات، وليس على أساس المؤشرات الإحصائية.

2. مطورو التعليم في فنلندا يصرون على أن المناهج الدراسية والتدريس والتعلم، ينبغي أن تقود تدريس المعلمين في المدارس بدلًا من الاختبار.

3.فنلندا تنظر إلى التعليم الأكاديمي على أنه مسؤولية المدرسة، وليس الأطراف الخارجية – أي أنها هي التي تعي إلى مدى تعلم الطالب.

تعترف المدارس الفنلندية رغم ذلك بوجود بعض القيود مقارنة بأهدافهم حينما يقوم المعلمون بتقييم مستوى الطلاب، وأن المشاكل غالبًا ما ترتبط مع الإختبارات الخارجية التي تضيق المناهج، وتجعل التدريس بغرض الوصول للإختبار مما يزيد المنافسة غير الصحية.

ما سبق يجعل عدد ساعات عمل المعلم الفنلندي 600 ساعة فقط سنويًا، مقابل 1080 ساعة في الولايات المتحدة الأمريكية، لأنهم يفضلون صرف وقت التقييم في تحسين الممارسات داخل الصف الدراسي.


تدريس أقل.. تعليم أكثر: النموذج السنغافوري مثالاً

سنغافورة دولة أخرى من الدول التي لها تجربة مميزة جعلتها مثالًا خاصة في منهج الرياضيات الذي تعتمد عليه، ويجعل طلبة سنغافورة متفوقين في التقييمات الدولية التي يمرون بها، مما جعلها تحتل المركز الثاني في جودة التعليم، وفقًا لمؤشر دافوس التابع إلى المنتدى الاقتصادي العالمي.

خصصت سنغافورة 159 مليون دولار للأبحاث العلمية في عامي 2013، 2017

عام 2005 تبنت الحكومة السنغافورية سياسة تعليمية جديدة، مبدأها «تدريس أقل تعليم أكثر»، والتي شجعت المعلم على التركيز على جودة التعليم لا كمّه، وعدم قصر الإهتمام على غرض الإعداد للاختبارات.

إلا أنه رغم ذلك يخشى أولياء الأمور في سنغافورة وفقًا لملاحظة معهد سنغافورة لتطوير المناهج الدراسية، أن يتحول أبناؤهم إلى آلات خاصة، وأن هناك ثغرة تحت التطوير، وهي أن الأطفال في سنغافورة يحصلون على تقييم أقل في حالة استخدام طرقهم الخاصة في الحل، حتى وإن كانت الإجابة صحيحة.

التجربتان السابقتان في الأخذ بتقييم مختلف، ونماذج جديدة في التعليم تقترب من فكرة د. «مجدي عزيز إبراهيم» في «موسوعة التدريس» المكونة من 5 أجزاء، والتي انتقد فيها فكرة الامتحان والتقييم المعتاد للطلبة.


والدرووف.. نموذج على الحل

يحررنا نظام التعليم الحديث والدروف الذي وضعه الفيلسوف النمساوي، والعالم «رودولف شتاينر» فكرة التقييم، كما يحررنا من قيود التعليم المعتادة، ويراهن على تلميذ جديد تمامًا، ويستند إلى وجهة نظر أن الإنسان يتكون من الجسم والروح والروح، ويسمح بتعليم كلي ومتوازن حقًا يغذي الطفل كله.

كما لا يوجد نظام حصص في والدروف والمعلم يتابع الطلبة، ويشرح لهم خلال أسبوع أو أسبوعين موضوع ما حتى ينتهي الموضوع تمام من كل الجوانب، كما أن طبيعة الدراسة فيه المرتبطة بدفاتر الرسكم الكبيرة تجعل هي الأساس في المعلومة فيما بعد والتلميذ يصنع مراجعه بنفسه.

لا يوجد تقييم بالعلامات للطلاب وأنما هي مراقبة لتطور الطالب واهتماماته وخصائصه، وكتابة تقرير تفصيلي عنه يحتوي على نمو معارف الطالب، لأن الهدف من التعليم -وفقًا لمنهجهم- هو عيش المعرفة، لا تلقينها!.

وفي اتصال مع د.«كمال مغيث» الباحث في المركز البحوث التربوية بالقاهرة قال لنا:

كما عرف مغيث المدرسة أنها ليست مجرد مكان، بل هي وجدت للاتصال الاجتماعي، واكتساب أشياء أخرى خلاف المناهج المحشوة، خاصة وأن القدرات العقلية المرتبطة بالحفظ هي أدنى سلم القدرات، وهو ما يجعلنا أمام إلزام مراجعة فكرة التقييم بأكملها.


الحل: الهرب من التقييم للتعليم

الأصل في الحياة هو التعلم والتعليم وليس التقييم، فالمفترض أننا نعلم الأطفال من أجل الحياة، لكن وجود مؤسسات وروتينها جعلنا لعملية الفرز التي أساسها الإختبارات، وهو ما فتح الباب للكثير من الظواهر السلبية، إضافة إلى خلق نماذج أبعد ما يكون عن التعليم.
نرى عدة حلول يمكن اعتمادها أفكارًا خارج الصندوق:

1. المناهج المتخذ بها حاليًا فى مدارسنا تعاني من التأثير الضار لتحويل التقييم إلى قياس، لذا وجب استبدالها سواء من خلال الدولة أو الأسرة ببعض وسائل التقييم المتطورة في التعليم الموازي.

2. ينبغي أن تشتق فلسفة التقييم من فلسفة المنهج وليس العكس، فطبيعة المنهج هي التي تحدد التقييم لا العكس.

3. يجب أن يسأل المدرس نفسه: «ماذا أريد أن يعرف الطالب أو يفهم أو يعمل أو يشعر؟»

4. الحكم على التلاميذ من خلال المعرفة التي لديهم لا الحكم عليهم من خلال ما لا يعرفونه.

5. الاختبارات تغفل الاهتمام بشخصية المتعلم فقد يكون متفوقًا ولديه قصور في نظرية ما، أو إنطوائي أو جبان.

6. تتسبب الاختبارات المعمول بها في المدارس الخوف والفزع وإجهاد الطالب بحفظ المعلومة، ويفرز سلوكيات أخرى مثل الغش والسرقة وفساد الأخلاق.

كل ما سبق يأتي في سبيل تأكيد أن الممارسة المرتبطة بالاختبارات تشجع على الحفظ، والاستظهار، والتعلم الصم. بالتالي لا تدل نتائج الاختبارات على شخصية التلميذ، وهناك حاجة إلى أساليب حديثة فعالة وحقيقية في منظومة التعليم لقياس استيعاب وفهم الطفل، بمراعاة الفروق الفردية، هذا هو الحل.

المراجع
  1. سعيدة أبو زيد، أماني، القياس والتقويم لماذا وكيف؟، معهد الدراسات والبحوث التربوية جامعة القاهرة، 2004، ص 30.