إنها رحلة إلى أرض الخيال والأبطال، بلاد الكرد (سكان أكثر المناطق إثارة وغموضا في الشرق الأوسط) كما وصفهم رئيس الجمعية الجغرافية الملكية في بريطانيا. تلك البلاد التي أمدت الحضارة الإسلامية بالأبطال وبالمزيد من الحكايات والغرائب التي استلفتت أنظار الباحثين والرحالة، ولكنها على قدر ما أعطت على قدر ما تعرضت للتشويه والأكاذيب، والذي جاء لينصفها هذه المرة من بعض أكاذيب الرحالة، هو نفسه أحد المشاركين في التآمر عليها وتقسيمها، إذ كانت السياسة البريطانية في ذلك الوقت هي منع روسيا من الوصول إلى المياه الدافئة والتسلل إلى مضايق إستانبول عبر القوقاز والوصول إلى الخليج العربي، للحفاظ على طريق مستعمراتها في الهند، وكذلك مواصلة التنقيب عن البترول الذي ظهر حديثا في العراق.

صاحب الرحلة هو مارك سايكس (1879 – 1919م) Mark Sykes، هذا الاسم الإنجليزي ذو الوقع الخاص لدى العرب، حيث يرتبط بالانتداب أو الاحتلال البريطاني للمنطقة، بل اختياره لمسميات هذه البلدان وتحديد جغرافيتها السياسية التي ما زالت قائمة حتى الآن، فقد كان أحد أثمن وأبرز الروافد المعرفية التي أمدت الوزارات البريطانية في مطلع القرن العشرين بمعلومات حول المنطقة العربية، واتخذت طريقها مباشرة إلى الجهات التنفيذية وصانعي السياسات ومتخذي القرار، وكانت المحصلة النهائية لهذه المعلومات هي صياغة الاتفاقية التآمرية الاستعمارية المعروفة بـ «اتفاقية سايكس/ بيكو».

الكولونيل مارك سايكس، رحالة إنجليزي، ودبلوماسي وسياسي في حزب المحافظين الإنجليزي، مهتم بقضايا الشرق الأوسط، وكان مارك سايكس يسافر في أغلب فصول الشتاء بصحبة والده إلى الشرق الأوسط،، كما زار الهند، ودول الكاريبي، والمكسيك، والولايات المتحدة الأمريكية، وكندا. ولكنه كان أكثر اهتمامًا بالشئون العثمانية [1].

ورغم مؤلفات سايكس التي نشرها مبكرًا بما فيها كتب الرحلات [2]، فإنها تخلو من كتاب عن رحلاته للمنطقة العربية أو العراق والمنطقة الكردية بصفة خاصة، والذي بين أيدينا أربعة مقالات نشرها في بعض الدوريات العلمية البريطانية المتخصصة في الجغرافيا والأنثروبولوجيا، سوف نعتمد فقط على أولاها وهي: «القبائل الكردية في الإمبراطورية العثمانية The Kurdish Tribes of the Ottoman Empire»[3]، وهي التي نشرت سنة 1908م، والمقالات الأربعة تقدم مادة علمية للباحثين، وهي على قدر كبير من الخطورة والأهمية، وتحتاج إلى الدراسة بعناية من جهتين:

الأولى: من جهة المعلومات الأنثروبولوجية والجغرافية القيمة، والخرائط التفصيلية التي تفرد بها سايكس عن القبائل الكردية .

والثانية: من جهة النتائج السياسية المترتبة على معلومات سايكس التي أمد بها الدوائر العلمية والسياسية والحربية في بريطانيا .

مع الأخذ في الاعتبار الخلفية الثقافية والسياسية التي كان يحملها سايكس، والتي تبرز – إلى حد ما – رؤية الرحالة والساسة الإنجليز خاصة والأوربيين عامة للبلاد والشعوب العربية وديار الإسلام التي عناها سايكس في كتبه.


