تعرف الموسوعة البريطانية العلاج النفسي بأنه أي شكل من أشكال العلاج للاضطرابات النفسية أو العاطفية أو السلوكية، التي يقيم فيها معالج مدرب علاقة مع واحد أو عدة مرضى بغرض تعديل أو إزالة الأعراض وتعزيز نمو الشخصية، ويكون هذا المعالج ملتزمًا بنظرية معينة فيما يخصص أسباب هذه الأعراض وسبل تخفيفها.

يمكن تصنيف المعالجين النفسيين وفق النظريات أو الفلسفات أو التقنيات التي يتبعونها في جلساتهم إلى واحدة من عدة مدارس علاجية رئيسية، منها العلاج المركز عاطفيًا والعلاج المعرفي السلوكي والعلاج النفسي الوجودي.

بالنسبة إلى العلاجات النفسية الوجودية، يصعب وضع تعريف جامع مانع لها، نظرًا إلى تنوعها ونموها المستمر، إلا أنه يسعنا القول إنها نهج للعلاج والإرشاد النفسي، ذو منحى فلسفي، يهتم بالإرادة الحرة والقدرة على تقرير المصير والتوق إلى المعنى، كما يهتم بالمريض ذاته لا الأعراض المرضية، مؤكدًا قدرته على اتخاذ خيارات عقلانية وبلوغ أقصى إمكانياته.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية بدأ المعالجون النفسيون في الانجذاب إلى الفلسفة الوجودية والاسترشاد بمبادئها، كان من أشهر هؤلاء المعالجين الطبيب النفسي النمساوي فيكتور فرانكل (1905-1997) مؤسس مدرسة العلاج بالمعنى (Logotherapy) وصاحب كتاب «الإنسان يبحث عن معنى» المترجم إلى تسع عشرة لغة. إلى جوار مدرسة فرانكل، شهد تاريخ العلاجات النفسية الوجودية عددًا كبيرًا من المدارس، أبرزها المنحى الأمريكي الوجودي-الإنساني، والمدرسة البريطانية للتحليل الوجودي.

مدرسة العلاج بالمعنى

تأسست مدرسة العلاج بالمعنى في العشرينات على يد فيكتور فرانكل الشهير بتجربته المريرة في معسكرات الاعتقال النازية التي تركت أثرها على أعماله. كما تأثر فرانكل بمدرسة التحليل النفسي الفرويدية مبكرًا، قبل أن ينتقل منها إلى مدرسة ألفرد أدلر، ليخرج منهما بفكرة وجود قوى واحدة محفزة وراء كل المشاعر والسلوكيات والأفكار الإنسانية، لكن بينما كانت تلك القوة هي إرادة اللذة عند فرويد، وإرادة القوة عند أدلر، كانت عند فرانكل إرادة المعنى.

كانت لكتابات الفيلسوف الألماني الظاهراتي ماكس شيلر (1874-1928) أثر واضح على فيكتور فرانكل الذي دمج الأنثروبولوجيا الفلسفية لشيلر في الممارسة العلاجية النفسية، مقدمًا الحجج النظرية والتجريبية على العلاقة الاعتمادية التي تجمع الروح بالنفس والجسم رغم كونه مستقلاً عنهما في آن واحد. في الوقت نفسه يقبع خلف العلاج بالمعنى قدر لا يمكن تجاهله من الروحانية والخلفية الدينية التلمودية.

كان فرانكل يرى أن فقدان المعنى في حياة الإنسان يؤدي إلى فراغ وجودي قد يتطور إلى عصاب معنوي أكثر حدة، يدفع بالفرد شعوريًا أو لا شعوريًا إلى أفعال قهرية أو سلوكيات انتحارية في محاولة يائسة منه لملء هذا الفراغ. هنا يأتي دور العلاج بالمعنى، وفيه يساعد فيه المعالج العميل على إعادة اكتشاف المعنى في حياته، لا خلقه أو اختلاقه، فهناك دومًا معنى واحد لكل موقف يواجه الإنسان، عليه هو وحده إيجاده، بل هي مسؤوليته.

يقترح فرانكل ثلاث طرق يستطيع المرء بها تحقيق المعنى من أي موقف. أولًا إنتاج عمل أو إسداء معروف ما. ثانيًا، الانفتاح على العالم، عبر حب شخص أو معايشة تجربة ما. أخيرًا تغيير الموقف تجاه معاناة محتومة.

