المبدع في حاجة مستمرة إلى من يُقدر جهده ويظهر له بعض الثناء حتى لا يتوقف ويموت، والإنسان ينتظر رد فعل المجتمع تجاه ما يقدمه وإن تجلد وتعفف؛ ومن هنا تأتي الجوائز كمحاولة لتقديم ما يجب تقديمه للمجتهدين كي لا يستشعروا الخيبة تجاه ما صنعته أيديهم.

وفي الوقت ذاته لا بد أن يعي المبدع أنه قادر على رفض أي تكريم يخرج عن صورته الطبيعية ويحوي نوايا غير التقدير والتكريم، ربما هذا ما قصده صديقي عندما أدار الفكرة داخل تجاويف الرأس، وسألني حينما كنا متوجهين لتسلم جائزة من شخصية ثقافية كبيرة قائلا: هل تستطيع أن تمتنع عن تسلم الجائزة؟.

فسألته عن السبب مستغربًا ذلك، فقال: احتجاجًا على مواقفه تجاه قضايا معينة مثلًا.

في الحقيقة لم تكن قيمة الجائزة عالية لهذه الدرجة لكن الفقر الذي يعيش فيه الكاتب يدفعه إلى الحفاظ على أول قرش يحصل عليه من مائدة الكبار

واشتعل صراع عنيف بداخلي في أقل من دقيقة، أثناء هذه اللحظة البسيطة حسبت بالعداد الرياضي الخفي حجم الخسارات التي أتلقاها، وحسمتُ موقفي قائلا: لا، لا أستطيع رفض الجائزة.

سألني: لماذا؟.

قلت: إنني بحاجة يا صديقي إلى قيمة الجائزة المالية بأسرع وقت.

هذه هي نقطة الارتكاز والانطلاق إذا أردت أن تسلط الأضواء على قيمة الرفض الكامنة داخل المنجز البشري. ما طرحه صديقي بثعلبية واحتراف ماكر صنع داخل النفس دوامة ومحاكمة صادقة لاستجلاء قوة الإنسان في تحقيق المبدأ أمام الغواية. إنني لم أكن بهذه القوة التي تقدر على الصمود أمام الإغراء المادي للجائزة، في الحقيقة لم تكن قيمة الجائزة عالية لهذه الدرجة لكن الفقر الذي يعيش فيه الكاتب يدفعه إلى الحفاظ على أول قرش يحصل عليه من مائدة الكبار، ويخلف بداخله الصراع الدائم.

ولكن: لماذا يصر الكاتب على التكسب من وراء كتاباته؟

هل تم التخطيط جيدًا لمحاولات السيطرة على المثقفين؟، هل الجائزة أداة؟.

وما بين إصرار الكُتاب على الكسب، ومحاولات تثبيت الشرك في الأماكن المناسبة، يقع المسكين في مصايد الآخرين. يا عزيزي إن لم تنجح القوة في إخماد الصوت فكثيرًا ما ينجح المال متخفيًا في أقنعة الجوائز والمناصب، هذه حيلة ذكية وخدعة لطيفة لا تؤلم الضمائر المناضلة. نحن نعرف أن أصواتًا كثيرة كانت تقف داخل دائرة مطالب الثقافة والإصلاح وتبديل السياسات، وكانت تتحدث عن دور الوعي الجمعي، وعندما وصلت إلى المناصب والسلطة تناست ما كانت تروّج له وتنشره، وتصبح كلمة المال المُقنع هي إجابة لسؤال: لمَ كل هذا التخاذل؟.

ولقد روت لنا صفحات التاريخ هذا الموقف الشجاع من الزعيم الشعبي الأزهري السيد عمر مكرم تجاه نابليون الذي أراد أن يخمد حركة النضال المستمرة تجاهه، حاول إسكات زعماء النضال فأنشأ لهم الديوان كمجلس يضم تسعة من العلماء؛ ليضع الحكم في أيديهم بعد الخلاص من الجنود المماليك. فما كان من السيد عمر مكرم إلا أن يرفض الدخول في هذا الديوان؛ لأنه يعرف أنها حيلة لوأد الصوت ولكن بشكل جمالي.

إنني أشيد بهؤلاء الذين وثقوا في قوتهم، وأدركوا قيمة الرفض التي تبعث أسماءهم حية ولها اعتبار في الوجود البشري، حققوا التوازن بين ما يقولون وما يفعلون، التوازن الذي يحتاج إلى قوة تدفعه للفعل الذي يليق بفكره وفلسفته. وضرب جان بول سارتر مثالاً رائعًا عن الكاتب الذي يدرك قيمة الرفض ويصنع توازنًا عجيبًا بين المبدأ والفعل، ابتعد عن الجوائز خوفًا من الارتباط بالمؤسسات المانحة. رفض سارتر جائزة نوبل في العام 1964م ووصفها أنها قبلة الموت، وقال:

والجوائز تحرك جيد من ناحية المؤسسات والدول لا شك، وآلة جادة في تحريك العلوم والفنون في اتجاه التطور، وبإمكان جائزة معينة أن ترسم لنفسها في تاريخ العلم أو الفن والأدب مدرسة يتشرف الأدباء بالخروج إلى عالم الكتابة من تحتها، وأنهم حصلوا عليها ذات يوم، بإمكانها أن تضع في التاريخ مدرسة فنية في الكشف عن النصوص التي تستطيع أن تصنع تغييرًا.

ولكن: هل يمكن للجائزة أن تقف محايدة لدرجة بعيدة؟

إنّ حكم الآخرين علينا ما هو إلا محاولة لتحويلنا إلى موضوع وتشييئنا، بدل النظر إلينا كذوات إنسانية.

يتم توجيه الأضواء بعناية تجاه المؤسسات والدول المانحة للجوائز، ترقب الأضواء ظهور الشخصيات الموسومة بلقب الجائزة لتحتفي به، تظهر لنا نجمًا، وفي نفس الوقت تمارس عملية بشعة من القتل العمد حيث تتجاهل نجومًا تغفو في الظلمة لمجرد أنها لا تحلق في مداراتها المرسومة من قبل المؤسسة. فهي في الوقت الذي تكرم فيه شخصًا جديدًا فهي تقتل بطريقة ماكرة، تضرب اثنين في وقت واحد؛ الأول الذي فاز بالجائزة ليخبو صوته ويرضى بالسطوع والظهور والقيمة المالية، والثاني ذلك الذي يقف هناك في دائرة الظلام نتيجة لتحول الضوء إلى هؤلاء الذين ذهبوا بالجوائز؛ ليقف وحيدًا يواجه الصمت والتهميش.

في السابق عرض الأزهر على الدكتور طه حسين شهادة العالمية تكريمًا له، لكنه رفض لكي لا يصبح مثل الشيخ علي عبد الرازق الذي منحه الأزهر شهادة العالمية وسحبها منه لرأيه الذي يراه. فالرفض اختيار يندفع تجاهه الكاتب كي لا يقع في شرك الآخرين فيدور في المسارات المرسومة مسبقًا، وتحقيق فِعلي للمبدأ الذي آمن به، وتتجلى قيمته قوية عند هؤلاء الذين ينعمون بقوتهم الذاتية، وتصبح سلاحًا في أيديهم العزلاء.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.