أهمية رحلات مارك سايكس

ربما تكون المقالة الأولى من رحلات سايكس هي أيضًا المحاولة الأولى لرسم خريطة إثنوجرافية لتوزيع القبائل الكردية في الدولة العثمانية، بل وتقديم معلومات مفصلة عن أسماء هذه القبائل ومناطق تمركزها، والجهات التي تنتقل إليها في المواسم المختلفة، وغير ذلك من المعلومات.

وقد كانت الخريطة التي ضمنها في مقاله هي الأساس في ذلك، ومعها في نهاية المقال فهرس أبجدي بأسماء القبائل، مرقم برمز ورقم موقعها على الخريطة . حيث قسم الخريطة إلى ستة أقاليم هي: A,B.C,D,E,F، ووضع أرقاما مسلسلة في كل إقليم منها على الخريطة، وبالتالي يسهل العثور على أي قبيلة في الملحق وعلى الخريطة، كما يسهل الحصول على معلومات عنها داخل المقال، ثم هو يقرر في ختام مقدمته بأن هذا التقسيم «لا يمثل تصنيفًا إثنولوجيًا، وإنما هي مجرد تصنيف مناسب»[4].

خريطة القبائل الكردية في الإمبراطورية العثمانية
خريطة القبائل الكردية في الإمبراطورية العثمانية كما وردت في كتاب مارك سايكس

تبرز أهمية رحلات سايكس أيضا في المعلومات الجديدة الموثقة التي قدمها، بخلاف المعلومات المغلوطة التي روج لها الرحالة السابقين الذين تعجلوا الحكم على الجنس الكردي برمته بناء على معلومة أو موقف استثنائي؛ فعمدوا إلى التعميم دون دقة أو مبرر منطقي.

وهو ما قرّره سايكس وأكّد عليه أكثر من مرة، فعند حديثه عن قبيلة قره كيج وصفهم بأنهم قساة ومتوحشون، وأن سمعتهم السيئة معروفة في كل مكان، يقول: «نتيجة لوقوعها على الطريق العام فإن ذلك قد وصم الأكراد جميعا بسمعة سيئة من جانب العديد من الرحالة». وأضاف أنه «يوجد بين ديار بكر وطور عابدين الكثير من الكرد غير القبليين الذين لا يحملون لقبًا، والذين من الواضح أنهم منبوذون من عشائرهم، ويبدو أن أسوأ هؤلاء غير المرغوب فيهم ينسبون أنفسهم إلى قبيلة قره كيج»[5].

وعند ذكر القبائل في القسم D وسلوكهم الأخرق قال بأن الرحالة خرجوا بفكرة عامة من تلك القبائل، واعتقدوا أن جميع الكرد يشبهونهم [6] . وعكس ذلك حدث مع قبيلة سنامنلي، فقد شاع أنهم «ودودون مع الأوربيين والغرباء، وهذه الفكرة أدت إلى شيوع الفكرة القائلة بأن كل الشيعة أو القزلباش مثلهم، ولكن على العكس من ذلك فأنا لي تجربة مريرة معهم»[7].


غرائب أخبار الكرد

وقد تفرد سايكس بذكر العديد من المعلومات والأخبار الغريبة عن الكرد، فقبائل الطائفة الأولى من القسم D «توجد بينهم عادة غريبة، وهي أن نساءهم يحلقون شعر رءوسهن على شكل قصة شعر الراهب، وجميعهم من المسلمين السنة»[8].