المنحى الأمريكي الوجودي-الإنساني

بزغ العلاج النفسي الوجودي الإنساني – الأكثر تفاؤلاً – في الولايات المتحدة في الأربعينيات، ويعد مؤسسه هو الأمريكي أبراهام ماسلو (1905-1970)، لكن بمرور الوقت صار ارتباطه الأوثق بمواطنه عالم النفس كارل روجرز (1902-1987). لم يتأثر أعلام ذلك المنحى بكتابات الفلاسفة الوجوديين مباشرة، إذ أقروا بأنهم يجدون صعوبة في قراءة الكثير من مصادرها، بل تم ذلك عبر تعاليم بول تيلش، وكان من أبرز ما استقوه منها فكرة ظهور القلق العصابي حال إنكار القلق الوجودي، وكذا معاناة الإنسان من عدد من الهموم الجوهرية.

يؤمن الوجوديون الإنسانيون بأن معظم طاقات الإنسان توجه لصد قلق ما، كما يؤمنون بأن معظم هذه العملية يجري خارج الشعور، لكنهم – على عكس فرويد – لا يرون أن جذور هذا القلق جنسية أو عدوانية، بل يرجعونها إلى الوعي بواقع الوجود ذاته. إن الوجود بما فيه من شكوك وألم وحرية وفقدان للمعنى يشكل تهديدًا كبيرًا على الفرد إلى درجة أنه يحاول إنكار أو تحريف هذا الواقع باستخدام آليات دفاعية مثل السلوكيات القهرية أو الإسقاط.

يبدأ الطريق إلى مواجهة هذا الوجود في نظر الوجوديين الإنسانيين من الاعتراف بعالمنا الداخلي من الخبرات الذاتية، فهو الوطن ومركز الوجود، ويحتم ذلك امتلاك وعي بخبراتنا الفعلية اللحظية. لكن حقيقة الفرد لا تتحدد فقط في رغبته في معرفة ذاته، بل وكذا في رغبته في معرفة الآخرين له، أي امتلاكه الوعي والمشاركة ما استطاع ذلك.

يساعد المعالج في المنحى الأمريكي الوجودي الإنساني عميله أولًا على ملاحظة مقاومته العملية، إما عبر زيادة وعي العميل بكيفية وضعه للعراقيل أمام نفسه. وإما عبر دفعه للتغلب على ما يعترضه من عراقيل بطرق متفاوتة الشدة. كما يشجع المعالج العميل على التعبير عن خبراته اللحظية، خاصة مشاعره تجاه المعالج نفسه. إلا أن ذلك كله يتوقف في النهاية على الحضور، أي امتلاك نية للسماح لما يحدث في موقف ما أن يكون ذا تأثير.

بيد أن ما يميز المنحى الوجودي الإنساني حقًا، هو إيمانه بوجود اهتمامات جوهرية يواجهها أي فرد، تشكل منبع الخوف لنا جميعاً، لا بد أن يواجهها العميل خلال رحلته العلاجية، لكن يختلف أعلام المدرسة في تصنيف تلك الاهتمامات، من أشهرها تصنيف الكاتب والبروفيسور الأمريكي إيرفين يالوم الرباعي: الموت، والحرية، والعزلة، وفقدان المعنى.

المدرسة البريطانية للتحليل الوجودي

عرف الطب النفسي البريطاني الأفكار الوجودية عن قرب في الستينيات، عبر كتابات الطبيبين النفسيين الوجوديين رونالد لينج (1927-1986) وديفيد كوبر (1931-1988) اللذين شككا في مفهوم المرض العقلي، معتبرين إياه بناء اجتماعيًا لا حقيقة. وقد أسسا رابطة لرعاية المجتمعات العلاجية النفسية في لندن، كبديل عن العلاج النفسي المؤسسي التقليدي.

انتقل العديد من المعالجين ذوي التوجهات المختلفة الذين قدموا إلى لندن في البدء بسبب حركة معارضة الطب النفسي نحو تطبيقات أكثر انضباطًا للفلسفات الوجودية بمرور السنوات. ومع إنشاء جمعية التحليل الوجودي في لندن عام 1988 وإطلاقها مجلتها المتخصصة وجد هؤلاء الممارسون الوجوديون بيتًا لهم ومنتدى للتعبير عن وجهات نظرهم الوجودية المتنوعة.