ويتناول غرائب قبيلة أخرى فيقول:

تقوم نساء قبيلة الجبرانلي بحلق شعر رءوسهن كما يفعل الرجال، أما الرجال فيرتدون الملابس الأكثر غرابة، وهي عبارة عن طراز باعة الخضراء أو الفواكه المتجولين في حي إيست إند، وتتكون هذه الملابس من: أزرار لؤلؤية الشكل، ياقة مخملية سوداء، بنطلونات فضفاضة فيها ثنية ساق وحزام . ويزيد عليهم الموسرين والأثرياء، فيرتدون قلادة وربطة عنق، ويرتدون على رأسهم طربوش ضخم أبيض من اللباد يبلغ ارتفاعه حوالي قدم واحد، ويكون منتفخا نحو الخارج مثل القلبق، ويلفون حوله عمامة صغيرة جدًا من الحرير. وهؤلاء هم الكرد الوحيدون الذين رأيتهم يرتدون هذا الأزياء الغريبة، وأعتقد أن هذا الزي حديث باستثناء الطربوش. والخاصية الفريدة الأخرى لدى الجبرانلي هي أن لديهم شاربين خديين ضيقان عن الصدغين وعريضان مستديران عند الفكين السفليين ومشذبين، ولهم شعر طويل . وكل هذه التركيبة الغربية تشكل طريفا وغريبا، ويجب أن أضيف بأنهم يشبهون الحيدرانلي كثيرًا من حيث المظهر فهم أشبه بفن الجروتسك Grotasque القبيح.[9]

الفلاحون الفلاسفة!

وننتقل من الغرائب في الشكل والمظهر إلى المعلومات المفاجئة عن هذا الشعب الجبلي فيقول عن قبيلة كورشلي إنهم «فلاحون رائعون ويميلون كثيرًا إلى التأمل الفلسفي، وهذا الأمر ملفت جدًا للانتباه؛ خاصة وأنهم أميون»[10].

ولا تقتصر مفاجآت سايكس على المعلومات والصفات الغريبة من ناحية المظهر والسلوك، إنما أيضا من ناحية الصفات الأخلاقية الحميدة التي يجد عليها الكثير من الكرد بعكس ما هو شائع عنهم، ثم هم في الوقت ذاته يتصفون بما يتناقض مع تلك الأخلاق، مما يجعل القارئ والمتابع في حيرة.

يقول عن الطائفة الأولى من قبائل القسم E:

إن كرد هذه الطائفة مستقرون بالكامل، ويقومون ببناء قرى جميلة، كما أنهم مجدون وأذكياء ومسالمون، ولكنهم غدارون للغاية، وفي بعض الأحيان نجدهم قساة وبلا شفقة، ومن الشائع بينهم الشعر الأشقر والعيون الزرقاء، كما أن رجالها جميعًا قصار القامة، ولكنهم وسيمون ومطيعون للغاية في تصرفاتهم. وقد التحقت بكل قبائل هذه الطائفة عوائل محددة من الرحل.[11]

أديان ومذاهب ومعتقدات الأخرى

حرص سايكس على ذكر ديانة القبائل الكردية التي تناولها، والمذهب الذي تتبعه سواء كان مذهبًا إسلاميًا (سنيًا – شيعيًا) أو مذهبًا مسيحيًا (نسطوريًا – يعقوبيًا)، وذكر كذلك المعتقدات والأديان الوضعية الأخرى، فعند الحديث مثلًا عن قبيلة (الشبك) يقول: «يرى البعض أنهم من الشيعة، ويؤكد آخرون أن لهم ديانة سرية، ويقول آخرون إنهم من البابية، ويقول آخرون بأنهم يعترفون بنبي يسمى بابا (Baba)»[12].

ويقول عن قبيلة شيخان:

أفراد هذه القبيلة إما أن يكونوا يزيديين أو عبدة الشيطان، وجميعهم شبه رحل، ويقيمون بالقرب من شيخ عادي، والمركز الديني لليزيديين ومكان إقامة الزعيم الديني للطائفة، وهناك أيضًا زعيم دنيوي اعتاد العيش هناك، ولكنني علمت أن مكان إقامته يعد سرًا، وقد اكتسبت هذه القبيلة اسمها من الشيخ عادي، وليس هناك ما يظهر بأن لها أي رابط ماعدا رابطة الدين مع يزيدية سنجار.[13]

ثم يتطرق إلى المسار الإيماني لهم، فيذكر الأديان والمعتقدات التي آمنوا بها في السابق، ثم التحولات العقدية التي مروا بها، فيقول عن طائفة منهم أنها «اعتادت على عبادة سيف منغرس في الأرض؛ بل ويعبدون القمر والنجوم، ثم جاء شيخ يسمى (نصر الدين) من طرف الخليفة في بغداد، وأدخل الإسلام في هذه القبائل»، وقبيلة شاواك الذين «تحوّلوا مؤخرًا إلى المذهب السني»[14].