مع تنوع الاهتمامات والممارسات داخل المدرسة البريطانية للتحليل الوجودي، امتدت قائمة الفلاسفة الوجوديين ذوي التأثير فيها إلى درجة كبيرة، لكن يمكننا وضع مارتن هايدجر على رأس القائمة بعمله الأشهر «الوجود والزمان»، وإن كان لم يسلم من انتقادات بعض أبناء تلك المدرسة.

على عكس الوجوديين الإنسانيين، ترفض المدرسة البريطانية النزعة الفردية والذاتية وتؤمن بطبيعة متأصلة في الوجود البشري في العالم مع الآخرين. كما استغنى معظم معالجيها عن مظاهر التحليل النفسي في الممارسة العلاجية الوجودية، فلا يتم رؤية العميل سوى مرة أسبوعياً، غالباً لفترة وجيزة، لا يدعى فيها عادة إلى الجلوس على الأريكة، ولا يلقى تشجيعاً على الاعتماد على معالجه.

لا ينظر المعالج في المدرسة البريطانية للتحليل الوجودي إلى عميله من منظور التصنيف والتشخيص الإكلينيكي، بل يعتبره فردًا يعاني مشكلات في طريقة عيشه، كما قد يعاني غيره أيًا كان في وقت ما. كذلك لا يسعى المعالج إلى مساعدة العميل بغرض تحقيق معيار ما من معايير الصحة النفسية يؤهله للانخراط ثانية في المجتمع، بل يشجعه على اكتشاف أسلوبه الفريد في الوجود، كل ذلك في علاقة متكافئة بين المعالج والعميل.

تحديات وجودية

ثمة تحديات كامنة داخل الفلسفة الوجودية ذاتها، سواء مفاهيم وأفكار لم تدرك إمكاناتها العلاجية بشكل كامل بعد، مثل مفهوم «الإخلاص الإبداعي» لدى الفيلسوف والأديب الفرنسي غابريل مارسيل (1889-1973)، أو كتابات داخل حقل العلاج الوجودي لم تتطور بشكل كاف بعد، مثل كتابات الأمريكي الألماني أروين شتراوس والفرنسي أوجين مينكوفسكي، أو غيرها. كما نجد إلى جوار ذلك كله تحديات كبرى تواجه العلاجات النفسية الوجودية من خارج نسقها الفلسفي.

من الانتقادات الشائعة للعلاج النفسي الوجودي تركز فائدته على العملاء القادرين على التواصل الشفوي بفعالية والذين لا يخشون البوح، وكذلك الذين يتمتعون بوع وقدر كافيين من الثقافة والفكر، كما أنها تتطلب من المعالج قدرًا عاليًا من النضج والتجارب الحياتية لإدارة البرنامج بنجاح.

تنبني علاقة المعالج بالعميل في أكثر مدارس العلاج النفسي الوجودي على فلسفة خاصة، تمثل تحديًا في حد ذاتها. إذ يرفض معظم المعالجين الوجوديين اعتبار تقديم النتائج هدفًا للعلاج، أو كما تقول الهولندية إيمي فان ديورزين: «ليس ثمة علاج للحياة»، وهو ما يضعهم في موقف ضعيف أمام غيرهم من المعالجين في القطاعات ذات الطابع العام.

في النهاية، نجد أن للعلاج الوجودي في الأساس توجهاً معادياً للمؤسسية، مما يحدو به إلى موقف متشكك تجاهها الأبحاث الموضوعية القائمة على الأدلة بشكل عام. لذلك على المعالجين الوجوديين التمتع بمزيد من الصراحة حول أهداف العلاج الوجودي وكذا نوعية العملاء الذين يمكنهم تلقي تلك الخدمة بفاعلية، فلا شك أنها غير مناسبة لجميع العملاء، مثل من يحتاجون إلى معلومات أو إجابات فورية.

المراجع
  1. Cooper, Mick. (2003). Existential Therapies. Thousand Oaks, CA: SAGE Publications.
  2. van Deurzen, E. (2010). Everyday Mysteries. London: Routledge,
  3. Lehmann O, Olga V & Klempe, Sven. (2015). Psychology and the Notion of the Spirit: Implications of Max Scheler’s Anthropological Philosophy in Theory of Psychology. Integrative psychological & behavioral science.