ويقول عن قبيلة درسيملي:

ويصل الأمر أحيانًا إلى أن القبيلة الواحدة تضم أديانًا وقبائل مختلفة، ويذكر سايكس في مواضع كثيرة أن ثمة تعايشًا سلميًا ومعاملة طيبة في سلوك ومعاملات الأديان والمذاهب المختلفة في بعض المناطق . وقد وجد التصوف أيضًا طريقه إلى المناطق الكردية.


أحوال المرأة ومكانتها كرديًا

وجميع قبائل درسيم هي قبائل وثنية تطلق على نفسها اسم الشيعة، ماعدا الشاواك في بعض المناطق، وقد تحققت من أمر ديانتهم فاكتشفت أنها عبارة عن مزيج من السحر وعبادة الطبيعة التي تكشف عن اعتقاد بمذهب وحدة الوجود Pantheism . وقد قابلت أحد رجال هذه المنطقة الذي حدثني قائلاً: «إني لا أعبد الله لأن الجزء لا يستطيع أن يعبد الكل».[15]

حرص سايكس في الكثير من مواضع مقاله على إيضاح أحوال المرأة ومكانتها لدى الكرد، وذلك ضمن المقدمات التي يكتبها في كل قسم حول خصائص كل طائفة وأحوالها وصفاتها وأعمالها.

فيقول عن بعض القبائل: «نساؤهم جميلات بشكل أخّاذ ويتمتعون بمقدار كبير من الحرية، حتى أن معظم نسائهم ماهرات في ركوب الخيل والرماية لدرجة تجعلهن منافسات للرجال، ولكنهن لا يقمن بأي عمل يدوي أكثر من صنع الزبد وأداء الواجبات البيتية العادية».

ويذكر عن قبيلة دزة: «معروف عنهم أنهم يتزاوجون بحرية من نساء الجبور العرب. أما نساؤهم فهن جميلات بشكل غير عادي، ويفضلن ارتداء ملابس فريدة متميزة من العمامات الزرقاء كالرجال، والثياب السوداء الثقيلة، كما أنهن لا يرتدين أي ملابس ملونة، أو أي نوع من الحلي».

وأما نساء قبيلة هركي «فهن جسورات، وقويات كالرجال»، وقبيلة هماوند: «أما نساؤهم فيشتهرن بجمالهن، ويتزوج الهماوند بحرية من العرب، ويعدّون أنفسهم من أصل عربي»[16].

وثمة قبائل تخالف بقية الكرد في السمت العام للنساء، فقبيلة درسيملي ترتدي نساؤهم الحجاب.

المراجع
  1. Mark Sykes in Venn, J. & J. A., Alumni Cantabrigienses, Cambridge University Press, 10 vols, 1922–1958
  2. مجموعة رحلات مارك سايكس إلى كوردستان المتمثلة في المقالات الأربعة، قمت بترجمتها وهي الآن قيد النشر.
  3. The Journal of the Royal Anthropological Institute of Great Britain and Ireland, Vol.38. (Jul. – Dec., 1908) , pp. 451-486
  4. Ibid, P.451.
  5. Ibid, P.472.
  6. Ibid, P.475.
  7. Ibid, P.480.
  8. Ibid, P.476.
  9. Ibid, P.477 .
  10. Ibid, P.479 .
  11. Ibid, P. 478-479 .
  12. Ibid, P. 456 .
  13. Ibid, P. 459 .
  14. Ibid, P.465- 467 .
  15. Ibid, P. 467 .
  16. Ibid, P. 456-457.